إعلانُ قطاعِ غزّةَ محررًا

بقلم: هاني المصري


بالرغم من نفي محمود الزهار وأسامة حمدان إلا أن تقارير إعلاميّة مستندة إلى مصادر في "حماس" أشارت إلى أن نقاشًا في "حماس" يدور حول إعلان قطاع غزة محررًا، في محاولة لتوظيف المتغيرات في مصر لصالح "حماس".

بدايةً، لا بد من الاعتراف بأن وضع الضفة الغربيّة بعد تطبيق خطة الفصل الإسرائيليّة بات مختلفًا عن قطاع غزة، ولكن ليس إلى درجة اعتبار أن الضفة محتلة وقطاع غزة محررًا، وإنما الأولى خاضعة إلى احتلال مباشر والثاني إلى احتلال غير مباشر.

لقد كنت من الأقليّة التي انتقدت الاحتفالات الفلسطينيّة بـ"تحرير" قطاع غزة التي نظمتها مختلف الفصائل من دون استثناء، ليس لأن خطة الفصل لا تعكس خطوة إسرائيليّة إلى الوراء ترجع في أحد أسبابها إلى صمود شعبنا في القطاع ومقاومته الباسلة التي دفعت القادة الإسرائيليين إلى التمني بأن يبتلع البحر القطاع؛ بل لأنها كانت من أجل عشر خطوات إسرائيليّة إلى الأمام في الضفة الغربيّة، وخصوصًا في القدس، وكما ترمي إلى استعادة زمام المبادرة وقطع الطريق على قيام دولة فلسطينيّة.

فإسرائيل التي "انسحبت" من القطاع، واصلت حصاره البري والبحري والجوي، واحتلال شريط من أرضه، وقامت بالعدوان عليه بالحرب الواسعة أو بالاقتحامات والاغتيالات المستمرة، الأمر الذي يجعل القطاع محتلًا، وفق القانون الدولي الذي ينص على أن أي أرض تبقى محتلة إذا مارس الاحتلال أي نوع من أنواع التأثير عليها.

لم ينجح الحصار في إسقاط حكومة "حماس" ولا في دفعها لقبول المصالحة وفقًا لشروط لا تناسبها، وبالرغم من أن "حماس" تغيرت كثيرًا حتى يتم الاعتراف بها، سواء في برنامجها السياسي أو من خلال تعليق المقاومة المسلحة وتخفيف شروطها للمصالحة، إلا أنها استخدمت هذا التغيير للاستمرار في سيطرتها الانفراديّة على القطاع، ومن قبيل كسب الوقت والسعي إلى الحصول على مصالحة تمكنها من الاحتفاظ بما لديها (نتائج انتخابات 2006، والسيطرة على القطاع)، ما دامت لم تتمكن من المشاركة الفاعلة في المنظمة والسلطة تمهيدًا لقيادتها، الأمر الذي يحول دونه استمرار الاحتلال المباشر في الضفة الغربيّة. فالاحتلال قادر على جعل أي اتفاق للمصالحة لا يرضى عنه حبرًا على ورق في الضفة الغربيّة على الأقل.

فنحن عالقون في ورطة شديدة، لأن استمرار الانقسام سيؤدي إلى تعميق الفصل بين الضفة والقطاع، شئنا أم أبينا، سواء من خلال إعلان القطاع محررًا أو من دون ذلك، مع أن هذا لا يبرر هذا الإعلان ولا استمرار الحصار أو المساهمة في استمراره على القطاع.

كما تظهر الورطة في أن المصالحة المسموح بها هي التي تتم على أساس الشروط الإسرائيليّة الدوليّة، وعلى أساس عودة العمل باتفاقيّة 2005 حول معبر رفح، التي تعطي لإسرائيل حق التدخل، ولو عن بعد، على المعبر دون أن تكون متواجدة، وأيضًا تظهر في أن الحصار ليس حصارًا محكمًا بسبب الأنفاق التي كسرت الحصار وألحقت أضرارًا فادحة باقتصاد القطاع، وساهمت في إيجاد شرائح مستفيدة من الانقسام، ومن مصلحتها استمراره.

الخروج من الورطة ممكن من خلال الإدراك أن لكل شيء ثمنًا لاستمرار الانقسام أو لاستعادة الوحدة، وعلى الفلسطينيين اختيار الوحدة، لأن ثمنها أقل من ثمن الانقسام. فالحل موجود، ويمكن تنفيذه في حال توفر الإرادة السياسيّة لدى الأطراف الفلسطينيّة المتنازعة، بحيث تشرع في عمليّة قادرة على إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنيّة على أساس برنامج قواسم وطنيّة مشتركة، وفي سياق إحياء المشروع الوطني وإعادة تشكيل المنظمة على أساس الأهداف والحقوق الوطنيّة بعيدًا عن شروط اللجنة الرباعيّة، وبما يجمع ما بين الحفاظ على الحقوق الوطنيّة والقدرة على الفعل السياسي المنسجم مع موازين القوى القائمة، والذي يقتضي بأن يكون برنامج الحكومة مستندًا إلى القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وقراراتها، بما يحافظ على المكتسبات التي توفرها الشرعيّة الدوليّة، وتوظيفها ضد الاحتلال، وعدم تمكينه من تحييد العامل الدولي أو جذبه للانحيار إلى إسرائيل.

معضلة "حماس" أو بعض الأوساط فيها أنها تريد إعلان قطاع غزة محررًا دون أن يكون ذلك جزءًا من مشروع وطني شامل يحقق المصالحة، وفي ظل غياب المقاومة، حيث غدت المقاومة مجرد شعار تطبيقه معلق برحم المستقبل المجهول، ما يؤدي في أحسن الأحوال إلى قيام دولة فلسطينيّة في غزة، دولة ستكون محاصرة ومعزولة وغير معترف بها وعبئًا على مصر، وتستطيع إسرائيل الاعتداء عليها بحريّة ووحشيّة أكبر، ما يعني أن قدرتها على المقاومة ستكون أقل، ومن شأن إقامتها أن يصب من دون قصد في خدمة المشاريع الإسرائيليّة الرامية إلى تطبيق الخطوات الأحاديّة، بما فيها ضم كل أو معظم المناطق المصنفة (ج) إلى إسرائيل، والدولة ذات الحدود المؤقتة، ورمي القطاع في حضن مصر، ومعازل الضفة في حضن الأردن.

وهنا، لا يكفي لتبرير هذا التوجه أو التقليل من خطورته القول إن تشكيل الإطار القيادي المؤقت للمنظمة المنصوص عليه في اتفاق القاهرة يوفر الوحدة المطلوبة بين الفلسطينيين، ويمنع من جعل إعلان القطاع محررًا خطوة ضارة، ولكن هذا الإطار لم يشكل واستعيض عنه بلجنة المنظمة التي لا تملك صلاحيات قياديّة.

وما حال دون تشكيل الإطار المؤقت هي الأسباب نفسها التي حالت دون تشكيل حكومة الوفاق الوطني، أو دون إعادة تشكيل وإصلاح وبناء وتوحيد الأجهزة الأمنيّة، أو دون التحضير لإجراء الانتخابات على كل المستويات بصورة جديّة؛ وهي: أولًا، تغليب المصالح الفئويّة والفرديّة والسعي للهيمنة، خصوصًا بعد تعمق الانقسام ومأسسته، وعدم استعداد "فتح" و"حماس" دفع ثمن هذا الاستحقاق، وبعد وزيادة نفوذ جماعات الانقسام هنا وهناك سلطة وثروة. وثانيًا، تأثير العوامل الخارجيّة، خصوصًا العامل الأميركي - الإسرائيلي الذي يصر على قيام المصالحة بناء على شروط الرباعيّة، وإلا فلن تكون أبدًا.

إن "حماس" الآن تراهن على وجود محمد مرسي أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين على كرسي الرئاسة بمصر حتى يساعدها على رفع الحصار كليًّا عن قطاع غزة وإعلانه محررًا، وتنسى أن الرئيس مرسي مقيد الصلاحيات، وأن الصلاحيات الفعليّة، خصوصًا فيما يتعلق بالأمن والدفاع والسياسة الخارجيّة في يد المجلس العسكري، وأن الإشارات التي أطلقها منذ توليه الرئاسة تظهر أنه حريص على الاستقرار الإقليمي، والمحافظة على معاهدة السلام مع إسرائيل، وأنه غير مستعد للإقدام على ما من شأنه إثارة متاعب جديدة في وقت مصر أحوج ما تكون إلى التركيز على حل مشاكلها الداخليّة، وخصوصًا الأمنيّة والاقتصاديّة.

تأسيسًا على ما سبق، أعلن مرسي حرصه على إتمام المصالحة الفلسطينيّة، وأنه يقف على مسافة واحدة من مختلف الفصائل، حيث استقبل الرئيس الفلسطيني أولًا في دلالة على احترامه للشرعيّة الفلسطينيّة، وأكد في لقاءيه مع الرئيس ومشعل على أنه سيبذل كل ما يستطيعه لرفع الحصار عن قطاع غزة وإتمام المصالحة.

وإذا لم تبادر الأطراف الفلسطينيّة المتنازعة إلى التخلي عن شروطها الخاصة لإتمام المصالحة، أو عن مساعيها لإدارة الانقسام وليس إنهاءه، فأقصى ما يمكن الوصول إليه في عهد مرسي هو تخفيف الحصار عن قطاع غزة، بحيث يمر من معبر رفح أعدادًا أكثر بقليل، واستمرار "عمليّة" المصالحة من دون مصالحة على غرار عمليّة السلام المستمرة كـ"عمليّة" من دون سلام منذ حوالي عشرين عامًا.

لن تستطيع مصر أن تلعب دورًا فاعلًا إذا لم تكن الأطراف الفلسطينيّة مستعدة لإتمام المصالحة، وإذا لم تستقر تمامًا بعد اجتياز المرحلة الانتقاليّة واستكمال مؤسساتها الدستوريّة ووضع الدستور، الذي يحدد صلاحيات الرئيس والبرلمان والعسكر بما ينسجم مع نظام سياسي ديمقراطي قادر على النهوض.

إذا خضعت "حماس" ووافقت على شروط الرباعيّة تمامًا يمكن أن تحدث المصالحة، "ونكون كلنا في الهم سواسية"، وعندها سينشب تنافس داخلي محتدم بين "فتح" و"حماس" على من الطرف الأجدر باعتماده أميركيًّا وإسرائيليًّا ودوليًّا لقيادة الفلسطينيين.

بصراحة وكل صراحة، من دون ضغط قوي من داخل الأطراف المتنازعة والقوى الأخرى والفعاليات الوطنيّة والشعب الفلسطيني في داخل الوطن وخارجه، لا يمكن إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة حتى على مراحل، وهذا الضغط غير متوفر حتى الآن، ولا يعرف أحد متى يمكن أن يتوفر. فالشعب الفلسطيني لن يتحرك بقوة لتحقيق المصالحة بين "فتح" و"حماس" فقط، فهذا هدف لا يستحق لوحده المخاطرة بفرض الحصار والمقاطعة ونزع الشرعيّة الأميركيّة، وربما الدوليّة عن السلطة والمنظمة، وإنما يجب أن يكون التحرك من أجل المصالحة عندما تكون جزءًا من مشروع وطني شامل قادر على إنقاذ القضيّة الفلسطينيّة وتحقيق أهدافها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت