نعيد.. و نزيد..!!

بقلم: توفيق الحاج


تنويه:
ليس نضوبا في معين الفكرة والكتابة.. وليس ركودا في محيط الحدث وحكايات الصحابة.. وانما هو الشهر الفضيل ..الجأ فيه الى ما كتبت فيه..مع بعض التصرف حسب الموقف..!! خاصة وان المرء يحتاج أحيانا الى استراحة صوفية قصيرة تعينه على استيعاب الحادثات الجاريات والمفارقات المضحكات المبكيات في حارة الربيع العربي والمحلي..!! وفي مثل هكذا حالة ..سامحوني ..أيها القراء .. فليس من طبعي الإطالة.. ودمتم.

اللهم إني صائم2

مع قدوم شهر رمضان المبارك ... عقدت العزم على أن أصوم في هذا الشهر الكريم عن الحديث في السياسة ،وملحقاتها ليلاً نهاراً ... تماماً كما فعل ذات مسلسل.. أستاذنا " غوّار الطوشى " الذي قرر الصيام عن المقالب ،وطول اللسان طوال شهر رمضان ..!!
ورأيت أنه كلما أغرتني أو أدهشتني أو فلقتني الأحداث المتلاحقة في الشارع ... وفي النت و في الفضائيات ...!! ألا أتسرع بالتعليقات، بل أستغفر الله ،وأقول في هدوء " اللهم إني صائم " ثلاث مرات ...!!
مع إني لا أعد القراء بالوفاء بهذا العهد، لأن السياسة كالجرب والكتابة كاليد التي لا يستطيع (كل الهراوات) منعها من أن تحك الموضع المتهيج والمؤلم في ليل موحش وطويل..!!
لم أجد أفضل من " رمضان " في رمضان .. ليكون موضوع حديثي إلى القراء ... لأن هذه الكلمة العظيمة تشرِّف المقال والمقام والانسان والزمان عدا عن أنها تحمل مفاتيحاً حميمة للذاكرة المشتعلة بعبق الطهارة والبراءة والتواصل وحب الناس .
كلمة "رمضان" تضم بين حروفها عِبراً ومعانٍ إنسانية عالية من تقوى وتراحم وصبر وشعور بالاخرين ...وهي في ذكريات طفولتي تلتصق بصوت الآذان ... الإفطار ... سيد النقشبندي ... التراويح ... عبد الباسط عبد الصمد...قمر الدين ... ألف ليلة وليلة ... واصحى يانايم وحد الدايم ...وقمر الدين.. و رائحة القطايف والكعك ... أنوار المآذن والشوارع والمحلات التجارية الساهرة .. ساق الله.أيام هنانا في صبانا ...!!
رمضان بطبعته الجديدة يأتي في تموز ضيفا متبرما.. ويكاد يختنق مع الانجاز الحضاري المسمى ( برنامج الكهرباء) بين جدران الاسمنت الملتهبة، بينما وجوهنا العابسة ،وألسنتنا العصبية الجافة تفصل بيننا وبين الاهل و الجيران ..!!

رمضان لم يعد كما كان في أيام الطفولة ،بل بالأحرى لم نعد نحن بالبراءة، وحب الحياة كما كنا في رمضان الطفولة ..!!
لم نكن قد عشنا بعد..الاحتلالات والنضالات والبطولات والسياسات و الحكومات والانقلابات والانقسامات والمصالحات والربيعيات المباركات..!!
أتذكر فيما يشبه الحلم البعيد .. اللحظات السعيدة النقية التي كانت تجمعنا صغاراً وكباراً مع ذلك الزائر الكريم الذي يزورنا كل سنة مرة ...
أتذكر كيف كنا نتبارى في إخراج " اللسان الأبيض " دليلاً على الصيام ،ونتباهى بصوم (نص نهار) على أقراننا المفطرين بفتوى من (ستي ) التي كانت تشفق علينا ونحن نتلوى جوعا وعطشا.. !!،وكيف كنا نطارد النهار ببراءة الطفولة حتى يؤذن لصلاة العصر ... ،فنذهب ونصلي ثم نتجمع حول المسجد الوحيد في المخيم ،وبجوار الكثبان الرملية الصفراء البكر .. نتجارى عند الختيارية أبطال (الدريس والسيجة )الكبار ،ونلعب معاً " الحدر بدر " و" الكسحة " و....و....
كانت آذاننا باتجاه مسجدنا الزينكو ،وعيوننا باتجاه مئذنة جامع البلد الكبير التي تضيء أنوارها بمجرد أن يحين موعد آذان المغرب .. وما أن يصعد "أبو العظم " على حائط المسجد للأذان حتى نصيح نحن الأطفال صيحة الفرح المحببة إلى القلوب ،وبمجرد أن نسمع " الله أكبر " حتى نهرول مسرعين متسابقين إلى البيوت لنجد العائلة الكبيرة ..الجدين والوالدين والأعمام وزوجاتهم وأولادهم يتحلقون حول مائدة واسعة .. كلنا "أكثر من ثلاثين فردا "كنا نجتمع على مائدة إفطار واحدة ...!!
ما الذ البامية الناشفة واليرقات تطفو على السطح ..!! يا الهي ...الفقر والجوع يجعلان كل طعام مهما كان لذيذا..!!
ما أجملها من لحظات كانت تتجسد فيها الحميمية والتكافل .. لحظات تفرزها الذاكرة فتجرح عن غير قصد القلوب التي تشعر الآن بالوحدة والغربة والتصنع .
كنا نتبادل والجيران عبر " طاقة " صغيرة في الجدار صحون المالح والحلو ، ونجلس معاً في سهرات رمضانية محببة نتحرق فيها لسماع قصص " ألف ليلة وليلة " من الإذاعة المصرية ،ونسبح نحن الصغار في عالم الخيال عبر صوت "شهرزاد "التي تهمس (مولاي) للملك شهريار وتحكي عن الإنس والجان والأميرة الجميلة "نورهان" والغول السجان ... كان راديو " الكبايات " الوحيد في حارتنا يملكه جارنا " أبو محمد " وهو لنا بمثابة السينما والتلفزيون والفيديو ... والصحف ... والانترنت ... وكنا سعيدين إلى أبعد الحدود بهذا الجهاز الساحر ..!!
كنا نحن الأطفال نزدرد على عجل بعض لقيمات ثم نهرع إلى ساحة الحارة لنلعب " اللي بتحيا "و" طرقت" و " اشقح يا دينار " على ضوء القمر ،وعلى مقربة منا كان يجلس الأهل والجيران يتبادلون الحديث بود وحب..
نسهر احيانا حتى يحين موعد السحور ... فنتطوع أحياناً لمساعدة " المسحرين " ونرنم آذاننا بأنغامهم الشجية " إصحى يا نايم .. وحِّد الدايم .. رمضان كريم " والتي تزداد شجواً في الوداع (لا اوحش الله منك يارمضان).
نعود إلى بيوتنا منهكين ... لكن فرحين بهذه اللحظات البريئة الرائعة لنجد الوالدة الطيبة قد أعدت لنا سحوراً من " دبس االقصب المصري الاسود " غالباً و " قمر الدين " نادراً مع الجبنة البيضاء ونحشو المعدة حشواً ونشرب بأقصى ما نستطيع تحسباً ليوم صيام قائضٍ، وطويل .
كانت أيام لكل شيء فيها طعم .. هل هو طعم الطفولة أم طعم الحياة بلا مسئولية ؟
هل هو طعم العلاقات العفوية الطيبة بين الناس ؟ لا أدري .
لم تكن المائدة عامرة آنذاك بما تعمر به موائدنا الآن ولكنها كانت بالقطع ألذ طعماً وأكثر بركة .
لم يكن طعم القطايف والكعك اللذين يخرجان كالدبابير في " الصواني " من فرن "أبو حسني" كطعم قطايف وكعك هذه الأيام ..
كان أهل الحارة يتبادلونهما باريحية وتصميم .. رغم أنهم كانوا فقراء جداً ينتظرون بفارغ الصبر حصة تموين وكالة الغوث آخر كل شهر ...
اليوم ... يبدو كل شيء بارداً .. مصطنعاً ... غاية في التكلف والجفاف .
اليوم ... رمضان غريب.. يحس بالوحشة بيننا ، ويتمزق على الفضائيات وبرامج ومسلسلات الفاتنات اللبنانيات..!! حتى مفهوم الصيام الحقيقي غاب عن كثير من الناس ،فبينما يتحلق الاثرياء الجدد المتكرشون حول موائد ما لذ وطاب لا يكلفون أنفسهم عناء التفكير في مشاعر أسر الشهداء والمعتقلين الذين يفتقدون الآباء والأبناء والأخوة على مائدة افطار من شاي وزيتون ..!!
أتذكر أمي الامية رحمها الله التي كانت تقدم بصمت وإيمان صدقة الفطر مما تبقى لنا من طحين الوكالة بينما أرى الآن تحايل أصحاب الأموال والأطيان على الزكاة برمتها .
أتذكر كيف كان والدي يحضر سلتين كبيرتين مملؤتين بالخضار والفاكهة بعشرين قرشاً مصريا بينما لم أستطع بجلالة قدري أن ادفع أمس في زحمة مولد الجامع الكبير..!! معجل (كيلو ليمون) قدره 15 شيكل ..!! ومؤخر كيلو قطايف وقدره 20شيكلا
الان ..كل شيء غالي .. الدولار فك طوق الاربعة.. ولم يبق الا البني ادم البدون ..!!رخيصا.. امام نصف راتب او عطف الشئون..!!
والشارع ينام ويشخر عندما لاتقف الطوابير أمام الصراف الالي..!!
أتذكر كيف كان الناس يقابلون بعضهم البعض ببشاشةٍ وترحاب .. وكرم عفوي لا قصد من ورائه إلا الأصالة والحب ... بينما الآن الوجوه غالباً عابسة مكشرة .. والأقدام مسرعة .. والسلام بالإشارة ... والمحبة ضائعة ...الجار لايرى جاره الانادرا و القريب لايعلم عن وفاة قريبه إلا بالصدفة وبعد وقت طويل .. يا للعجب ..!! وان علم "يطنش "من فرط ما تضخم القلب بالحقد والحسد
أتذكر كيف كانت تمر ليالي رمضان ..آمنة..ناعمة ... لذيذة .. هادئة ومفعمة بكل طيب ،بينما الآن هي لا تختلف عن باقي الليالي المليئة ببلاوي المفرقعات المزعجات.. وإطلاق النار المجهول ... وحياة الكانتونات الأسرية المغلقة ... العرس والميتم في حارة واحدة...بل وفي الشارع الواحد..صوت الشيخ الطبلاوي يختلط بصوت"هيفا" دون إحساس بالعار أو الخجل..!!

الى هذه الدرجة تدهورنا وتبلدت مشاعرنا وعواطفنا واهترأت علاقاتنا وأصبحنا ننظر الى بعضنا البعض شذرا وربية كما الاخوة الاعداء..!! لاينفع فينا وعظ.. ولايجدي ارشاد..

أتذكر اليوم ،وفي ذكرى ثورة يوليو التي تمر (سكيتي)..!! كيف كنا في طفولتنا نحلم مع صوت عبد الناصر ،وأحمد سعيد بتحرير مدننا ،وقرانا في فلسطين 48 ... في حين نعيش الان .. ومنذ45عاما في فلسطين كلها.. تحت بساطيرالاحتلال.. وفي طوق من الجدار والمستوطنات ... والحواجز ... والقصف والاجتياحات والانقسامات والمناكفات والمهاترات والمحررات والميليشيات وجرائم الخطف والموت الغامض والسرقات... وتجارب أنصاف وأرباع الحلول و...و....مابين المفاوضات والتهدئات.. وصولا الى حلم ابليس في المصالحات..!!
جلدي يحكني أكثر.. فاهرش..
ترى ما آخر الاخبار .. الفتوحات .. من فتح القسطنطينية الى فتح دمشق..؟!!
وقعت البقرة السورية..و كثرت سكاكينها .. الله لا يردها...!! على هذا يتفق العربان والتركان والعجم ويتلمظ اليهود ويهلل البجم..!!
عزيز مصر.. لا يشارك في جنازة الميت بحسرته عمر سليمان .. ليثبت للجميع انه حصريا رئيس الاخوان..!!
بلعين ..وحدها تقاوم..!!
الضفة لاتزال تصرف ،وغزة تقبض ..والحال محلك سر.. حسنة لله من السعودية وبعدين ... السلطة لا تدري الى اين تفر؟!!
ياه .. يبدو أنني خرجت عما عقدت العزم عليه .. ودخلت في مستنقع السياسة دون قصد مني .
اسف..
الله يخلليلنا عباس وهنية..!! وغير الوطن ما في قضية..!!
اللهم إني صائم ...
اللهم إني صائم ...
اللهم إني صائم ...
وانت يامؤذن..أقم الصلاة...

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت