ليس ككل الشهور, وليس ذلك فقط لأنَّ فضائلَه كثيرة, وأهمُّها أنه "شهر رمضان الذي أُنزِلَ فيه القرآن هدى للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان", فكان دليلاً للإنسان, والإجابةَ الخاتمة على نزولِ الإنسان إلى الأرضِ وبدءِ دوره عليها, بعد خطيئة الشجرة, وما وعد الله الإنسان: "فإمّا يأتيَنَّكم مني هدى فمن تبِعَ هدايَ فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون", وهذا يحيلُ إلى ذلك المشهد الكريم, الذي لا يجهلُه أيٌّ من البشر, حين نزل آدمُ من الجنة, وهو الحدث الذي قرره الله سبحانه, دون أن يدعَ عبيده يتيهون بضعفهم الجسدي والمعرفي والإدراكي, ودون أن يَكِلَهم إلى أنفسهم, فكان هذا الشهرُ هو الذي نزل فيه هذا الهدى الذكرُ القرآنُ الخاتم, "هدى للمتقين", و"شفاءٌ لما في الصدور", ورسالة الله سبحانه إلى عبيده, وهذا أهمُّ حدثٍ كوني متعلقٍ بالبشر, "نزول القرآن في رمضان بعد نزولِ الإنسان", حدثٌ يمسُّ مصير الجنس البشري, وإضاءة لأشواق الروح الإنسانية وهدى لأسئلتها الكبرى التي هي غاية وجودها, ونورٌ لها في طريق توازنِها واستقرارِها وتكاملها وتحقيق غاية وجودها "وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلا ليعبدون", ...
ليس لذلك فقط, فهو - شهرُ رمضان - يجيءُ في عز تلقائيتنا البشرية ليكون منعطفاً يصدمُ هذه التلقائية العادية ويجعل للشهورِ إحساساً مختلفاً بها, كما به, فنعي فجأةً كم كنا مختلفين ونحن نستيقظُ يومياً نشربُ يومَنا وقهوتنا وننغمسُ فيها برتابةِ كلِّ أيّامنا وانهماكاتنا واشتباكاتنا, ها نحن نكسرُ الرتابةَ في القهوةِ والوقتِ والمشاعرِ, ونستيقظُ فينا, نتبرعمُ مختلفين حتى في إحساسنا بما سبق من شهور, وتُستحَثُّ في موطنٍ ما مِن مكنونِنا حواسُّ تَرى ما لم نكن نرى, هل تغيَّرَتْ الأشياءُ؟ أم رأيناها كما هي بعد أن امتلكنا من أدوات الرؤية ما لم نكن نملك؟ أم انزاحت حُجُبٌ كانت تحولُ ما بيننا؟ وهذا يفتحُ على أسئلة المعرفة والحقيقة, وعلى حقيقة المعرفة وتعريف الحقيقة, دون أن نضطرَّ لاستخدام مصطلحات الإبستومولوجيا,
وهو إذ يكسِرُ عادةَ الغريزة, وبداهةَ الاستجابة لنداءات الإنسان, كلِّ نداءات الإنسان, دون أنْ يكونَ مانعُ تحقيقها عدمَ القدرة أو عدمَ الوفرة أو عدمَ الإمكان, إلا الاختيار, محض الاختيار, فإنَّ هذا يولّد نفَساً جديداً وهواءً مختلفاً, يدفعُ لإحساسٍ مختلفٍ حتى بالمحسوس, وتستيقظُ نهاياتٌ عصبية وتتجدد أخرى كما لو قمنا بإعادة جلائها أو توليدها وكما لو كانت تستهوي المهيِّجات لأوّلِ مرة, تُرهَفُ حاسّةُ الحاسّة, كما لو كانت الحواسُّ تتغذى بالحرمان وتنضجُ بالعزلةِ وترتقي بالصيام, بل تكاد تنبتُ كُوّاتٌ أخرى تَفتحُ على ما يتسرّبُ من بين أصابعنا حين نحاولُ أن نلجمَه بالإبهام, بعد إزالة شمعِ الأذن الكامل يسترجع السمعُ صفته الأولى القادرة على تمييز حفيف الستائر واحتكاك الهواء بأوراق الأشجار,
وإذا كان الإنسان يصدرُ في كينونته الكاملة عن مصدرٍ واحد ويستجيبُ كوحدةٍ واحدة للمؤثر , فإنْ افتقدَ شيئاً فهو لا يجوعُ فقط ولكنه يتألم, ويغضب ويثور ويتحرك ويُعمِلُ عقله ويُخطط وقد يتآمر وقد يحقد ويحسد وقد يستحثُّ هذا فيه الفكرَ والتأمُّلَ والتساؤل عن العدل والمساواة والحق, وقد يعتنقُ فكراً ما شرقياً أو شماليا, ويحدثُ كلُّ هذا بانسيابٍ وسلاسة دون قرارٍ منه بذلك, فهو يكون أيضاً كذلك حين يُحرَمُ مِن تلقائيته البشريّة والاستجابة لنداءات الإلحاحات التي تشدُّه لأبعادِه الأسيرةِ للعالَم فيسري في أبعادٍ أخرى, كأنَّ تلك الاحتياجات كانت تغلِقُ مسامَّ بصائره, أو تغشى على بصائرَ مجهولةٍ فيه, فتحرّرها وتفتحُ الطريقَ أمامها لترى أو تُحِسَّ أو تُدركَ ما لم تكن حتى الآن قد أدركتْ, وتسبر دروباً أخرى, كأنّه إسراءٌ بالذات وقد تحررت بالصبر الجميلِ من حبال الجذبِ إليها, وانفتحت على جوانبَ فيها كانت محجوبةً بصلصالٍ هو أصلُ الخلق فيها, وانفلتَتْ من سلالة الطين, إسراءٌ واستعلاءٌ يكشفنا لنا ويُجلّي المشهدَ العامَّ, كأنَّ العالَمَ غيرُه, وقد تجاوزْنا ظاهِرَه الذي وَقَرَ في وعيِ حواسنا, ما يكفي لومضةٍ أنْ نستشرفَ بما لا تقدِرُ عليه لُغةُ لسان الحواس, حين تجدُ الحواسُّ ذاتها بلا مرجعيةٍ مخبريّةٍ تستندُ إليها, وكيف تصِفُ "ما لم تُحِطْ به خُبْرا", كأنَّ مساحة الجسد في النفسِ تنكمشُ لتترك فُسحةً لـِ "أمْرِ ربّي", "ويسألونك عن الروحِ قُل الروحُ مِن أمر ربي وما أوتيتم من العلمِ إلّا قليلا", فــ"سبحان الذي أسرى بعبده من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى الذي باركنا حوله لنريَه من آياتنا إنّه هو السميعُ البصير",
وإذا كانَ هبوط الإنسان إلى الأرض يكتملُ بنزول القرآن في رمضان في حركةٍ مواكبةٍ لهبوطه, فهو الهدى وهو إنجازُ الوعد الرباني لآدم, وإذا كان هذا الهبوط هو جرّاء المعصية فإنّ تنزيل القرآن هو من أجل الطاعة والسمو والصعود والإسراء في حركةٍ مقابلة, ويكتملُ المشهد الدنيويُّ بإسراء ومعراج الله سبحانه برسوله الكريم تكريماً للإنسان على الطاعة والإسلام والهدى وكأنها أيضاً إشارةٌ مقابلةُ للهبوط جراء المعصية فها هو الرسول الكريم يعرجُ إلى "مِن حيثُ هبط أبونا آدم" في اتجاهٍ معاكس وبالهدى الذي وعد اللهُ به آدمَ وذريةَ آدم, فكان رمضانُ نزولَ الهدى, والقدسُ إسراءَ ومعراجَ الرسول في الاتجاه الآخر, مكمِّلةً قولَ الله سبحانه لملائكته الكرام وقد قالوا: "أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفكُ الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدسُ لك" ... إن الإسراء والمعراج هو التصديقُ لقولِ العليم الحكيم: "إنّي أعلمُ ما لا تعلمون", وهو عودةُ وإنابةُ ابن آدم الذي اتبع الهدى فـ "لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون",
فإذا كان المسجدُ الأقصى هو رحلةُ الإسراء والمعراج وهو آياتُ الله وكشفُه لخاتم أنبيائه "وهو بالأفق الأعلى ثُمَّ دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى", "لقد رأى من آيات ربِّه الكبرى", وإذا كان "كلُّ عملِ ابن آدم له إلّا الصوم فهو لي", وقد نسبه الله سبحانه إليه, وقد واعدَ اللهُ سبحانه موسى أربعين ليلةً يصومُ فيها ليكونَ مُعَدَّاً قبلَ أنْ يُكلمَه اللهُ السُّبّوحُ القُدّوسُ ربُّ الملائكةِ والروح, كأنَّ الصوم إسراءُ الروح إلى بارئها ... كأنَّ رمضانَ - وهو شهرُ الصومِ وقد نزلَ فيه القرآنُ – هو إسراءُ الإنسان ومعراجُه إلى بارئه, كأنَّ رمضانَ هو قدسُ الزمان, بما أنَّ القدسَ هي الإسراء والمعراج, وكأنَّ القدسَ رمضانُ المكانِ وكلِّ أبعادِ العالم بما فيها الزمان.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت