..... من خلال ما كانت تتناقله وسائل الأعلام وبالذات النفطية منها، فإن كل الدلائل والمؤشرات أكدت بشكل قوي على ان ليبيا أصبحت واحدة من أهم معاقل القوى الاسلاموية،على اختلاف منابتها ومشاربها وتياراتها ومدارسها الفكرية والسياسية، من إخوان وسلفيين وقاعدة وجهاد وصوفية ووهابية وغيره،فالإعلام النفطي كان ينقل لنا وقائع ومشاهدات ومقابلات مع أبو سياف والقعقاع والبعباع وأبو لفة وأبو بطحة، وغيرهم من قادة وعساكر ورموز تلك القوى بأنها هي من فجرت"الثورة"، وان الجماهير تهتف لها وبحياتها، وأن أي انتخابات قادمة ستحرز فيها نصراً كبيراً، ومن غير المتوقع أن تكون أية قوى أخرى وبالذات الليبرالية والعلمانية منها ذات وزن أو منافس لها في الانتخابات البرلمانية القادمة.
ولكن النتائج المغايرة والمفاجآت في هذا المشهد السياسي المتقلب، وغير المسبورة أغواره والمكشوفة على حقيقتها،جاءت لتقول بأن هذا الإعلام مرتبط بأهداف وأجندات سياسية، ويقوم بنقل وتغطية الأحداث وتصويرها وفبركتها وإخراجها من سياقاتها، وعرضها بشكل بهلواني بما يخدم تلك الأهداف والأجندات،وعلى ضخامة إمكانيات تلك الماكنات الإعلامية، والتحكم في النشر والتغطية، من حيث تضخيم قوة الناس أو ما يسمى بالقادة الذين تتفق رؤيتهم وبرامجهم مع الأجندة والأهداف المبتغاة من العرض والمقابلة، فإن المشهد الطاغي أمام المشاهد والمتابع لتلك الأحداث،بأن تلك القوى هي صاحبة المبادرة في التغيير، وهي من تمتلك وتتحكم في القرار، وأية قوى أخرى فهي قوى هامشية ولا وجود ملحوظ لها على الخريطتين الحزبية والسياسية.
من الزاوية والرؤية العلمية فإن بلدا كليبيا عانى طويلا من الديكتاتورية، وتتحكم فيه العشائرية والقبلية والجهوية، حيث ينتشر الجهل والتخلف والفقر والجوع والحياة البدائية، وتغيب الدولة المدنية، فإن الأقدر على تحقيق نجاحات في هذا الجانب هي القوى القبلية والعشائرية والاسلاموية، حيث ما هو متوفر لها من حنفيات مال خليجي،وتربة خصبة مشبعة بالروحانية وجماهير فقيرة وجائعة من السهل خداعها وتضليلها،عبر تجنيد الدين لخدمة الهدف والغرض السياسي، واللعب على وتر المشاعر والعواطف والتكفير والتخوين وغيرها، ولكن ما قد يفسر أو يعلل علمياً بعدم انتصار القوى الاسلاموية في ليبيا له ارتباطات بما حصل في ليبيا نفسها والمحيط الأفريقي العربي، ففي ليبيا اتضح للجماهير أن تلك القوى لم تعمل على بناء دولة مدنية عصرية، بل عملت على بقاء التوزيعات العشائرية والقبلية، وهي تتعامل مع أنصار النظام القديم وفق مبدأ الثأر والانتقام والإقصاء والاجتثاث، على غرار تعامل حكومة المالكي في العراق مع البعث وأنصار القائد الراحل صدام حسين، وان الدولة آخذه في التحلل والتفكك والتقسيم، وبما يهدد الوحدة الجغرافية لليبيا، وبما يضع الكثير من علامات الاستفهام على "الثورة والثوار"،والثروة النفطية الليبية أصبحت تحت السيطرة الأجنبية المباشرة، وبالتالي فلم يتغير وضع الليبيين نحو الأفضل قياسا لما كانت عليه الأوضاع في عهد الراحل القذافي، بل البلاد تتجه نحو الاحتراب العشائري والقبلي، وتعزز سلطة وسيطرة المليشيات، وبما يعني فقدان الأمن والأمان، والأمور تتكشف وتتضح لليبيين يوماً بعد يوم بأن ما حصل ليس له علاقة بمحاربة القمع والظلم والفساد والاستغلال، والتوزيع غير العادل للثروات وقمع الحريات وتكميم الأفواه، وإحداث عمليات إصلاح وتغيير اجتماعية واقتصادية وسياسية، بل هو خدمة لمشروع سياسي كبير جرى طبخه خارج ليبيا، ملامحه الرئيسية تتمثل في إطلاق يد الأخوان المسلمين في الحكم، مقابل ضمان حماية والحفاظ على المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة، وليبيا جزء من الطبخة لهذا المشروع الذي ترعاه وتموله بشكل أساسي قطر والسعودية وتركيا.
ومن الأسباب الوجاهية ولربما منعت عملية السيطرة الاسلاموية على الحكم وفوزها في الانتخابات التشريعية في ليبيا،هي ظهور وانكشاف القوى الاسلاموية من اخوان وسلفيين وجهاديين وغيرهم على حقيقتهم في أكثر من بلد عربي، بدءاً من تونس وانتهاءاً بمصر، فهذه القوى الاسلاموية الاخوانية والسلفية وغيرها، كانت شهوتها وحبها للسيطرة والسلطة والإقصاء فوق المصالح الوطنية والقومية، وتنكرت للشعارت التي رفعتها والبرامج والأهداف التي تريد تحقيقها، فهي على صعيد السياسة الخارجية علناً وجهراً ومن خلال حجيجها الآن وفي المستقبل الى البيت الابيض، أعلنت بأنها ستلتزم وتحترم الاتفاقيات بالذات مع إسرائيل، وهي ستهتم بقضاياها الداخلية وغير معنية لا بدعم ولا مساندة المقاومة الفلسطينية أو العربية، وستحفظ لأمريكا مصالحها، وفي الشأن الداخليفكان واضحاً أن التركيز يجري على قضايا وموضوعات شكلية وليست جوهرية، وان هذه الأحزاب تسعى لتشديد سيطرتها وسلطتها على كل مفاصل الحياة في المجتمع، وبما يحول تلك البلدان الى دول ومجتمعات دينية، تنتفي فيها التعددية والحريات العامة والشخصية، وهذا المنهج الإقصائي دفع بالأخوة المسيحيين في مصر الى تشكيل حزب الأخوة المسيحيين كرد على الأخوان المسلمين، وبما يعرض النسيج الاجتماعي المصري الى التفكك والتدمير والتذرير.
وهنا من المهم جداً قوله على ضوء نتائج الانتخابات الليبية، إن وسائل الإعلام المأجور وما تملكه من ضخامة إمكانيات صحفية وتقنية وحنفيات مال، ورغم كل تغطيتها غير المهنية والمنصفة لما جرى ويجري من أحداث في أكثر من بلد عربي، نجحت الى حد ما في الاستحواذ على العقل والفكر العربي، وبالذات خدعت وضللت الجماهير الشعبية، ولعبت دوراً فاعلاً في تحريضها، ولكن بعدما استقرت الأوضاع في أكثر من بلد عربي أخذت الجماهير تصحو شيئاً فشيئاً على زيف وخداع وسائل الأعلام تلك، وحجم المخططات والأهداف المشبوهة التي كانت ترمي لخدمتها، وأنها مجرد وقود في معارك لكي تخدم مشاريع ومخططات سياسية.
من المبكر القول بأن عدم قدرة الأخوان والقوى الإسلاموية في ليبيا على تحقيق نصر كاسح أو حتى معقول في الانتخابات البرلمانية الليبية، قد يشكل بداية أفول حركة الأخوان المسلمين، والتي بدأت تتكشف حقيقة أهدافها ومراميها، وبأنها ليست أكثر من حزب سياسي يطمح الى السلطة ويعشقها الى حد العبادة، ولا يتورع عن استخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة من تجنيد للدين لخدمة أهدافه ومصالحة الى استخدام مؤسسة الإفتاء من أجل إصدار فتاوي تخوين وتكفير وغيرها،وبما يخدم نهجها وأهدافها حتى لو تعارضت مع الشرع والدين.
ولكن ما نستطيع البناء والقياس عليه هو التراجع في زخم وقوة الإخوان والسلفيين في مصر وتونس وغيرها بشكل لافت وكبير، وبما يعنى انه على كل القوى القومية والعروبية والديمقراطية والليبرالية والتقدميةأن تعيد تنظيم صفوفها وترتيب أوضاعها، نحو العودة للظفر بالسلطة خدمة للجماهير والمشروع القومي العربيf.
القدس- فلسطين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت