الأيام يا عباد الله ثلاثة ، يوم لك نلت فيه مرادك ، وأطعت فيه ربك ، وأصلحت فيه شأنك ، ويومٌ عليك ، بما عصيت الهدى ، واتبعت الهوى ، وأَغْرَتْك الشهوة ، وغَرَّتْك الشبهة ، ويوم لا لك ولا عليك ، تساوت فيه حسناتك مع سيئاتك ، فكانت حلاوته مرارة ، ولذائذه بالإنذار شرارة ، ولكن يا عباد الله أظلكم شهر رمضان ، نهاره صيام ، وليله قيام ، و العبدُ يتقلب في يومه وليله ما بين برٍ وصلة ، وتوسلٍ ووسيلة ، وذكرٍ وتلاوة ، وتسبيحٍ ودعاء ، وعملٍ في سُنَّة ، فالأيدي بالعطاء في سبيل الله ممتدة ، والعيون من خشية الله تذرف ، والقلوب شوقاً إلى الله تحن ، وهو سبحانه الحنان ، وهو سبحانه المنان ، ما أعظم العطاء ، وما أكرم المعطي ، وما أسعدنا بالعطية ، إن رمضان يا عباد الله كله لنا لا علينا ، والمحروم من حُرم فيه الخير ، ورغم أنف من أدرك رمضان فلم يغفر له ، أسباب التوبة ظاهرة ، وأبواب الرحمة مشرعة ، ودعاء الملائكة عظيم ، فلِمَ الصدُّ والصُّدُود ؟!.. وعلام الإعراض والشرود ؟.. والله يبسط يده بالليل ليتوب مسيءُ النهار ، ويبسط يده بالنهار ، ليتوب مسيء الليل ، ورحمته جلَّ وعلا سبقت غضبه ، ووسعت كلَّ شيء ، وهو سبحانه التواب الرحيم ، وهو سبحانه الغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى .
إخوة الإسلام ، أيها الصائمون والصائمات : قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) }.
إنه يا عباد الله رمضان ، شهر القرآن.. أيها المسلمون فشمروا ، شهرٌ وأيُّ شهر ، وعبادةٌ وأيُّ عبادة ، أيها الصائمون أنتم في كنف الله وحياطته ، بين رحماته في قيامكم وقعودكم ، واستيقاظكم ورقودكم ، فطوبى لكم يا من وفقتم لصيام نهاره وقيام ليله ، أمسكتم عن الطعام والشراب والشهوة من أجل الله جل جلاله ، وسعيتم إلى البر والجود والإنعام ، بصلة الأقارب والجيران والأرحام ، تبتغون مرضاته سبحانه ، فهو الكريمُ الحكيمُ شرعُه وهُداه ، فالصيام يدعو إلى صفاء النفس ، ويهدي إلى نقاء القلب ، ويرقى بالعبد الصائم في معارج القبول مع الإقبال ، ومدارج القرب المأمول في مقعد صدق عند المليك المتعال ، ففي الصيام الانفكاك من أسر الشهوات ، والتخلص من قيد العادات ، وأنت أيها الصائم بحقٍ محفوظٌ في كل شأنك ، فولي اللهِ اللهُ وليه ، في استيقاظه ومنامه، وقيامه و قعوده، وصمته و كلامه ، ودنياه وأخراه .
يا أهل التوحيد لله والتعبد :هذه أمنا أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وهي الفقيهةُ الجريئةُ في الحق تعلم النساء مالهن وما عليهن ، تقول للنبي صلى الله عليه وسلم مالنا لا نُذْكَرُ في القرآن كما يذكر الرجال؟ ..فقد روى الإمام أحمد قال : حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عثمان بن حكيم، حدثنا عبد الرحمن بن شيبة، سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: ( قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما لنا لا نُذْكَرُ في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت : فلم يَرُعْنِي منه ذات يوم إلا ونداؤه على المنبر، قالت، وأنا أسَرّح شعري، فلففت شعري، ثم خرجت إلى حُجْرة من حُجَر بيتي، فجعلت سمعي عند الجريد، فإذا هو يقول عند المنبر: "يا أيها الناس، إن الله يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)} " اهـ .
الصائمون يا عباد الله يتذوقون لذة الشوق ، كما يتذوقون لذة التعبد ، فللصائم فرحتان كما في الحديث فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ،فلنحرص الحرص كله ، ولنخلص لله الإخلاص كله ، ولنقفو الأثر النبوي الكريم ، ولننهج الطريق السلفي القويم في كل العبادات.. وفي هذه العبادة الصيام، فما شرع الله الصيام ليجوع الناس ولا ليعطشوا ، ولكن حتى نتذوق كما ذاقوا ، ونستلذ كما استلذوا ، ونجنتي كما اجْتَنَوْا ، فإيانا جميعاً وتخرصات الخالفين ، وابتداعات المتنطعين ، التي تذهب برونق العبادة ، وبهاء العمل .
والصيام جنة من الخطايا والخطأ ، ففي سورة البقرة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) } فجاءت كلمة ( لعلَّ ) تُعلِّقُ ما بعدها على ما قبلها ، ولتفيد رجاء حصول التقوى للصائمين ، فهي مقصود الصيام العظيم ، وفي حديث الإمام مالكٍ في الموطأ عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ فَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ " .
وكفي الصيامَ شرفاً - والصائمين فخراً - أن يختصه سبحانه لنفسه دون عمل ابن آدم ، ففي الحديث عند البخاريِّ ومسلمٍ وأحمد - واللفظ للبخاري- عَنْ أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَالَ اللَّهُ : كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ ) .
عباد الله : من أقبلَ على الله قُبِل ، ومن أدبر عن الله دُبِر ، فالقبول مع الإقبال ، فلنقبل في هذا الشهر على الله بالإقبال على عباده ، ولنصلح ذات بيننا ، ولنجمع كلمتنا ، ولنوحد صفنا ،طائعين لله فبه سبحانه صلاح الأحوال ، وقبول الأعمال ، فلنرفع أكف الضراعة بالابتهال ، اللهم فرج عنا الكروب يا علام الغيوب ، وارفع عظيم البلايا بجليل العطايا ، اللهم و اغفر لنا الذنوب والعيوب والآثام و الخطايا ، ووفقنا لتقبل منا الصيام والقيام ، وأكرمنا لتدخلنا الجنة دار السلام ، أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام .
فيا أيها الصائمون :طوبى لكم قيامُ رمضان مع صيامه إيماناً واحتسابا ، فقيام الليل شعار الصالحين فقليلاً من الليل ما يهجعون، ودثار المتقين فبالأسحار هم يستغفرون ، ونهج السالكين يسبحون الليلَ والنهارَ لا يَفْتُرُون ، وكما قيل : لأهل الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم ، يخلو العبد لمناجاة ربه ومولاه ، فينجو من حَجْبِ وحُجُبِ الشهوات ، وينشغل عن شُغْلِ وشَوَاغِلِ المشكلات ، وينصرفُ عن صوارف التقاليد والعادات ، يُقْبِلُ على رب الأرض والسموات ، يتصل لسانه بقلبه ذاكراً متبتلاً ، فيقف بين يدي الله متذللاً ، ويشرق وجهه ذاكراً متهللا ، لكأنه هو المَعْنِيّ بما جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ورواه البخاري قال :حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " .
كيف لا وقد فتحت أبواب الجنات ، وتيسرت سبيلها ، وغلقت أبواب النيران ، ونادى المنادي ، فقد روى البخاري ومسلم والنسائي وابن خزيمة واللفظ له ، والبيهقي في شعب الإيمان والطبراني في الأوسط قال ابن خزيمة : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ بْنِ كُرَيْبٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ مَرَدَةُ الْجِنِّ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجِنَانِ ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ ، وَنَادَى مُنَادٍ : يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ " اهـ .
وأما المحرومون في رمضان فما استمعوا لناصح ، ولا انتفعوا بهداية ، ما أصغوا لمكلوم ، ولا التفتوا لمعدوم ، وما رَقُّوا لثكلى ، في أعراض العباد يسرحون ويمرحون ، وفي المال الحرام بالخطايا يرتعون ، على الهوى مقبلون ، وعن الهدي معرضون ، يقيمون على ما يشتهون ، شغلتهم الهدِيَّاتُ عن الهدايات ، لا يرحمون ولا يتراحمون ، فما رحموا ولدا ، ولا عظموا والدا ، ولا أطاعوا نبيا ،وحالهم ما جاء في سنن البيهقي الكبرى عن الوليد بن رباح عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتقى المنبر فقال : " آمين ، آمين ، آمين ، فقيل له : يارسول الله ماكنت تصنع هذا ؟ .. فقال : " قال لى جبرئيل عليه السلام :رغم أنف عبدٍ دخل عليه رمضان فلم يُغْفَرْ له ، فقلت : آمين .ثم قال : رغم أنف عبد ذُكِرتَ عنده فلم يصل عليك . فقلت : آمين .ثم قال :رغم أنف عبدٍ أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل الجنة .فقلت : آمين " أهـ . اللهم فكفهم عنا بهدايتك إياهم ، وكفنا عنهم برحمتك إيانا ، يا أرحم الراحمين .
عباد الله أيها الصائمون : قد أمركم الله بادئاً بنفسه كريماً عليما ، وثنى بملائكته آمراً حكيما ، فقال : {إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}الأحزاب 56 .. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد ، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الأئمة المهديين - أبي بكر وعمر وعثمان وعلي – وعن آله المرضيين ،وسائر الصحابة أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنك وكرمك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت