إنه ذات العنوان الذي بدأتُ به سلسلة مقالاتي عن الشهيد محمود المبحوح في يوم استشهاده في دبي في العشرين من يناير / كانون ثاني من العام 2010، وفي سلسلة المقالات التي تلت بينت أن المبحوح قتل ولم يمت، وأنه على الرغم من التقرير الطبي الأول الذي أكد إثر معاينة جثة الشهيد المبحوح أنه مات نتيجة لجلطة دماغية، وأن جسده يخلو من أي آثار عنف، أو دلائل تشير إلى أنه قتل بفعل فاعل، بالإضافة إلى تقدير الذين رأوه في غرفته مستلقياً على سريره، بملابسه الداخلية، وأدويته حوله، فضلاً عن وجود هاتفه النقال وحقيبته وبقية ملابسه وحاجاته الخاصة الأخرى، بما أوحى لمن كان في المكان أنه مات في فراشه، وأن أحداً لم يقتله أو يغتاله، وأن أحداً لم يدخل إلى غرفته إذ لا يوجد آثار فتح للباب عنوةً، كما أن بطاقة باب الغرفة الذكية كانت موجودة الغرفة، وبدا أن أحداً لم يعبث بثيابه أو أغراضه، كما أنه لم يقع بينه وبين آخرين مفترضين أي اشتباك أو محاولة للمقاومة منه، لخلو جسده من أي كدمات أو إصابات، مما دفع البعض إلى الاستعجال ونفي شبهة الاغتيال، معتبراً أن الوفاة طبيعية، ولا يوجد ما يوجب الإدعاء بأنه قتل أو اغتيل، خاصة أن البعض شهد بأنه كان يعاني من مرضٍ، وكان يتناول عقاقير طبية خاصة به، مما يجعل من كون الجلطة الدماغية سبباً مقنعاً للوفاة.
لكن هذه الوقائع الشكلية، ومحاولات التمويه المتعمدة، والقدرة الفائقة التي تميز بها المجرمون عندما دخلوا غرفته ببطاقةٍ ذكية مزورة، وكمنوا له في غرفته، وباغتوه عندما دخل، حيث تبين بعد ذلك أن الفارق الزمني بين لحظة دخوله غرفته وهي موثقة بكاميرات الفندق، وبين مفارقته للحياة لا تتجاوز العشرين دقيقة، وتبين للوهلة الأولى التي استغرقت أياماً أنهم لم يتركوا أثراً يدل على جريمتهم، أو يدل عليهم، أو ينفي عن الحادث شبهة الموت الطبيعي، الأمر الذي دفع بالبعض إلى استنكار فرضية الاغتيال، متهماً من يحاول إثبات الجريمة أنه يلوي أعناق الحقيقة، ويحاول أن يختلق نتائج مفترضة وخيالات غير واقعية، دون الاستناد إلى وقائعٍ أو أدلةٍ وشواهد مادية مقنعة.
لكن التحقيق تواصل وأخذ مجرىً آخر، وبدأت الأدلة والقرائن والشواهد والصور والوثائق والاتصالات وغيرها تظهر تباعاً، وظهر المنفذون على أجهزة التسجيل وهم يدخلون غرفة المبحوح أكثر من مرة، وشوهدوا وهم يدخلون الفندق على دفعات، فرادى وجماعات، وظهروا وهم متنكرين وأحياناً بأشكالهم الحقيقية، وبعد أيامٍ من التحقيق الذي استند في البداية على الشك، معتمداً على غياب القميص الذي كان يلبسه الشهيد لحظة دخوله غرفته، ثم تبين لاحقاً أن كل أغراضه الشخصية موجودة سوى القميص، الذي أكد قطعاً أن هناك جهة أخرى دخلت الغرفة، ونفذت عملية القتل بطريقة ذكية ومبتكرة، ولكن المبحوح الذي كان يمتاز بالقوة والجسارة والعنفوان، قاومهم في البدء، وربما صارعهم، الأمر الذي أدى إلى تمزيق قميصه، مما دفع الفاعلين إلى نزع ثيابه، وأخذ القميص الممزق معهم بعد أن تأكدوا من نجاحهم في تنفيذ العملية، ولم يكن في حسبانهم أن مئات الكاميرات قد دونت وسجلت ووثقت الكثير من حركتهم، وكان أن قاد القميص إلى أخطر وأكبر مجموعة أمنية إسرائيلية، تحمل جنسياتِ وجوازات دولةٍ غربية عديدة، وقد وصوا إلى دبي من بلادٍ عدة وفي أوقاتٍ مختلفة.
النتيجة التي لم تكن متوقعة أن التحقيق قد أفضى إلى معرفة حقيقة ما جرى، وأن المبحوح اغتيل ولم يمت، وأن جهاز المخابرات الإسرائيلي هو الذي كان يقف وراء هذه العملية الأمنية الكبيرة، والتي استلزم تنفيذها أكثر من ثلاثين شخصية من الرجال والنساء، وفضح جهاز المخابرات الإسرائيلية، وبدأت الدول الأوروبية وكندا تتنصل من المسؤولية، وطردت على الأثر عدداً من الدبلوماسيين الإسرائيليين.
الحادثة اليوم تتكرر نفسها مع الشهيد كمال غناجة، وتأخذ ذات الاشتباه بأن الوفاة طبيعية، وأن أحداً لا يقف وراء جريمة القتل، إذ وجد الشهيد يتهيأ للدخول إلى الحمام، وفي المكان آثارٌ لسجائر، وبقايا حريق بسيط لا يلفت الأنظار أدى إلى استنشاقه كمية كبيرة من غاز أول أكسيد الكربون، ما أدى إلى اختناقه ووفاته، وهذا أمرٌ طبيعي جداً وكثير الحدوث، ولكن هل أن اشتعال النار البسيطة كان نتيجةً لماسٍ كهربائي عادي، أم أنه كان عملاً مدبراً ومفتعلاً ومقصوداً، بحيث تشير الدلائل كلها إلى أن الوفاة كانت نتيجة طبيعية لاستنشاقه الغاز، حيث وجد في رئتيه كمية كبيرة من غاز أول أكسيد الكربون الخانق، وما يعزز هذه الفرضية أنه وجد في البيت أموالٌ ومستندات وأغراض شخصية لم يمسها أحد، وبقيت في مكانها حتى فتح باب الشقة، ونقل الشهيد إلى المستشفى، كما لا يوجد ما يشير إلى أن الباب فتح عنوةً، ولم يثبت أن الجيران سمعوا أصواتاً غريبة، أو فوضى تدل على عنفٍ في المكان، حيث بدا كل شئٍ طبيعياً، لا يثير شبهة ولا يلفت نظراً، علماً أن هذا النوع من الرجال المقاومين يمتازون بالحذر الشديد والحيطة الكبيرة، فلا يفتحون الباب لغريب، ولا يسمحون لمتسلل أن يدخل إليه أو يحاول الاقتراب منهم.
لم يصدر تقرير الطب الشرعي بعد من عمان أو دمشق، ولم يتم الإعلان رسمياً عن تحديد سبب الوفاة، علماً أن نتيجة تشريح جثة المبحوح استغرقت وقتاً، بل تأخرت بعض الشئ، رغم انتشار شائعة أن الوفاة كانت طبيعية ونتيجة لجلطة دماغية، ولكن النتيجة جاءت أخيراً مخالفة لكل المعاينات التي سبقت، ونافية قطعياً فرضية الموت الطبيعي، وهذا ما قد تظهره نتائج التشريح القادمة.
المبحوح قتل بعد وصوله إلى دبي بأيامٍ قليلة، وغناجة قتل بعد وصوله إلى دمشق قادماً من عمان بأيامٍ قليلة، وكلا الرجلين يعمل في ذات الملف، إذ نذرا نفسيهما للمقاومة، ومضيا حتى الشهادة في إسناد المقاومة في الداخل، وتزويد المقاومين بكل مستلزمات الصمود والقتال، وقد أدرك الكيان الصهيوني أن المبحوح الذي جاء خلفاً لسلف، لم يشغر مكانهما باستشهاده، ولم يجبن إخوانه من بعده، ولم تعقم المقاومة أن توفر بديله، فأدرك الكيان أن غيره قد تقدم ليملأ الفراغ، ويؤدي المهمة ويواصل نهج المقاومة، وليس غريباً أو صعباً أن يعرف عن الشهيد كمال جهاده ومقاومته، رغم أنه صموتٌ هادئ، لا يبحث عن الأضواء، ولا يحرص على الشهرة، ولا يعمل ليعرف، ولا يجاهد ليتقدم، ولا يحرص أن يعرف الناس قدره ودوره وفعله، فكان أن عمل في الخفاء، وثابر في السر، وحافظ على فعالية دوره سنين طويلة.
كان الأول عز الدين الشيخ خليل هو الأسبق على الطريق قد نالت منه المخابرات الإسرائيلية وقتلته، ثم نالت من المبحوح الذي لا يقل عن عز الدين قوةً وجسارة، وبينهما محاولاتٌ أخرى لغيرهما لم تنجح، أي أن الاغتيال يطال العاملين في هذا المجال، والمهتمين بشؤون المقاومة لوجستياً ومادياً، علماً أنهم يتطلعون إلى الشهادة، ولا يخافون من الموت، بل يتمنون لقاء خالقهم وهم يحملون البندقية على أكتافهم، فلماذا نستبعد أن المخابرات الإسرائيلية هي التي نفذت جريمة قتل كمال غناجة، بيديها أو بأدواتٍ أخرى، إذ أن عدم وجود دليلٍ على الجريمة هو دليل بحد ذاته على الجريمة، ووجود قرائن وأدلة على الوفاة الطبيعية هو أقوى دليل على وجود طرفٍ آخر صنع هذه الوقائع، وأوجد هذه الدلائل، وحاول إيهام المعنيين بأن الوفاة كانت بسبب الماس، خاصة في ظل انقطاع تيار الكهرباء المتكرر، وفي ظل وجود عملياتٍ أمنية أخرى مجاورة ومتزامنة، علماً أن الحرق وإن كان بسيطاً إلا أنه يخفي الكثير من الدلائل، ويطمس العديد من الشواهد، ويخلط الأمور ببعضها، إذ أنه نفسه يخلق آثاراً مخالفة، ويغير المعالم التي كانت، بما يجعل من الحسم واليقين أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً، ميسراً وجوه الاشتباه الكثيرة وأشكال الظن البعيدة عن الحقيقة.
لا استبعاد أبداً لفرضية القتل المقصود والمتعمد، فالأشياء المتشابهة تتعاضد، والشخصيات المتشابهة تتكرر، والعدو الذي يقصد ويتابع ويرصد ويعلن عزمه على التنفيذ واحد، والمعركة معه مستمرة ولم تتوقف، فلا ينبغي تبرئته من الجريمة، ولا يجوز استبعاده من دائرة الاتهام، إذ لا متهم غيره، ولا مستفيد سواه، ولا حريص على الغياب إلا هو، فمن الخطأ تبرئته، والبحث عن مستفيدٍ آخر من الجريمة، وإن غابت الشواهد وانعدمت القرائن، فبصمات الكيان الصهيوني تبقى بادية بوضوح في كل الجرائم الأمنية التي تطال شعبنا وأبناء أمتنا، جديدها وقديمها، وهو لا يتوقف عن التهديد والوعيد، وقد أبدى فرحه بمقتل غناجة، وابتهج لغيابه، وأظهر الكثير من الشماتة لما أصابه.
على المهتمين بالشأن متابعة التحقيق ومواصلة الاستقصاء، وعدم إهمال الحوادث التي سبقت، والجرائم التي وقعت، وألا يجرفهم الإعلام وبريقه الأخاذ وتقنيته الحديثة السهلة، نحو مغالطاتٍ قاتلة، وتصريحاتٍ باطلة لا تخدم سوى العدو، ولا تنفع غير المنفذين، بما قد يكرر الجريمة ضد آخرين، وبما يضعف المقاومة ويوهن عزمها، ولكن المجرم مهما بلغ في ذكائه وحرصه، فإنه سيترك خلفه دليلاً يدل عليه، ويقود إليه، وكما فضح المبحوح قاتليه وهو شهيد، فإن الأيام القادمة ستفضح قاتلي غناجة وإن تأخر الزمن، فمن حمل روحه على كفه وجاهد، فإن الله لن يتره عمله، ولن يضيع جهده، وسيختاره من بيننا شهيداً، فهذا وعد الله له بأن ينتقيه من بيننا، وأن يصطفيه من خيارنا، "ويتخذ منكم شهداء".
30/6/2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت