إننا في هذه الأيام نستعدُّ لاستقبالِ شهرِ رمضان، مودِّعين شهرَ شعبان، نودِّع أيامًا فنتذكرُ ما اقترفناه فيها من سيئات فنستغفر الله ونتوب، وما كسبناه فيها من الصالحات فندعو الله أن يزيدنا منها ويتقبلَها ويبارك لنا فيها.
أما استقبالُ شهرِ رمضان؛ فيقتضي الاستعدادُ له بما يليقُ به، ويحسنُ لملاقاته، فلا يليقُ ولا يحسُنُ استقبالُه بالمنازعاتِ، وكثرة القضايا والاختلافات.
أقبلَ رمضانُ والمصالحةُ بين الإخوةِ تراوحُ مكانها، وتوضَعُ العراقيلُ أمامَها، ويَسبقُ بالبكاءِ والشكوى من وضعها، وسلسلةُ التسويفِ والتأجيلِ والتأخيرِ يسارعُ الكُتَّاب والصُّحُفيُّون في تدوينها وتسجيلها، ثم تقوم وسائل الإعلام بنشرها وتدويلِها، وتستقبلُها أبصارُ الناسِ بتلهُّف، وتُصَبُّ في أسماعِهم دون توقُّف، فضعُفَ الأملُ في قلوب المواطنين، وضاعَ الرجاءُ من صدورِ المشاهدين، ولم يبق لهم إلا رحمةُ أرحمِ الراحمين، الذي قال في كتابه المبين: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1).
فالمفسدون؛ الهلاكُ منهم قريب، والمصلحون هم الناجون، {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ* وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 116، 117). عباد الله فكونوا من المصلحين، {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} (الشعراء: 151، 152)، كونوا من المصلحين ولا تكونوا من الذين {.. إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11، 12). {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف: 55، 56).
ألا واعلموا أنَّ {.. مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ* وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (البقرة: 204- 206).
أما في النهاية يومَ القيامة، فـ{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص: 83).
إنَّ رمضانَ لا يُسْتقبَلُ بالمعاصي والخطايا والسيئات، ولا بالمسرحيات والتمثيليات، وما تستقبله أجهزتُنا البيتيَّةُ؛ من إذاعاتٍ مسموعةٍ أو مقروءةٍ أو مرئيَّة، وما يذاعُ فيها من طاعةٍ للشيطان الرجيم، وما يشاعُ فيها من مخالفةٍ سافرةٍ لشريعة الرحمن الرحيم سبحانه.
إن تجَّارَ الجنسِ وبائعي الفواحشِ ومروِّجي الرذائل؛ حوَّلوا هذا الشهرَ إلى هزٍّ ورقصٍ وميوعة، ومجونٍ وخلاعة، روَّجوا فيه أفلامَهم وتمثيلياتِهم الساقطة، ومسرحياتِهم وأغانيَهم السافلةَ الهابطةَ، فضاعَ زمانُ العبدِ ومكانُه، وعبادتُه وصلاتُه وقرآنُه، وأصبحَ رهينةَ قيودِ شيطانِه. «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ؛ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ». مسلم (2657).
إنَّ شهرَ رمضانَ ليسَ لتخزينِ عُلَبِ الدخَّانِ، وأكياسِ التِّتِن والتبغ، وما يحتاجه الغليون والشيشة، في غرفةٍ أو خُصٍّ أو عريشة، وإنما شهرُ رمضانَ فرصةٌ للإقلاعِ عن هذه العادةِ القبيحةِ في منظرها، المنتنةِ في رائحتها، المهلكةِ لصحة متعاطيها، ومالِه ودينِه، قال ابن رجب الحنبلي: [وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسْكِرَ الْمُزِيلَ لِلْعَقْلِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ فِيهِ لَذَّةٌ وَطَرَبٌ، فَهَذَا هُوَ الْخَمْرُ الْمُحَرَّمُ شُرْبُهُ،... وَالْمُفَتِّرُ: هُوَ الْمُخَدِّرُ لِلْجَسَدِ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى حَدِّ الإِسْكَارِ =قلت: كالدخان والشيشة والغليون=. وَالثَّانِي: مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ وَيُسْكِرُ، لا لَذَّةَ فِيهِ وَلا طَرَبَ، كَالْبِنْجِ وَنَحْوِهِ،.. فإِنْ تَنَاوَلَهُ لِحَاجَةِ التَّدَاوِي بِهِ، وَكَانَ الْغَالِبُ مِنْهُ السَّلامَةَ جَازَ،..] جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (2/ 464). وقال ابن عبد البر: [وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: كُلُّ مُسْكِرٍ وَكُلُّ مُخَدِّرٍ حَرَامٌ، وَالْحَدُّ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ شَرِبَ شَيْئًا مِنْهُ]. الاستذكار (8/ 24).
[... فإذا كنت مدخِّنًا، أو مبلتىً بالنظر =إلى النساءِ وصورِهنَّ=، أو الوسوسةِ أو العشق، فبادرْ إلى =البعد عن= كلِّ هذا البلاءِ، وابدأ العملَ الجادَّ في شهر رمضان، ولا تتذرَّعْ بالتدُّرجِ..، بل اهجر الذنبَ، وقاطع المعصيةَ، وابتُر العادة...
إنَّ شهرَ رمضانَ فرصةٌ سانحةٌ لعلاجِ الآفات، والمعاصي والعادات، إنه شهرُ حِمْيةٍ وامتناعٍ، عن شهوات الطعام =والشراب= والجماع، والشهواتُ مادةُ النشوز والعصيان، ... فـ«.. رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، ..». سنن الترمذي (3545)..
يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (آل عمران: 135، 136)، ...]. أهـ القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان بتصرف
كذلك لا ينبغي استقبالُ شهرِ الطاعةِ والعبادةِ؛ بتكديس أنواع الشراب والطعام، مما يصلُ إلى حدِّ الإسرافِ والتبذير، ثم عندما يزيدُ عن حاجتِنا ونستغني عنه نلقيه في مجمع النفايات، فيختلط بالمزابل والنجاسات، وهذا من كفران النعم، فيوشك أن تُسلَب وتذهب، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31).
كَانَ عُمَرُ رضي الله تعالى عنه، يَكْتُبُ إِلَى أُمَرَائِهِ: (لا تَكُونُوا مِنَ الْمُسْرِفِينَ بِفِطْرِكُمْ، وَلا تَنْتَظِرُوا بِصَلاتِكُمُ اشْتِبَاكَ النُّجُومِ). مصنف ابن أبي شيبة (2/ 277، رقم 8946).
وعَنْ قَيْسٍ، قَالَ: نَاوَلَ عُمَرُ رَجُلاً إِنَاءً إِلَى جَنْبِهِ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ لَهُ: (اشْرَبْ)، ثُمَّ قَالَ: (لَعَلَّكَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ بِفِطْرِهِ, سَرَفٌ، سَرَفٌ). مصنف ابن أبي شيبة (2/ 278، رقم 8958).
وعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَقَالَتْ لَهُ: (يَا سَيِّدِي! وَهَبَتْ لِي بَعْضُ جَارَاتِي بَيْضَةً، فَحَضَنْتُهَا تَحْتَ ثَدْيَيَّ حَتَّى خَرَجَتْ فَرُّوجَةٌ، فَغَذَوْتُهَا بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ حَتَّى بَلَغَتْ، وَقَدْ ذَبَحْتُهَا وَشَوَيْتُهَا، وَكَفَّنْتُهَا بِرقَاقَتَيْنِ، وَجَعَلْتُ للَّه عَلَيَّ أَنْ أَدْفِنَهَا فِي أَكْرَمِ بُقْعَةٍ فِي الأَرْضِ، وَلا أَعْلَمُ وَاللَّهِ بُقْعَةً أَكْرَمَ مِنْ بَطْنِكَ، فَكُلْهَا). فَقَالَ: (يَا بُدَيحُ! خُذْهَا مِنْهَا، وَامْضِ؛ فَانْظُرْ إِلَى الدَّارِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ لَهَا؛ فَاشْتَرِ لَهَا مَا حَوْلَهَا مِنَ الدُّورِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا؛ فَاشْتَرِهَا وَاشْتَرِ لَهَا مَا حَوْلَهَا). فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: (قَدِ اشْتَرَيْتُ الدَّارَ لَهَا وَمَا حَوَالَيْهَا)، فقال: (احمل لها على ثلاثينَ بعيراً حِنْطَةً وَشَعِيرًا، وَأَرْزًا وَزَبِيبًا وَتَمْرًا، وَدَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ). قَالَتِ الْعَجُوزُ: لا تُسْرِفْ، {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لأبي الفرج بن الجوزي (6/ 215)، ومنتقى من أخبار الأصمعي للربعي (ص: 164، رقم 2).
[وَكَانَ يُقَالُ: (الاقْتِصَادُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَسَنٌ, حَتَّى فِي الْمَشْيِ وَالْقُعُودِ). .. ويُقَالُ: (فَقِيرٌ مُسَدَّدٌ أَفْضَلُ مِنْ غَنِيٍّ مُسْرِفٍ, وَمَا كَثُرَ مَالُ رَجُلٍ قَطُّ إِلاَّ أَحْدَثَ كِبْرًا, وَمَا قَلَّ إِلاَّ زَالَ عَنْهُ مَا هُوَ فِيهِ)... ويُقَالُ: (حُسْنُ التَّدْبِيرِ مَعَ الْكَفَافِ, خَيْرٌ مِنَ الْكَثِيرِ مَعَ الإِسْرَافِ). إصلاح المال (ص: 70، رقم 195- 197).
إنَّ رمضانَ موسمٌ من مواسم الخيرات، وزمنٌ لنـزول البركات، ففيه تُغْتَنمُ الصالحات، ويستكثرُ العبدُ المؤمنُ من الحسنات، ويتعاطى أسبابَ محوِ الخطايا، وغفرانِ السيئات.
فلا بدَّ من التعرض لهذا الموسم العظيم؛ بمضاعفةِ فعلِ الخيرات، فمن يدري؛ لعلَّ العبدَ ينتهي أجلُه في رمضان، فيختمُ له بخير، أو يختم له بالحرمان، عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ مِنْ عَمَلِ يَوْمٍ إِلاَّ وَهُوَ يُخْتَمُ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَرِضَ الْمُؤْمِنُ، قَالَتِ الْمَلائِكَةُ: يَا رَبَّنَا، عَبْدُكَ فُلانٌ قَدْ حَبَسْتَهُ، =أي منعته عن العمل والطاعة= فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: اخْتِمُوا لَهُ عَلَى مِثْلِ عَمَلِهِ حَتَّى يَبْرَأَ أَوْ يَمُوتَ" مسند أحمد ط رسالة (28/ 553، رقم 17316)، المعجم الكبير للطبراني (17/ 284، رقم 782)، انظر الصحيحة (2193).
مواسمُ وأيامٌ تأتي وتذهبُ ولن تعودَ أبداً، َكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: (ابْنَ آدَمَ! الْيَوْمُ ضَيْفُكَ، فَالضَّيْفُ مُرْتَحِلٌ، يَحْمَدُكَ أَوْ يَذُمُّكَ، وَكَذَلِكَ لَيْلَتُكَ). الزهد لابن أبي الدنيا (ص: 187، رقم 428).
وليس المعنى أن يُهلِكَ العبدُ نفسَه بالعبادة، فيكلِّفُها بما لا تطيقه، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، قَالَ: «مَنْ هَذِهِ؟!» قَالَتْ: فُلاَنَةُ! تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا، قَالَ: «مَهْ! عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا» وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. صحيح البخاري (43)، ومسلم (785). فهذه المرأة شدَّدت على نفسها بالصلاة، فنصحَها صلى الله عليه وسلم أن تصليَ طاقتَها، وقدرتَها واستطاعتَها.
وهذا أحدُ الصحابة رضي الله تعالى عنهم يشدِّد على نفسه بالصيام قائما في الشمس، فيلومُه صلى الله عليه وسلم، فبَيْنَمَا هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فِي الشَّمْسِ فَسَأَلَ عَنْهُ؟ قَالُوا: (هَذَا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ، وَلا يَقْعُدَ، وَلا يَسْتَظِلَّ، وَلا يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ)، قَالَ: «مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ». سنن أبي داود (3300).]. لطائف المعارف لابن رجب (ص: 244).
وقد ذمَّ الله سبحانه التنطُّعَ، ونهى عن الغلوِّ فقال: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ} (النساء: 171) .
ويكون الغُلُوُّ في الوصال في الصيام، فقد نهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحابة عن عنه فقال: «لاَ تُوَاصِلُوا» ، قَالُوا: (إِنَّكَ تُوَاصِلُ)، قَالَ: «إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي»، فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنِ الوِصَالِ، قَالَ: فَوَاصَلَ بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَيْنِ أَوْ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلالَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ تَأَخَّرَ الهِلاَلُ لَزِدْتُكُمْ»؛ كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ. صحيح البخاري (7299)
ويكون الغلوُّ في حصا الجمرات في الحج، فلا تكون كبيرة تؤذي، ولا صغيرة تطير في الهواء، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: «هَاتِ، الْقُطْ لِي» فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ، قَالَ: «بِأَمْثَالِ هَؤُلاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ». سنن النسائي (3057)، وابن ماجة (3029).
ويكون الغلوُّ في ترك فعل ما ترخَّص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا تَرَخَّصَ فِيهِ، وَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً». صحيح البخاري (7301).
والغلوّ قد يكون في التوحيد، فنحن منهيون عنه، ومنه الإطراءُ وتجاوزُ الحدِّ في المدح للأشخاص ولو كانوا صالحين أو أنبياءَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، سَمِعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ عَلَى المِنْبَرِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ». البخاري (3445)، فالمدح الزائد مذموم، خصوصا إن كان في حضور الممدوح، ويخشى عليه من الافتتان، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا مِنْ رَجُلٍ، بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَفْضَلُ مِنْهُ فِي كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ». مِرَارًا يَقُولُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ؛ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلانًا، إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَلا أُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا". مسلم (3000). وفي رواية: .. سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي الْمِدْحَةِ، فَقَالَ: «لَقَدْ أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ». مسلم (3001).
إذا كان هذا التحذير في المدحِ وذكرِ صفاتِ الخير، فكيف بالغيبةِ والنميمة؟؟! قال اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (الحجرات: 12).
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ» ثُمَّ قَالَ: «بَلَى! أَمَّا أَحَدُهُمَا؛ فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ»... البخاري (1378). فالعذاب للنمام والمغتاب في قبره قبل الآخرة.
قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ». مسلم (2589).
ومن أقبح الغيبة قول الزور وشهادة الزور، فـ«مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» سنن أبي داود (2362).
والغيبة كما تكون بالقول والكلام والعبارة؛ كذلك تكون بالحركة والإشارة، قَالَتْ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا)، .. تَعْنِي قَصِيرَةً، فَقَالَ: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ» قَالَتْ: (وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا)، فَقَالَ: «مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا». سنن أبي داود (4875)، وانظر رقم (5515) في صحيح الجامع. [قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمِنَ الْغِيْبَةِ الْمُحَرَّمَةِ؛ الْمُحَاكَاةُ بِأَنْ يَمْشِيَ مُتَعَارِجًا، أَوْ مُطَأْطِئًا رَأْسَهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْهَيْئَاتِ..]. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 3048).
وهذا نداء من رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ! لا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ» سنن أبي داود (4880)، وانظر رقم : (3078) في صحيح الجامع.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الرِّبَا وَعَظَّمَ شَأْنَهُ، فَقَالَ: «إِنَّ الدِّرْهَمَ يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنَ الرِّبَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْخَطِيئَةِ مِنْ سِتٍّ وَثَلاثِينَ زَنْيَةً يَزْنِيهَا الرَّجُلُ، وَأَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ». ذم الغيبة والنميمة لابن أبي الدنيا (ص: 17، رقم 37) انظر صحيح الترغيب (3/ 49، رقم 2831).
أيها المسلمون! لا تغتابوا ولا تسمحوا لأحد يغتاب عندكم وفي مجالسكم، بل دافعوا عن إخوانكم الغائبين، وذبوا عن أعراضهم، فقد قال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ؛ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ القِيَامَةِ». سنن الترمذي (1931)، صحيح الترغيب (3/ 53، رقم 2848)
فلنحذر من مثل هذه المخالفات، ولنتق الله عز وجل في أعمارنا عامة، وفي زمان الرحمة والبركة والخير خاصة. و«كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ». سنن الترمذي (2499)، صحيح الترغيب والترهيب (3/ 121، رقم 3139) فاستغفروا الله أيها المسلمون، وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
أيها الناس! علينا الاستعدادُ لاستقبالِ هذا الشهر الكريم، بمزيد من الإخلاص والأعمالِ الصالحات، ونبذِ الفرقةِ والخصامِ والمنازعات، ونتوجَّهَ بقلوبنا إلى الله سبحانه لإتمام المصالحة بين المختلِفِين، في شطري الوطن بفلسطين، من أبناء وطننا وأمتنا، حتى لا يشتدَّ الحصارُ على أهلنا المحرومين، ويزدادَ الفساد في غيابِ الصلحِ والإصلاح، ويطمعَ بفرقتنا أعداؤنا ويفرحون، وما دمنا كذلك متفرقين فنحن ننتقل من ضعف إلى ضعف، ونهوي من وهن إلى وهن، وصدق رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القائل: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»، فَقَالَ قَائِلٌ: (وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟!) قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، فَقَالَ قَائِلٌ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الْوَهْنُ؟!) قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ». سنن أبي داود (4297) الصحيحة (958).
فعلينا أن نغتنمَ أيامَ شهر رمضانَ ولياليَه في الطاعات، والصلحِ والإصلاح، وتركِ المعاصي والمنكرات، وأن نتعرَّضَ لنفحات الله الليلية عند السحر، في آخر الليل وقبيلَ الفجر، ونتضرعَ إلى ربنا الرحمن الرحيم؛ فلنندمْ ولنتُبْ، وإلى ربنا نعود ونؤوب، ونستقبلَ رمضانَ بصحائفَ بيضاءَ، وقلوبٍ نقيَّة، وصدورٍ للعبادةِ منشرحةٍ تقيَّة، فقد ثبت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، كُلَّ لَيْلَةٍ، فَيَقُولُ: مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ" فَلِذَلِكَ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ صَلاةَ آخِرِ اللَّيْلِ عَلَى أَوَّلِهِ. سنن ابن ماجه (1366)، صحيح الجامع (836).
بقلم / الشيخ فؤاد يوسف أبو سعيد
نائب الرئيس العام للمجلس العلمي للدعوة السلفية بفلسطين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت