التبرئة التي حظي بها "ايهود اولمرت"، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، من قضايا فساد، كانت قد أطاحت به من رئاسة الحكومة عام 2008، فاجأت الحلبة السياسية في إسرائيل، فاجأت خصومه من جهة وأصابتهم بالصدمة، فيما استقبلها أحباؤه بارتياح وترحيب من الجهة الأخرى، وقد ظهر بجلاء أن خصومه السياسيين تنغصوا من تبرئته، إذ أنهم يخشون عودته للعمل السياسي-الحزبي، والمنافسة للعودة إلى الحكم، مع أن "أولمرت" لم يكشف بعد عن برامجه المستقبلية، بانتظار بعض العوائق، والحذر وعدم التسرع، إذ أنه يخشى استئناف النيابة العامة على حكم البراءة، كما أنه ينتظر ماذا سيكون الحكم عليه بتهمة خيانة الأمانة التي أدين بها، وحكمها الأقصى السجن سنة، أو السجن مع وقف التنفيذ، بعد أن بُرئ من ثلاثة تهم أخرى، ويتخوف أن تفرض المحكمة عليه بـ "وصمة العار"، فإذا حكم بالسجن أو "بوصمة العار" فسيكون هذا الحكم عائقاً قانونياً أمامه في العودة إلى الحكم، أو أن يشغل منصب وزير في الوزارات القادمة.
لقد أعادت قضية "أولمرت" الحديث والتعليق والتحليل عن اغتيال رئيس الوزراء السابق "اسحاق رابين"، ووجدوا أن هناك قاسماً مشتركاً بين اغتيال "رابين"، ومحاكمة "أولمرت"، فـ "رابين" اغتيل من قبل يهودي يميني متطرف، مدفوعاً من قبل الحاخامات الحاقدين المتطرفين، للتخلص منه على خلفية "اتفاقات اوسلو"، وعملية السلام مع الفلسطينيين، أما "أولمرت"، فمحاولة اغتياله جاءت سياسياً بتلفيق تهم بالفساد إليه، وذلك على خلفية مفاوضاته مع الفلسطينيين، وتقديمه تنازلات من أجل تحقيق السلام، وتعمقه إسرائيلياً بالمحظور، فإن كلا الحالتين تُدرجان ضمن الاغتيال السياسي، لسد منافد السلام، الأمر الذي أتاح لـ"نتنياهو" الوصول إلى الحكم، فالمرة الأولى كانت بعد اغتيال "رابين"جسديا، والثانية كانت بعد اغتيال "أولمرت" سياسياً عام 2008، حيث نجح "نتنياهو" بحرف المسار التفاوضي الذي بدأه رابين في البداية، وأراد "أولمرت" استكماله، لكن "نتنياهو" وضع ركائز لتدمير العملية السياسية، وأغلق بنفسه حتى طروحاته هو والتي أطلق عليها "حل الدولتين" لتحقيق السلام.
في تصريحات للوزير السابق "حاييم رامون"-أحد أقطاب حزب "كاديما"- للإذاعة العبرية بتاريخ "10-7-2012"- اتهم جهات يمينية نافذة بتلفيق التهم ضد "أولمرت"، بهدف الإطاحة به، ومنعه من التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين، بعد أن قطع شوطاً طويلاً من مفاوضاته مع الرئيس الفلسطيني "محمود عباس"، حيث توصلا إلى تفاهمات حول مبادئ الحل، من هنا نتفهم قيام "عباس" بتقديم التهاني لـ "أولمرت" ببراءته.
جريدة "يديعوت احرونوت 10-7-2012"، ذكّرت بمقابلة "أولمرت" مع شبكة "سي.ان.ان" الإخبارية الأميركية قبل شهور، وما قاله "أولمرت" لهذه الشبكة، بأن الاتهامات بالفساد ضده جرى تلفيقها بهدف إحباط اتفاق وشيك للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين عام 2008، كان- وفقاً "لأولمرت"- انسحاب إسرائيل من 94% من أراضي الضفة الغربية، مع إجراء تبادل أراضٍ، كما اقترح "أولمرت" أن تدار القدس الشرقية من قبل لجنة دولية، وإعادة خمسة آلاف لاجئ فلسطيني كبادرة إنسانية، ومع أن الجانب الفلسطيني ومواقفه التفاوضية أبقت بعض الإشكالات والقضايا دون البت بها نهائياً، غير أن تقديم لائحة اتهام من النيابة العامة الإسرائيلية ضد "أولمرت" اضطرته إلى الاستقالة من رئاسة الحكومة، دون استكمال المفاوضات مما أدى إلى تقديم موعد الانتخابات، دون إنجاز عملية السلام التي تبخرت بسبب التعنت الإسرائيلي.
إن تبرئة "اولمرت" أربكت وأرقت الحلبة السياسية الإسرائيلية، وبخاصة كلاً من "نتنياهو"، وزعيم حزب "كاديماً" الحالي "شاؤول موفاز"، إذ أن هذه التبرئة تمهد لاحتمال عودة اولمرت للعمل السياسي-الحزبي، الأمر الذي قد يشكل خطراً على كل منهما، إذ أن الأول- "نتنياهو"- حتى الآن وفقاً لنتائج استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي هو الزعيم بلا منافس، بينما يخشى الثاني-"موفاز"- أن تمهد عودة "أولمرت" للإطاحة به، خاصة أن الاستطلاعات تعطي لحزب "كاديما" بزعامة "موفاز" إذا جرت الانتخابات الآن، أقل من عشرة مقاعد، مقابل (28) مقعداً لهذا الحزب حالياً، وهذه تعتبر هزيمة قد تؤدي إلى انهيار هذا الحزب، فـ "اولمرت" من أبرز السياسيين الإسرائيليين المتمرسين، والمشهود له بواقعيته السياسية، وتوجهاته لحل الصراع الإسرائيلي مع الفلسطينيين، فشخصيات سياسية إسرائيلية وحزبية، وبخاصة من حزب "كاديما"، يطالبون "أولمرت" بالعودة إلى الحزب وقيادته من جديد، فإن عودته ستشكل تحدياً لـ "نتنياهو"، وهو الوحيد الذي باستطاعته إعادة الروح لحزب "كاديما"، في أعقاب ازدياد التأييد الشعبي لـ"أولمرت" بعد تبرئته، وخاصة مع عدم وجود منافس أو بديل لـ "نتنياهو"، ونلاحظ أن "نتنياهو" اكتفى بإصدار بيان قصير بعد تبرئة "أولمرت" جاء فيه: "أعرب عن ثقتي الكاملة في الساحة القضائية الإسرائيلية، وأهنئ "أولمرت" على تبرئته"، أما القضايا المطروحة في الساحة الإسرائيلية، تقديم موعد انتخابات الكنيست، بعد إخفاق حكومة الوحدة الوطنية، التي انضم إليها حزب "كاديما"، وأسند منصب نائب رئيس الحكومة الأول لـ "شاؤول موفاز"، هذا الزواج الذي دام (70) يوماً فقط، وأدى إلى انسحاب حزب "كاديما" منه على خلفية عدم التوافق في إقرار قانون الخدمة العسكرية، فـ"موفاز" أصر على تحميل أعباء المسؤولية الأمنية على كافة المواطنين، بمن فيهم المتدينون اليهود "الحاراديم"، وكذلك المواطنون العرب، للقيام بالخدمة العسكرية أو الاجتماعية، إلا أن "نتنياهو" الذي يعتبر الأحزاب الدينية من أهم حلفائه للاستمرار بالحكم، انحاز إلى هذه الأحزاب التي تعارض هذا القانون، واستمرارهم التفرغ لدراسة التوراة، حيث يعتبرون إعفاءهم من الخدمة واستمرارهم بالدراسة، هي التي حافظت على بقاء دولة إسرائيل، ومنع تفكك حكومة "نتنياهو" ،على حد مزاعمهم، فقد أخطأ "موفاز" بانضمامه لحكومة "نتنياهو" وهو الآن يدفع الثمن.
إن الخارطة الحزبية-السياسية الإسرائيلية متحركة، انشقاقات، أحزاب جديدة، أحزاب تندثر، مما يؤثر على عدم استقرار الحكم في إسرائيل، وحسب جريدة "هآرتس 12-7-2012" فإن "أولمرت" الوحيد القادر على قيادة التيارين المركزي واليساري في منافسة "نتنياهو" والقادر على هزيمته- في حال عاد إلى العمل السياسي- وحسب جريدة "يديعوت احرونوت 12-7-2012" يخشى الكثيرون من خصوم "أولمرت"- وعلى رأسهم "نتنياهو"- عودة "أولمرت" للعمل السياسي.
في آخر استطلاع للرأي العام الإسرائيلي، أجراه مركز "سميث" البحثي، نشرته جريدة "الجيروزاليم بوست 13-7-2012"، كانت نتائجه بأن تشكيل حزب وسطي برئاسة "أولمرت" سيفوز بـ (30) مقعداً في الكنيست، مقابل (27) لحزب الليكود برئاسة "نتنياهو" لكن المهم كم عدد المقاعد الإجمالية التي سيحصل عليها حزب الوسط، والأحزاب التي تسير بفلكه، مقابل الليكود والأحزاب اليمينية والدينية، وهذا هو مربط الفرس.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت