وأخيرا انفض سامر ما أطلقوا عليها تسمية "المصالحة"، وهي التي لم تكن لترقى حتى إلى مستوى "صلحة عشائرية"، ففي السياسة لا صلح ولا مصالحات؛ إنما تنبني العلاقات السياسية البينية أو الجماعية التعددية، على التوافق أو التنافس أو الصراع، أو أي شكل من أشكال التواصل أو التفاصل (القطيعة)، لهذا ليس في السياسة ما يمكن توصيفه بالمصالحة، في السياسة هناك مصالح وتسويات تميل اليوم إلى هذا الطرف، وفي وقت آخر قد تميل إلى الطرف الآخر، إنما ليس هناك ما يمكن توصيفه بوحدة الرؤى بين أطراف تتصارع على السلطة وتتنافس عليها، بغض النظر عن طبيعة القضية أو القضايا محل التصارع أو التنافس؛ وفي الحالة الفلسطينية تحديدا، هناك سيادة عليا لأوهام قاتلة، عملت على تقاسم الشعب والمجتمع الفلسطينيان فئويا وفصائليا وأهلويا، على الرغم من الشتات المقيم والقائم؛ توزيعا للقوى والناس بين الداخل والخارج.
من كليات وتفاصيل هذا الوضع يمكن الاستنتاج أن المشكلة الأساس والجوهرية، التي يعانيها النظام السياسي الفلسطيني بكامل قواه واتجاهاته، أنه لم يعد له علاقة بالسياسة كنطاق اشتغال إستراتيجي ذات آفاق بعيدة المدى، بعد تماهيه والتحاقه بأشكال هيمنة الأنظمة السلطوية في الفضاء العربي، وكل همه واهتماماته تنصب على مسألة أو مسائل الهيمنة السياسية، وتكريس سلطته في مجتمع يتشظى، وتنقسم قواه على وقع انقسامات سياسية وجغرافية، باتت سمة فارقة لوضع وطني فلسطيني منقسم على ذاته، انعكس وينعكس تباعدا وتنافرا في نظام سياسي إشكالي، لم يتشكل مرة واحدة أو دفعة واحدة، كانت البداية في أعقاب توقيع اتفاقات أوسلو، وتشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية، أما في المرة الثانية فهي الفترة التي أعقبت انتخابات العام 2005 التي فازت بها حركة "حماس"، بكل تداعيات الانقلاب والانقسام الذي فرض أطروحاته في الوضع الوطني الفلسطيني، بما باتت عليه المصالح المتضاربة، بل المتناحرة لقوى النفوذ والهيمنة الفصائلية والفئوية التي استحالت استعصاء جديا لمصالحات لن تتم، ولمشاريع إعادة توحيد لم يعد بالإمكان إنجازها في ظل تباعد وتنافر أجنحة النظام السياسي الفلسطيني، الآخذ في تبديده لذاته الوطنية، على مذبح تأكيده لذاته الفصائلية والفئوية.
ولهذا يستمر الانقسام، وسوف يبقى هو السمة الغالبة لتكتيكات الصراع التنافسي على سلطة سياسية أرساها النظام السياسي الفلسطيني على أرضية ليست ثابتة، بفعل اتفاقات ملغومة قابلة للتفجير في كل لحظة، حيث أراد الطرف الأقوى على طاولة أوسلو أن يستمر في التحكم بها، كلما أراد توظيفها واستثمارها لمصلحته، لهذا يستمر هذا الاهتزاز الانقسامي، لا على خلفية أي بند من بنود البرنامج السياسي، الإستراتيجي أو التكتيكي، بل على خلفية المآلات السلطوية والمكتسبات والمنافع التي كرسها واقع الانقسام والتخاصم بين معسكرين؛ لم يعد هناك تمايزات كبرى بينهما على صعيد أي بند من بنود برنامجيهما؛ داخليا أمام جبهة الصراع وإدارته مع إسرائيل، وإقليميا أمام وضع عربي يتدهور وينزوي في ركن صراعات على السلطة وحراكات شعبية في كل ما اصطلح على تسميتها ببلدان "الربيع العربي"، بدءا من مصر إلى تونس إلى سوريا ولبنان واليمن وليبيا، وكل مواقع مؤهلة للانفجار شعبيا ضد أنظمة استبداد سلطوية، كل ما يهمها هو استمرار هيمنتها على السلطة في بلدانها. والوضع الفلسطيني واحد من تلك البلدان التي أضاعت مكتسباتها السياسية في ظل زلزال تواصل ارتداداته الاهتزاز، ما غيّر وسوف يغير الكثير من معادلات السياسة وطبيعة القوى المهيمنة، الأمر الذي سوف يهدد مستقبلا وربما على الدوام؛ طبيعة إدارة الصراعات في هذه المنطقة، التي سيبقى استقرارها يهتز على وقع تغيرات وتحولات لم ترس مآلاتها بعد، في ظل ملامح طور جديد من حرب باردة، أكثر شراسة ودموية في الدفاع عن حزمة المصالح الإستراتيجية المهددة، لكل أطراف الصراع المحلي والإقليمي والدولي.
وإذا كان لأي اتفاق أن يعالج واقع السلطة ونظامها السياسي المنقسم على ذاته، وآراء ورؤى أطرافه، بل طرفاه الأساسيان: فتح وحماس، إزاء الانتخابات والتشكيلة الحكومية المقبلة، فما هي الأطر الكفيلة بمعالجة واقع وضرورة وجود برنامج سياسي منسجم ومتماسك، لحركة وطنية فلسطينية منسجمة على أهداف تحرر وطني لم تُنجز بعد، ويتفق الجميع على تحديد تكتيكات الوصول إلى تطبيق الإستراتيجية الموحدة للوطنية الفلسطينية، التي يجري للأسف تجاهل كونها المعيار الرئيس والأساس لأي برنامج سياسي وتنظيمي، يجمع الفلسطينيين حوله، ويوحّدهم على قاعدة وطنية تحررية صلبة، تستجيب لتطلعات حلم التحرر الوطني، بعيدا من أوهام التقاسمات التحاصصية، والمصالح والمنافع الفئوية والفصائلية التي انحطّت بالوضع الوطني الفلسطيني، ولم تستطع الارتفاع به إلى مستوى يليق به.
لقد حمل النظام السياسي الفلسطيني بذور انقساماته في مجموع السياسات التي اتبعها منذ إنشائه، ما انعكس تنظيميا على قواه تفكيكا لها كذلك، ولم يكن قطوع انقلاب حركة حماس وسيطرتها على قطاع غزة، سوى المعلم البارز لمعالم انفجار السياسي والتنظيمي لأطر العلاقة التي حكمت مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني، الانفجار الذي باعد بين برامج سياسية باتت متناحرة، وهياكل تنظيمية باتت عاجزة عن استيعاب حالة الهلام التي آلت إليها الحركة الوطنية الفلسطينية ونظامها السياسي، العاجز عن تأطير وتمثيل كامل الوضع الوطني الفلسطيني، في الداخل وفي الشتات.
إن هذا الإصرار على التأجيل الدائم لحفلات زار "المصالحة"، والتهرّب من استحقاقات استعادة وحدة النظام السياسي، يعكس إصرارا على المضي بمشروع الانقسام السياسي والجغرافي حتى النهاية؛ نهاية انقسام الإرادة السياسية للوطنية الفلسطينية الموحدة، وإيقاع أكبر الأضرار الممكنة بالمشروع الوطني الموحد، ومواجهة مهام التحرر الوطني وإنهاء الاحتلال، واستبدال كل تلك الأهداف الدنيا والعليا، بأدنى من هدف إقامة "سلطة بديلة" لسلطة لم تفلح في الحفاظ على هيكلية موحدة لها، في مواجهة مهامها هي التي أنشئت من أجلها، لا من أجل مشروع التحرر الوطني بآفاقه الأرحب. فهل يمكن لتعايش البرامج السياسية – بحسب القيادي في "حماس" د. محمود الزهار – أن ينجز أيا من "ملفات المصالحة" الخمس التي لم يجر فيها أي تقدم حتى الآن؟.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت