إتفاق أوسلو في الميزان الجزء الثالث"الخروج من مأزق أوسلو"

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج


مما لا شك فيه فقد خلف تعثر تطبيق اتفاق أوسلو المتعمد من جانب اسرائيل ومن لف لفها مآزق حادة وضيقة لأطراف الإتفاق، وللمعنيين الحقيقيين بالسلام في المنطقة. وما يهمنا في هذا الصدد هو المأزق الفلسطيني وكيفية الخروج منه. فكما كان أوسلو سبباً في مأزق فلسطيني، كان أيضاً بمثابة تنامي الشعور المرعب لدى الصهاينة والناجم عن فداحة المأزق الإسرائيلي القديم منذ نشوء الكيان والمتنامي والمتجدد الى يومنا هذا تحت ضغط الهاجس الأمني. فالفلسطيني عاش حياته في كبد، يدخل في مأزق وما يكاد يخرج منه حتى يدخل في مأزق أشد منه صعوبة وأكثر خطورة. فكانت حياته مليئة بالحفر والأنفاق والأشواك والمنحنيات الخطرة، فهو يمثابة من يمشي على الحبال يتربص به خطر الوقوع والهلاك في كل زمان ومكان إن هفا هفوة أو أخطأ، وذلك لفظاعة وبشاعة وعظم المؤامرة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني ووطنه الذي ورثه عن أجداده. فكانت حياته كلها مليئة بالجراح والمآسي من التشريد والإنكار لوجوده من الأطراف المتآمرة عليه، وتألم من لواعج الغربة القسرية عن الوطن، ومن استهدافه بالقتل والتصفية، وقاسى من شظف العيش، وعانى من فقدانه الهوية الوطنية والمحاولات الجادة لطمسها، ولكنه استطاع ترويض كل هذه المصاعب والمتاعب والأشواك والمعاناة وتدجينها والتعايش معها، وتوحد معها على الأرض الفلسطينية، وبذلك تخطي أخطارها وانتصر على ظروفه الصعبة القهرية مُجبراً العالم على الإعتراف به وبهويته الوطنية بعد صراع طويل ومرير ونضال متراكم. لذلك فإن قدرة الفلسطيني على الخروج من مآزقه تفوق قدرة الإسرائيلي بمسافة شاسعة وبعيدة بين القدرتين. فهو صبورٌ طويل النفس ومؤمن بالله وبحقه الراسخ في وطنه، وهو اليوم صامد ومتجذرٌ في أرضه يتحمل صنوف العذاب، ولا يرحل عن الأرض حتى لو ضحى بحياته، حيث استفاد واعتبر من تجارب التهجير القسري السابقة، ولمن اللدغ بالجحر أكثر من مرة. لكن ما عاب الفلسطيني بالأمس وما زال يعيبه اليوم هو خلافه مع ذاته، وعدم توافق الرأي مع الرأي الآخر في الإطار الوطني. وغياب الإستراتيجية الوطنية الموحدة التي تشكل المظلة الجامعة الواقية لكل الآراء والأطياف والتي تشكل المساحة الواسعة للمناورة والتنوع مع الإلتزام بحدودها وخطوطها الحمراء من كل الأطياف المنطوية تحتها والمستظلة بظلها، ويعيب الفلسطيني ايضاً عدم إجادة اللمسة الأخيرة أمام الهدف (المرمى) لغياب الوعي السياسي، فهو كلاعب كرة القدم الذي يتحرك كالنحلة في الملعب بإستمرار دفاعا ووسطاً وهجوماً، ويبذل مجهوداً مضاعفاً، ويتمتع بلياقة بدنية عالية، ويجيد المراوغة والإختراق من العمق واللعب على الأطراف، ويصل للمرمى ولكنه لا يجيد التهديف، ويضيع الفرص الكثيرة التي يصنعها بمجهوده الفردي برعونة. والنجاح في كرة القدم يقاس بعدد الأهداف المتحققة، وهذا ما رجح وما زال يرجح كفة الخصوم عليه. فلو تصالح مع نفسه، واعتمد اللعب الجماعي وابتعد عن الأنانية الفردية والإستعراض والتمرير لمن هو قادر على ايلاج الكرة بالمرمى بسهولة، وركز المهاجم أمام المرمى وأجاد استغلال الفرص والتهديف، لكان في وضعية أفضل بكثير مما هو عليه اليوم.
المأزق الفلسطيني الراهن معروف لدينا، ولا حاجة بنا لشرحه لأن كل واحد منا يعيشه ويشعر به. والحاجة الملحة هي تلمس الطريق المؤدية للخروج منه، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا العدو في مأزق على الرغم من تفوقه في كل الميادين المادية؟

منذ أن قام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين وهو يعيش على هاجس الأمن بعامل الخوف من المحيط الذي يعيش فيه مثله كمثل الأرنب في الغابة أو الفلاء ينتظر مصيره المحتوم على يد الثعالب أو الكلاب أو الذئاب. ولكن الداعمين للكيان الصهيوني زرعوا لهذا الظبي مخالب وأنياب وكسوه بريش شوكي متطاير على الجوانب، مستغلاً مكره وحيله، مما جعل منه المفترس في هذه الغابة، وأصبحت الوحوش المفترسة تخشاه وتتجنب الإحتكاك معه أو الإقتراب منه. وكل هموم الإسرائيلي الوطنية تتركز في الحصول الدائم على وسائل القوة المادية ليبقى متفوقاً على جيرانه، معتمداً في ذلك على رعاته ليضمنوا له الحياة، وكان طموحه يتعدى فلسطين ليسيطر على العالم العربي، ويهيمن على مقدراته. فهو ومنذ بدايته والى الآن يعيش في حالة استنفار مستمرة ليبقى على هذه الأرض، يثير الحروب والفتن لأنه يشعر بتفوقه المادي على جيرانه ويخشى انقلاب الحال فيصبح ضعيفاً مع ضعف الرعاة له، وينقض عليه الجيران ويمزقونه إرباً إرباً قياساً مع أفعاله وجرائمه التي اقترفها بحقهم وهو قوي. شعب اسرائيلي يعيش في حالة قلق واضطراب، ومن شيمه الخوف والجبن، متمسك بالحياة الدنيا ومتاع الغرور. شعب كله جيش في حالة استنفار مستمرة. يمثل دور السجان لمن يشاركونه العيش على هذه الأرض، هم يحملون صفات هذه الأرض ويضفون عليها هويتها، ومنغرسون فيها كأشجار الزيتون المتقادمة، إن اجتث فرع منها تنبت بدلاً منه فروعٌ كثيرة، هو يسهر الليل خوفاً من هرب السجين فيرعبه، والسجين يغط في نوم عميق على فراش من الصخر والشوك تعود عليه، وفي غرفة لا تتعدى مساحتها متراً مربعاً. وعلى الرغم من سطوة القوة المادية التي يحوز عليها الإسرائيلي الا أنه مبتلاً بمرض الرّهاب الإجتماعي في محيطه، والقلق القهري، والخوف من المستقبل والرهبة من المصير. هو يخشى الجنين الفلسطيني في بطن أمه، ويعتقل الطفل اليافع ويحاكمه ويسجنه. فهذا الكيان الشاذ وغير المنسجم مع المحيط تماماً كوليد الإستنساخ، هش الكيان والبنية، ولا يثق بقدراته، وهو يدرك أن زمن هلاكه وموته وزواله يقترب آجلاً ام عاجلاً. بعكس الفلسطيني الذي صمد بصدره العاري وتحدى بايمانه بوطنه وتعلقه الروحي به، وتحمل السجن والقهر، وأقدامه منغرسة متجذرة في باطن الأرض ولا ينفك عنها أو يجتث منها، واستطاع بصمودة وثورته على الظلم أن يحجم الحلم الصهيوني ويقزمه ويمنع تمدده خارج الأرض الفلسطينية ليحصره داخل جدار، فانقلب الحال وصار الإسرائيلي في حلمه ومستقبله سجيناً والفلسطيني سجاناً على أرض الأحلام أرض فلسطين التاريخية.

عندما بدأت الخطوات الآولى بتنفيذ اتفاق أوسلو، وتسلمت السلطة مقاليد الإدارة الذاتية لنفسها ولسكان المناطق التي انسحب منها الجيش الإسرائيلي، وعلى الرغم من القيود التي فرضت عليها ومن الشروط المجحفة في حق سيادتها على الأرض وعلى الإنسان، وعلى الرغم من شح الإمكانيات، الاّ انها انطلقت من قمقمها بسرعة بفضل وعي وثقافة وكفاءة وخبرة الشعب الفلسطيني، وكأنها تبشر بميلاد كيان ناشيء يتخطى بكفاءته عمره القصير بخطوات عملاقة وواسعة وعديدة، ويوازي في هيكله وقامته دولاً استقلت قبله بعقود عديدة، وسوف يكون هذا الكيان الوليد والذي ما زال يعيش في حضانة تحت الرقابة الإسرائيلية الساهرة، قادراً وحده وفي فترة وجيزة على مقارعة اسرائيل والتغلب عليها في كل الميادين بحساب السنين القادمة إن اتيح له المجال وأطلق له العنان. فقد أنجز في هذه الفترة الوجيزة ما عجزت دول عن إنجازه، هذا على الرغم من أن معظم خبراته ما زالت مهجرة بالخارج والتي ساهمت في بناء دول عربية وغير عربية، ومعظم رؤوس أمواله ما زالت متحفظة في استثماراتها داخل الوطن، وأن السياحة الدينية المنتظرة للقدس والخليل وبيت لحم ما زالت لا تعمل الا بجزء يسير من طاقتها نظراً لعدم الإستقرار في المنطقة.

فتملك اسرائيل الرعب والخوف، سيما وفي بطنها يعيش مليون ونصف المليون من الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، ويشكلون هاجساً مؤرقاً لهذا الكيان، فانقلبت على الإتفاق وقتلت عرابه اسحق رابين، الذي كان من بناة الكيان في حادثة فريدة من نوعها منذ قيام هذا الكيان، متنكرة لتاريخها ولزعمائها، وأدارت ظهرها للإتفاق ونقضت وعودها وعهودها كعادتها. خوفاً مرعباً من المحيط والجار الجنب، وتوجساً من المستقبل حيث ستعيش في جوار هذا الكيان المتوافق مع الأرض بكل جوارحه والمنسجم معها بتراثه وعاداته وتقاليده المستمدة منها. تلك الأرض المتوافقة معه ومع سماته وتراثه وعاداته وتقاليده وتاريخه. سيما ويعيش في أحشائها حوالي مليون ونصف المليون فلسطيني تفرعوا من حوالي 150 ألفاً بقوا في فلسطين ولم يهاجروا عام 1948م.

فالشعب الفلسطيني كان وما زال يمتاز عن غيره من الشعوب المستعمَرة أو شعوب العالم الثالث بأنه كان جاهزاً للإستقلال منذ عشرينيات القرن الماضي، قبل استقلال أي دولة عربية بكثير. فقد كانت البعثات التدريسية في ذلك الوقت تنطلق من فلسطين الى دول عربية شقيقة في افريقيا وآسيا. وكانت الصحافة والثقافة في فلسطين تتصدر مثيلاتها في الدول العربية، وكانت يافا منارة ومزاراً للمثقفين والفنانين العرب، وكانت القدس محجاً لجموع المسلمين، وبيت لحم محجاً لجموع المسيحيين، ومن يقرأ عن الإنتداب البريطاني لفلسطين والكتب البيضاء للحكومة البريطانية (اربعة كتب) والتي أوصت بقيام دولة فلسطينية منذ عام 1922م (كما ورد في كتاب تشيرتشل الأبيض بتاريخ 3/6/1922م) يتشكل سكانها من الفلسطينيين (الأكثرية الغالبة والسواد الأعظم) ومن اليهود (الأقلية الضئيلة) على أن يحمل الجميع الجنسية الفلسطينية، وتم رفضه في ذلك الوقت من العرب والفلسطينيين. وحاربه الصهاينة بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، وكان بالإمكان استغلال هذه الفرصة وتحقيق الأفضل على الرغم من علمنا بالمكر البريطاني والخداع الصهيوني والدعم الأمريكي. وتكررت الفرص في الكتب الثلاثة اللاحقة وتم رفضها عربياً وفلسطينياً. فرص ضائعة كثيرة ضاعت منا لغياب الوعي السياسي أمام الحس الوطني العاطفي في غياب للعقل والحكمة. وتغولت العاطفة على العقل وغيبته الى يومنا هذا مع كل أسف شديد.
ويبقى السؤال المؤرق والملح في ذهن كل فلسطيني وطني غيور على الأرض والعرض، ومتمسك بالوطن الفلسطيني، وبالتراث والإرث الفلسطيني، وطامح الى تحقيق المصلحة الوطنية الجغرافية الديمغرافية القومية العليا، ماهو المخرج من هذا النفق المظلم، ومن هذا المأزق الذي يجثم على صدورنا، والجواب على هذا السؤال، يتطلب منا جميعاً تغيير ما في النفوس، كما قال تعالى في كتابه العزيز "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" والنفس بفطرتها أمارة بالسوء لما يكتنفها من غرائز دنيوية لحظية زائلة بانتهائها، ولتغيير ما بالنفوس يتطلب منا إعمال الرقيب الداخلي وهو الضمير الحي وتحريكه باتجاه المصلحة الوطنية للوطن والمواطن ويتحقق ذلك ما يلي:

أ‌- على المستوى الفردي الذاتي لكل نفس فلسطينية
1. الترفع عن المصالح الشخصية الضيقة وما تحقق للشخص من مصالح ومنافع ذاتية ضيقة مرتبطة بالوضع المتجمد الراهن، وتؤثر سلباً على المصالح الوطنية الفلسطينية وايجاباً على مصالح الخصم، سواءً كان الشخص مسئولاً في السلطة بكل مجالاتها وصلاحياتها، أو كان تاجراً أو مقاولاً أو صاحب مصلحة اقتصادية أو كان مواطناً عادياً. وذلك بالعزوف عن كل ما من شأنه الحفاظ على الوضع الراهن. فمثلاً امتناع المواطن الفلسطيني عن العمل في المستوطنات التي تقيمها اسرائيل على الأرض الفلسطينية من منظور دولي. وامتناع التاجر عن تسويق المنتجات الإسرائيلية، وامتناع المستهلك عن شرائها إن توفر البديل الفلسطيني أو العربي، وامتناع المقاول عن تزويد العمالة الفلسطينية في بناء المستوطنات. وامتناع العامل والفني عن العمل بمشاريع الإستيطان، وامتناع رجل الأمن عن التنسيق مع الخصم في ما يضر بمصلحة المواطن الفلسطيني. وترفع المسئول عن استغلال صلاحياته في ابتزاز المواطن الفلسطيني، وترفعه عن الفساد والرشوة. والتفكير في تغيير الواقع الفلسطيني المتجمد كلٌّ من موقع مسئوليته.

2. الترفع عن المصالح الحزبية والفصائلية الضيقة والقبيلية البغيضة، وانتهاج معايير تعتمد على الكفاءة دون الولاء لحزب المسئول صاحب الصلاحية في التوظيف، وتسخير العضوية في الحزب او الفصيل للمصلحة الوطنية الفلسطينية، وإعلاء المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية والقبيلية، وإن تعارضت المصلحة الحزبية مع المصلحة الوطنية فيجب رفضها، وتغليب المصلحة الوطنية عليها، وهذا يتطلب من كل حزبي أو فصائلي الإنفكاك من المجالات المغناطيسية للمحاور الإقليمية والدولية، والتخلص من تجاذباتها وتنافراتها وجزرتها وعصاتها، وفي النهاية ستعود بنتيجتها ايجاباً على مصلحة المحور وفي أغلب الأحيان بعيداً عن المصلحة الوطنية، ويتحقق ذلك بإعمال قوة الضمير الوطني على قوة جذب المحور. وتقوية الروابط الأخوية والقومية الفلسطينية على روابط الأيدلوجيات الدينية والحزبية والقبلية المتشابكة المصالح تشابكاً معقداً يزيد من القضية الوطنية تعقيدا وتشابكاً، ويرتهنها لمصالح تفوق المصلحة الوطنية وتطمسها، مما يؤخر استحقاق المصلحة الوطنية، ويبعد الهدف الوطني مكاناً وزماناً. وقبول الطرف الآخر أخاً وشريكاً تحت المظلة الوطنية. فكل فلسطيني مهما كان طيفه أو فكره أو عقيدته أو انتماؤه الحزبي أو الفصائلي فهو في النهاية فلسطيني يعيش بين أهله ولا يستغني عنهم ابداً. ومن الطبيعي أن تختلف وجهات النظر، ولكن ما هو شاذ هو رفض الآخر وعدم التحاور معه واستعدائه لأنه يحمل فكراً مغايراً وخلاصة تجربة تتنافى مع ايدلوجيته. ويتحقق ذلك بتفعيل الحديث النبوي الشريف "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ولم يقل حتى يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه. وما أدراك أنك مسلم وأن أخاك ليس بمسلم في الباطن فالله أعلم بما في النفوس ودواخلها. وإن احببت له ما تحبه لنفسك فربما تجذبه لك وتغير عقيدته الى الإسلام. فنحن شعبٌ مظلومٌ ومبتلاً، وحتى نتلمس الطريق الى رفع الظلم عنا واستعادة حقنا من الظالم لا بد وأن نتمسك بتلك الأخلاق التي تجعل منا قوماً متكاتفين متضامنين موحدين بكل أطيافنا كالبنيان المرصوص. ومجمعين على برنامج وطني واحد. وكل طاقاتنا الوطنية تجري في جداول متنوعة وتلتقي في نهر واحد وتصب في بحر المصلحة الوطنية العليا. ويجب أن تكون كل مقاوماتنا موصولة على التوالي لتنتج مقاومة بالمجموع الوطني الكلي تشكل رافعة قوية للوصول لأهدافنا الوطنية المشتركة.
وإن تحقق هذا العامل النفسي لدى الكل الوطني الفلسطيني فسوف يُنهي الإنقسام تلقائياً ويقبره الى غير رجعه. ذلك الإنقسام المدمر للمصلحة الوطنية العليا.

ب‌- على المستوى السياسي للقيادات الفلسطينية
1- إعادة الإعتبار للمظلة الفلسطينية الجامعة والممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني (منظمة التحرير الفلسطينية)، والتي كانت تضم كل الأطياف السياسية للشعب الفلسطيني. وتضم النخب الفكرية الفلسطينية التي كانت تنور العقل الفلسطيني بقضيته، وذلك لإعادة بناء الجسور للتواصل بين أبناء الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجدههم بالداخل تحت الإحتلال وبالشتات. وإعادة العمل لمؤسساتها السياسية والثقافية والإعلامية والتي كانت تبقي الأجيال الفلسطينية على دراية وتواصل بقضيتهم وأرضهم ومسقط رؤوس آبائهم وأجدادهم. وإنشاء قناة فضائية إعلامية فلسطينية تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية تعنى بالشأن الفلسطيني العام وموجهة لكل الفلسطينيين اينما وجدوا، تعرف الفلسطينيين من الأجيال الناشئة بقضيتهم وتراثهم وأرضهم. حيث يوجد الآن قنوات فضائية فصائلية ضيقة الأفق وتبث الفرقة بين أبناء الشعب الفلسطيني، وتجلد الذات الفلسطينية مما يؤدي ترسيخ الإنقسام الفكري الفلسطيني حول النظرة لقضيته، وبالتالي الى عزوف الأجيال الفلسطينية عن مشاهدتها والإستخفاف بها لأنها تستخف بالعقل الفلسطيني وتخونه وتحقره امام العالم.

2- العمل على ترسيخ مفهوم الإيمان الكلي الفلسطيني بأنه لا خلاف بين الفلسطينيين على خصمهم الإستراتيجي اسرائيل، وأن الخلاف في وجهات النظر بين الأطياف الفلسطينية على وسائل العمل باتجاه الخلاص هو خلاف تكتيكي لا يفسد الود والإحترام المتبادل، ويحب تسخيره لخدمة القضية وللمناورة السياسية، وإنما هنالك إجماع فلسطيني على هوية الخصم، ولا خصومة استراتيجية بين فصيل وفصيل وحزب وآخر، والكل الفلسطيني مهما كانت همومه متفرعة ومتنوعة، يجمعهم هم واحد هو تخليص حقوقهم المغتصبة وتحرير الأرض الفلسطينية والإنسان الفلسطيني من الإحتلال، وعودة المهجرين الى ديارهم. وضرورة إقران الأقوال والشعارات بالأفعال على الأرض وأن يسبق الفعل القول والشعار.

3- العمل على زيادة عدد الأصدقاء والمناصرين للحق الفلسطيني، وتقليص عدد الخصوم بعدم استعداء أي طرف، وذلك بنشاطات إعلامية موجهة لشرح الحق الفلسطيني والمعاناة الفلسطينية المستمرة منذ أكثر من ستين عاماً. ومحاولة اختراق الأطراف المناهضة للحق الفلسطيني وخاصة داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فالشعب الأمريكي شعب موجه بالريموت كنترول من خلال الإعلام، وشعبٌ طيب إن أدرك الحقيقة، ولو كان هنالك إعلام عربي وفلسطيني موجه يشرح المعناة الفلسطينية لانقلب رأي الشارع الأمريكي رأساً على عقب، ولأجبر حكومته على إنصاف الحق الفلسطيني، وردع المعتدي الإسرائيلي الذي يعيش على حساب المواطن الأمريكي دافع الضرائب. وكذلك العمل داخل مكونات الخصم ومعرفة الخصم الحقيقية، ومد الجسور مع الأطياف التي تناصر الحق الفلسطيني، وخاصة الفلسطينيين داخل الخط الأخضر الذين يفهمون الخصم جيداً وبإمكانهم تقوية التواصل مع فئات العدو المناهضة لسياسة الحكومات الإسرائيلية المتطرفة.

4- العمل المستمر والدؤوب داخل أروقة الجامعة العربية لتطوير الدور العربي لصالح القضية في ظل ثورات الشعوب وذلك لتجيير جزء من نتائج هذه الثورات لصالح القضية الفلسطينية وإعادة الدور العربي الرسمي والشعبي الى موقعه المساند والداعم للحق الفلسطيني ذلك الدور الرسمي الذي غاب منذ اتفاقية كامب ديفيد بين اسرائيل ومصر وغيب الدور الشعبي، والعمل على المساهمة العربية الفاعلة سياسياً وإعلامياً وثقافياً وإقتصاديا. ولن يعود هذا الدور العربي كعادته وعهدنا به الا بالوحدة الوطنية الفلسطينية. فالإنقسام أثر كثيراً على الدور العربي المساند، وأضر بسمعة الفلسطيني، وبمسيرة النضال الفلسطيني المرير.

ج- على المستوى الشعبي (القيادات الطلابية والنقابية والنسوية والنخب الثقافية)
1- حيث فشلت القيادات الفصائلية الفلسطينية في إنهاء الإنقسام الجيوسياسي المدمر لقدرات وطاقات الشعب الفلسطيني، وحيث أن الرهان لم يكن يوماً على فصيل أو حزب أو قبيلة أو طائفة، وإنما الرهان الحقيقي هو على الشعب الفلسطيني، ذلك الرحم الخلاق والذي أنجب كل الوطنيين الفلسطينيين، وانجب كل الثوار والفرسان على مدار تاريخ القضية، وانجب المبدعين في كل الميادين والمتفوقين في كل الصعد، والمثقفين والواعين والحكماء. لا أظن أنه غير قادر على الخروج من نفق الإنقسام السرطاني المدمر. لذا لا بد من الثورة الشعبية السلمية الحضارية النخبوية ضد واقع الإنقسام كأولوية آولى وواقع الإحتلال كأولوية ثانية. ولكن وبكل أسف، ما يؤخذ على الإبداعات والكفاءات والنخب الفلسطينية الفصائلية النقية وغير الفصائلية المستقلة، والتي تشكل الرقم الثالث في المعادلة الوطنية الفلسطينية، أنها أحادية فردية متفاضلة متنافرة دون أن تكون متكاملة متجاذبة تحت خيمة وطنية واحدة لتفصل بين الطرفين المختصمين المنقسمين، وتشق طريقاً وطنياً خالصاً يلبي الإجماع الوطني الفلسطيني دون تجاذبات خارجية وداخلية. والتفاضل في علم الرياضيات يبقى ناقصاً وغير نافع وعامل بالطاقة إن لم يتكامل فما بالك إن كان متنافراً في مكوناته سيحدث فعلاً معاكساً للإتجاه الوطني كما هو الحال اليوم. والتكامل هو تجاذبٌ وتجميع للطاقات لإحداث فعلٍ نافذ على أرض الواقع وليؤدي الوظيفة المناطة به على الوجه الأكمل. لذا مطلوبٌ من الإبداعات والكفاءات والنخب الفلسطينية أن تتوحد وتتكامل على كل الصعد لتحدث نقلة نوعية في عطائها للوطن لتخلصه من شر الإنقسام الذي هو في أمس الحاجة له اليوم وذلك لتصحيح المسار المنحرف عن السكة الموصلة للهدف الوطني.

2- الطلاب هم دائماً وقود الثورات النقية للشعوب الحرة على واقعها المرير وهم شرارتها الآولى، ويقع على عواتقم اشعال فتيل الإنتفاضة الهادئة ضد الإنقسام في جناحي الوطن بالتوازي مكاناً وزماناً في جناحي الوطن، وضمن فعاليات موحدة الفعل والقول بشعارات وطنية وتحت راية واحدة هي علم فلسطين واستبعاد الأعلام الفصائلية، وإحداث ثورة على النفس لتغيير ما بها من رفض للآخر، دون تخوين أو توجيه اتهامات، فالكل وطني فلسطيني، فأعضاء الفصائل وطنيين، انضموا للفصائل من أجل خدمة القضية من خلالها، فالهدف واحد، ولا بد من ثني القيادات المختلفة وإعادتها الى رشدها وبوصلتها الوطنية. ودون إضرار بمصالح الناس والمصالح العامة. وسوف يتبعهم النقابات المهنية والعمالية والإتحادات النسائية، وفي نهاية المطاف غير الطويل سوف ترضخ القيادات المنقسمة لمطالب مكونات الشعب الفلسطيني وتنهي الإنقسام وتعود الأمور لطبيعتها وعادتها التي عهدناها ايام ديمقراطية غابة البنادق.

3- الإعلان للعالم برفض الفلسطينيين للواقع الراهن، وإظهار معاناتهم من براثن الإحتلال بصوت واحد وموحد وبشعارات واحدة وراية واحدة في كل أرجاء الوطن الفلسطيني وذلك بانتفاضية شعبية على غرار انتفاضة 1987م وذلك بفعاليات شعبية منتظمة ومنظمة ووفق برنامج موحد تجمع عليه المكونات الشعبية الفلسطينية، من طلاب ونقابات واتحادات نسوية وجمعيات وفصائل وأحزاب، والخروج بمظاهرات واحتجاجات سلمية وفعاليات شعبية ضمن البرنامج الموحد، تعبر عن رفضها للإحتلال ومقاومتها المشروعة له، مما يؤدي الى التفات الهبات الشعبية العربية للقضية الفلسطينية والتي ربما تعيد الوعي الشعبي العربي للقضية الفلسطينية والذي غيبته الأنظمة الحاكمة الظالمة. وتزيد بالضغط على المصالح الأمريكية في المنطقة والتي بدورها ستجبر اسرائيل على المثول للقرارات الدولية.

على المستوى التربوي والتعليمي والثقافي والرياضي
1- يجب على كل أسرة فلسطينية تربية أبناءها تربية وطنية وحدوية وذلك بنبذ الدكتاتورية الأبوية، والإستماع الى ابنائهم وتعويدهم على الحوار وتقبل الرأي الآخر، وعلى تعميق حبهم للأرض والوطن، ومدهم بالحنان، وذلك لتقوية شخصياتهم وتعويدهم على الصبر والثبات على المواقف المبدئية الثابتة، وعلى إعمال الرقيب الداخلي للإنسان بوازع من ضميره الحي المبني على القيم والكرامة، وعلى تحمل المسئولية، وعلى الإعتراف بالخطأ الذي هو من طبيعة النفس البشرية وعلى المصارحة قبل استفحال الخطر، ومعالجة أخطائهم بالتصحيح والتوجيه وليس بالردع والعقاب والكبت.

2- على مسئولي التعليم العمل على تطوير المناهج لترسخ في الطلاب المفاهيم التربيوية السليمة، امتداداً لدور الأسرة، وكذلك ترسيخ المفاهيم الوطنية والعقائدية السليمة بعيداً عن التعصب والتطرف. وعلى أئمة المساجد تنوير العقول بمفاهيم وأخلاق الديانة السمحة، وليس بالترهيب والدعوة للتعصب والتطرف الذي كلف لمتنا الكثير.

3- إن ما يجمع الأمة ويوحدها وينبذ خلافاتها هي الثقافة بما تنطوي عليه من تفرعات، الثقافة الدينية السمحة، والأخلاق التي نادت بها الرسالات السماوية، والثقافة الوطنية التاريخية والجغرافية، وكذلك التراث الذي يوحد الأمة وخاصة أجيالها الناشئة والبعيدة عن أوطانها بعداً طوعياً أو قسرياً ويشدهم الى وطنهم، ويزيدهم حنيناً اليه وتمسكاً به. ويجب تضمين التراث في المناهج المدرسية، لحمايته من السطو والسرقة من الخصم الذي يتورع عن طمس كل أثر فلسطيني على أرض فلسطين، وكذلك الفن بتفرعاته المسرحية والسنمائية والوثائقية. والرياضة بكل فنونها. فالثقافة والرياضة البعيدة عن التعصب عاملين فاعلين من عوامل الوحدة الوطنية، ويجب التركيز عليهما، وترسيخ مفاهيمها لدى النشأ الجديد والذي بدوره يؤدي الى تواصل القديم مع الجديد بجسور قوية ليس فيها ثغرات ينفذ من خلالها الخصوم. وقد لاحظنا في فترات من تاريخنا الوطني أن اسرائيل بادرت الى اغتيال الكلمة والفن والرياضة باغتيال فرسانها، ومن الأمثلة على ذلك اغتيال القادة المثقفين والكتاب والذين لعبوا دوراً مهماً في التوعية بقضيتنا بكل الوسائل المتاحة لهم بمواهبهم التي اقلقت العدو ومنهم غسان كنفاني، وكمال ناصر، وناجي العلي، ومحمود الهمشري وعز الدين قلق وماجد ابوشرار وقائمة طويلة من المثقفين والصحفيين والكتاب والفنانين والرسامين والسياسيين البارعين الذين عملوا على استقطاب ساحات غربية كانت مناهضة لقضيتنا. وأخيراً اعتقال لاعب منتخب كرة القدم الفلسطيني محمود السرسك والذي هزم العدو بأمعائه الخاوية لمدة ستة وتسعين يوماً. فالنضال والمقاومة لا تقتصر على البندقية، وربما كانت الكلمة والموقف السياسي اللبق والمناور أشد ايلاماً للخصم وخاصة في الحالة الفلسطينية.

كان ذلك وزناً لإتفاق أوسلو من وجهة نظر شخصية، وربما اتفقت مع قطاع شعبي، وأختلفت مع قطاعٍ آخر، واحترم المختلف معي بمقدار احترامي للمتفق، ولكنني بصفتي مراقباً للأحداث خلصت الى هذه النتيجة من منظور وطني فلسطيني بكل حيادية وتجرد دون محاباةٍ وانحياز، شخصٌ وطني فلسطيني يتوق الى تعافي الحالة الفلسطينية وعودتها الى الطريق السليم نحو الهدف المشترك لكل الفلسطينيين. وليست هذه الدراسة تعبيراً عن رأي مؤيد أو معارض للإتفاق، ولا تنطوي على تهمٍ لأي فلسطيني عمل على انجازه وتطبيقه سواءً كان محرراً أو مفاوضاً مجتهداً في البحث عن حلول. ولا أشك يوماً في وطنية الذات الفلسطينية، وأكره جلد الذات الفلسطينية كرهاً شديداً. فمن يجتهد ربما يخطيء، وربما يصيب وكذلك ينطبق الحال على من يعمل. ولكن العبرة في أخذ الدرس وعدم اللدغ من الجحر أكثر من مرة أو مرات.

أحمد إبراهيم الحاج
18/07/2012م

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت