في أعقاب نكسة حزيران عام 1967م، واحتلال إسرائيل لما تبقى من فلسطين التاريخية، وأجزاء من الأراضي العربية، انكشف ضعف الأنظمة العربية آنذاك، وعجزها عن تحرير فلسطين فضلاً عن فشلها هي نفسها في حماية أرضها، فأصيبت الكرامة العربية بجرح غائر، فأبى الأحرار من شعبنا العربي الفلسطيني إلا الإنتصار للأمة عربية و للحق الفلسطيني، فبرزت المقاومة الفلسطينية، التي عبرت عن الهوية الوطنية الفلسطينية، وقرر شعبنا أخذ زمام المبادرة من العرب، وتحمل مسئولية تحرير فلسطين.
وهكذا جاءت انطلاقة جبهة النضال الشعبي الفلسطيني كبارقة الأمل، و بصيص النور الذي شع بعد هزيمة العرب في 5 حزيران 1967م. فبعد أربعين يوماً فقط، وفي الخامس عشر من شهر تموز من العام نفسه، و في ظل أجواء الهزيمة و الإنكسار التي خيمت على المنطقة بأسرها ، أعلن المؤسسون الأوائل لجبهة النضال الشعبي استقلال النضال الوطني الفلسطيني من مدينة القدس قلب فلسطين النابض، ومن هؤلاء المناضلين صبحي غوشة، و فايز حمدان "الرائد خالد"، و خليل سفيان "أبو الحكم"، و سمير غوشة، وإبراهيم الفتياني، ومصطفى وزوز، وخالد الخروف وغيرهم.
خطت الجبهة بيانها السياسي الأول في يوم انطلاقتها، فعبرت فيه عن فهمها للصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، و إيمانها بقدرة الجماهير على تحقيق الانتصار من خلال حرب الشعب طويلة الأمد، ودعت فيه إلى رفض الاحتلال الإسرائيلي ومقاومته، وقاد مناضلو الجبهة المظاهرات الشعبية ضد الاحتلال، وحرضوا الجماهير الفلسطينية على مقاطعة العدو مما ألحق بالاحتلال خسائر فادحة في كافة المجالات.
ولم تتأخر انطلاقة العمل العسكري المقاوم للاحتلال، فأعلنت جبهة النضال الشعبي الفلسطيني عن تنفيذ أولى عملياتها العسكرية في الرابع والعشرين من شهر كانون الأول من العام 1967م، و لم تلبث الجبهة أن زادت من نشاطها على صعيدين: الأول المقاومة الشعبية السلمية، والثاني المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، فإلتفت الجماهير الفلسطينية حول الجبهة واحتضنت مناضليها، وتاريخ النضال الفلسطيني حافل بالعمليات البطولية التي نفذها مناضلو الجبهة ضد الاحتلال، وفقدت الجبهة و جماهير شعبنا خلال مسيرة النضال الطويلة خيرة المناضلين الذين ارتقوا شهداء أثناء تأديتهم واجبهم الوطني والقومي، وقدمت الآلاف من الأسرى والجرحى الذين لم يبخلوا ببذل الغالي والنفيس في سبيل حرية الشعب وكرامة الوطن.
وترتب على فعالية الجبهة وزخم نشاطها السياسي وتطور عملياتها العسكرية النوعية، أن شددت قوات الإحتلال الإسرائيلي من ملاحقة مناضليها واستهدافهم بالاغتيالات والاعتقالات، فانتقل مركز عمل الجبهة إلى حدود الوطن في دول الطوق، لإنشاء قواعد عسكرية لتدريب أعضاؤها ومناضليها على المقاومة المسلحة، وجمع المعلومات عن العدو والتخطيط لضربه، والعمل على توفير السلاح لمواصلة الكفاح المسلح ضد الاحتلال.
بدأت الجبهة في بداية عام 1968 بتشكيل مجموعات عسكرية ومراكز تدريب في الأردن، وبزيادة نموها أصبح لها قواعد عسكرية ومراكز للتدريب وميليشيات شعبية في مخيمات اللاجئين والمدن الأردنية وعددا من الأقطار العربية. وأخذت الجبهة بالانتشار الواسع في تجمعات شعبنا الفلسطيني في فلسطين وفي الشتات، وفي العديد من الأقطار العربية- الأردن- العراق- سوريا- لبنان- ليبيا- الجزائر- اليمن- الخليج- تونس، وفي عدد من دول العالم. وقامت الجبهة بتطوير قدراتها العسكرية بحيث أصبح لديها قوات عسكرية محترفة مسلحة بأسلحة حديثة، مما ساهم في تعزيز عملها العسكري داخل الوطن المحتل، وحماية الثورة الفلسطينية فشارك مناضلو الجبهة في تحقيق أول انتصار للمقاومة الفلسطينية على جيش الاحتلال الإسرائيلي في معركة الكرامة عام 1968م، حيث استشهد في تلك المعركة العديد من مقاتلي الجبهة منهم فايز حمدان "الرائد خالد" الذي استشهد في غارات القصف الإسرائيلي التي استهدفت قاعدة القدس إحدى مواقع الجبهة في أحراش السلط الأردنية في أغسطس 1968.
وفي سياق العمل الوطني والقومي للجبهة عملت مجموعات منها على حماية الرادار المصري في منطقة الشوبك الأردنية قرب مدينة الكرك، وهو الرادار الذي كان يؤمن تغطية للطيران المصري أثناء عملياته فوق شمال شرق سيناء وجنوب فلسطين، حيث شكل مقاتلي جبهة النضال طوقاً من الحماية الأرضية المحيطة بالرادار تحسباً من عملية إنزال إسرائيلية متوقعة. وعبر علاقة التنسيق بين الجبهة ومصر في عهد الرئيس عبد الناصر، لعبت جبهة النضال دوراً فاعلاً في تنفيذ عملية تدمير السفينة الإسرائيلية إيلات عام 1969، عندما عملت الجبهة على توفير عمليات الاستطلاع الدائم عبر مجموعات تابعة لها، وفي تأمين الإقامة لمجموعة الضفادع البشرية المصرية في إحدى قواعدها جنوب الأردن، وفي المرحلة التالية بإيصال أعضاء المجموعة حتى شاطىء الازدلاف في خليج العقبة.
ومع بدايات العام 1969 كانت جبهة النضال قد شكلت ركيزة جيدة نسبياً من الحضور العسكري والتنظيمي في الساحة الأردنية، فساهمت في رفع زخم العمل المسلح، وفي المشاركة بالدفاع عن المقاومة في أحداث الأردن. وكان الدكتور سمير غوشة في عداد آخر المجموعات الفدائية التي خرجت من الأردن عام 1971 بعد أن حوصرت في أحراش جرش، وهي تلك المجموعات التي ولجت إلى الأراضي السورية، فأعادت تركيز بعض منها على امتداد الهضبة السورية المحتلة، وانتقل بعضها الآخر إلى الساحة اللبنانية. حيث أعادت جبهة النضال بناء قواتهاالعسكرية جنباً إلى جنب مع فصائل المقاومة الفلسطينية .
تمكنت الجبهة من توسيع دائرة علاقاتها مع عمقها العربي فزودتها سوريا بالعتاد، وساعدتها على افتتاح أول قاعدة عسكرية لها في غوطة دمشق (بلدة جسرين) ومكنتها من نشر مجموعاتها الفدائية على امتداد هضبة الجولان، وحصلت على الدعم المالي من العراق. وبحكم علاقاتها الجيدة مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، تمكنت الجبهة من إيفاد دفعتين من فدائييها إلى مصر، حيث أنجزت إحداها دورة عسكرية خاصة في معسكر حلمية الزيتون، بينما أنجزت دورة صاعقة ثانية تحت إشراف وتدريب الجيش المصري في معسكر أنشاص في مصر. وأقامت الجبهة علاقة تنسيق عالية مع قوات التحرير الشعبية التابعة لجيش التحرير الفلسطيني بقيادة العقيد عبد العزيز الوجيه، والعقيد بهجت الأمين، والعقيد سمير الخطيب. وأخذت الجبهة تقوم بعملياتها العسكرية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي بالتنسيق مع قوات التحرير الشعبية.
وبعد العام 1975 توطدت العلاقة الخاصة بين الجبهة وكل من ليبيا والعراق، فحصلت على دعم مالي وتسليحي ساعدها في تطوير قدراتها وإمكانياتها العسكرية، مما مكنها من التصدي للهجمات الإسرائيلية على مواقع الثورة في لبنان والمشاركة في كافة معارك الثورة جنباً إلى جنب مع باقي فصائل العمل الوطني، فكان لها دور متميز في القتال في اجتياح 1978 واجتياح 1982. وقد ساهمت الجبهة بشكل فاعل في العمليات العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي بعد خروج قوات الثورة من بيروت جنبا إلى جنب مع المقاومة الوطنية اللبنانية. وكذلك في معارك تحرير جبل لبنان والدفاع عن المخيمات الفلسطينية في لبنان حيث سقط في تلك المعارك العديد من الشهداء والجرحى.
وتجسيداً لاستراتيجية الجبهة التي اعتمدتها وهي حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد كانت بنيتها التنظيمية تتشكل من: التنظيم العسكري السري الذي كان يضم أعضاء الجبهة الذي يعملون في الوطن المحتل، والمقاتلون في قواعد الجبهة في الأردن وسوريا ولبنان، والمليشيا وكانت تضم أعضاء الجبهة في مختلف الأقطار العربية الذين يمارسون دورهم التنظيمي ويؤدون الخدمة الثورية في القواعد العسكرية للجبهة لمدة شهر سنوياً، والأشبال والزهرات وهم صغار السن من 10-16 الذين تقدم لهم برامج تدريبية في قواعد الأشبال لتنمية قدراتهم والارتقاء بإمكانياتهم.
وتطبيقاً لمبادئ الجبهة واستراتيجيتها في الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية، ومن منطلق إيمان الجبهة بضرورة التصدي للإحتلال الإسرائيلي من خلال ممارسة كافة أشكال النضال وفي مقدمتها الكفاح المسلح كأرقى أشكال النضال، قام مناضلي الجبهة بتنفيذ العديد من العمليات العسكرية النوعية داخل الوطن المحتل وعلى كافة الحدود المحيطة بالأرض المحتلة في الأغوار و الجولان و جنوب لبنان.
وعلى صعيد آخر تعد جبهة النضال الشعبي الفلسطيني أول تنظيم فلسطيني عربي ينجح في تحرير أسرى فلسطينيين، ففي يوليو 1970 قام ستة مناضلين من الجبهة بخطف إحدى طائرات شركة الخطوط اليونانية المتجهة من بيروت إلى أثينا، واحتجزوا أفراد الطاقم والركاب رهائن وطالبوا بالإفراج عن سبعة فدائيين أسرى في اليونان ، وبعد عملية تفاوض عبر الصليب الأحمر تكللت العملية بالنجاح وأطلق سراح الجميع.
ومن عمليات الجبهة التي استهدفت تحرير الأسرى من سجون الاحتلال الإسرائيلي" عملية المطلة" تموز - يوليو 1975، حيث اقتحمت مجموعة الشهيد يوسف كلوسة من جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، المنطقة الغربية من مستعمرة المطلة في الجليل الأعلى، وتمكنت من أخذ عدد من الرهائن، ووزعت في شوارع المستعمرة منشورات باللغة العربية والإنجليزية والعبرية، تطالب فيها بإطلاق سراح عشرين معتقلا فلسطينياً، وتمكن مناضلو الجبهة من الانسحاب مع الرهائن، إلى البساتين خارج المستعمرة في انتظار موافقة سلطات الاحتلال الإسرائيلي على مطالبهم إلا أن العدو ماطلهم، ثم دفع بعدد من قواته المدعومة بالطائرات لمحاصرتهم، ودارت معركة انتهت باستشهاد الفدائيين الثلاثة، ووقوع عدد من القتلى والجرحى في صفوف الرهائن والقوات الإسرائيلية.
دعت جبهة النضال الشعبي الفلسطيني منذ انطلاقتها إلى توحيد صفوف المقاومة الفلسطينية، كما دعت إلى إشراك الجماهير في محاربة العدو، إذ ترى "أن قوى الشعب العامل، من فلاحين وعمال ومثقفين وثوريين وفقراء، هي الطبقة الثورية التقدمية، وهي مادة الثورة الأساسية، التي تحارب الظلم والاستغلال، وتصارع قوى الاستعمار والصهيونية من أجل تحقيق العدالة وإنهاء الاحتلال. وهي الطبقة التي تريد التغيير حقاً، وتناضل بصلابة، في سبيل إحداث التغيير الثوري الاجتماعي السياسي، وهي التي تصمد في الصراع، إذا ما أتيح لها الوعي والتنظيم اللازمان".
انضمت جبهة النضال الشعبي إلى صفوف منظمة التحرير الفلسطينية، منذ الدورة السادسة للمجلس الوطني الفلسطيني، المنعقد في القاهرة، بين الأول والسادس من سبتمبر عام 1969، وتم تمثيل الجبهة في اللجنة التنفيذية، والمجلس المركزي، والمجلس الوطني، والاتحادات الشعبية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
عقدت الجبهة تسع مؤتمرات عامة وكونفرنسين عامين ، وكانت تقود الجبهة قيادة مركزية حتى انعقاد المؤتمر العام الثالث عام 1972 حيث انتخب الدكتور سمير غوشة أميناً عاماً للجبهة، الذي أصبح بدوره ممثلها في اللجنة التنفيذية للمنظمة منذ العام 1991، و بعد وفاة غوشة عام 2009م، انتخبت اللجنة المركزية للجبهة الدكتور أحمد مجدلاني أمينا عاماً للجبهة وممثلاً لها في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
ومنذ انطلاقة جبهة النضال الشعبي الفلسطيني في الخامس عشر من تموز عام 1967م، وحتى يومنا هذا، ما تزال جبهة النضال الشعبي الفلسطيني تواصل نضالها، وهي أشد تمسكاً، وأكثر إصراراً، على مواصلة مسيرتها الكفاحية، حتى تحقيق المبادئ والأهداف الوطنية التي انطلقت من أجلها، وتحرص في كل مناسبة وطنية، على تجديد العهد بالوفاء للشهداء العظام الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في الحرية والعودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
المجد للشهداء ... العودة للاجئين ... الحرية للأسرى ... والنصر لنضال شعبنا
أنور جمعة
عضو اللجنة المركزية لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت