الربيع العربي ثورة أم فورة

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج


الثورة هي عبارة عن نطف فكرية تكونت في صلب الطبقة النخبوية من المجتمع أو الأمة من مفكرين وفلاسفة وعلماء ومثقفين في كل الميادين، وتبدأ برغبة هذه النخب (المنبثقة عن الغيرة الوطنية) في تغيير حال المجتمع أو الأمة من الحالة التي يعيش فيها وعلى وقعها، والتي تستدعي التغيير الى حالة أفضل وذلك في كل الميادين والمجالات، نظراً لتقادم تلك الحالة، وانتهاء صلاحيتها، وعدم تجاوبها مع التطوير والتحديث، وتخلف ركبها عن ركب الأمم الأخرى، وتؤدي هذه الرغبة المكبوتة من جراء قمع سلطة متحكمة استمرأت السلطة بكل مغرياتها، الى تفريغ هذه النطف الفكرية في قنوات سرية في بداياتها وعلنية في نهاياتها، وتصب هذه النطف الفكرية في رحم الأمة من طبقات المجتمع الوسطى والدنيا (العامة) والذين يقع عليهم الضغط الهائل، وتبدأ هذه النطف بتلقيح بويضات تحمل نفس الرغبة في التغيير، وتتحفز للإنفجار،لكنها لا تستطيع التعبير عنها بفكر منظم وممنهج، ولا تقدر على المبادرة بممارستها، نظراً لعدم اهليتها وخفة ثقلها الإجتماعي على المستوى الفردي. وغياب الكاريزمة القيادية عنها.

وبعد تلقيح النطف الفكرية للنخبة من الأمة لبويضات العامة منها، يتكون جنين الثورة من خلية في رحم الأمة. وكما يمر الجنين في رحم أمه بمراحل على مدى مئتين وسبعين يوماً تبدأ بالخلية ثم العلقة والمضغة ثم بعظم يكتسي باللحم وتتكون الأعضاء الى أن يكتمل النمو فيولد جنين الثورة. وبعد الولادة يحتاج الجنين الى فترة رضاعة من حليب الأم وليس من حليب آخر، لمدة خمسة عشر شهراً، وإن رضع حليباً من غير حليب الأم فسوف تختلط الأنساب والأجناس، والصفات الوراثية، ويكون وليداً هجيناً وليس أصيلاً ولا يعكس الصورة الحقيقية للوالدين، ولا يعبر تعبيراً كاملاً ومطابقاً عن متطلبات الثائرين. وربما تتحول الثورة الى ثورة مضادة تأكل بعضها بعضاً. وتمتد الحضانة لهذا الوليد مدة أدناها ثمانية عشر عاماً وتصل في مجتمعاتنا العربية الى احدى وعشرين عاماً وهو بلوغ سن الرشد، وفي ايامنا هذه تصل في مجملها الى ثلاثين عاماً واكثر لكي يعتمد الوليد على نفسه نظراً لشح الموارد، وزيادة تكاليف الحياة وتفشي البطالة.

فالثورة تبدأ من الرأس الذي يختزن الدماغ كحاضنة للفكر والتخطيط والقيادة والحكمة، ثم تسري بالعروق الدقيقة بالدماغ سرياناً هادئاً محسوباً ومقنناً ومتوازناً، لا يؤدي الى انفجار هذه العروق الدقيقة، وتبدأ العروق بالإتساع شيئاً فشيئاً كلما اتجهت دماء الثورة الى الأسفل، فيزيد تدفق الدماء بالعروق، حتى تصل الى قلب الأمة، فيستقبلها القلب وينقيها من الشوائب، ويضخها الى كافة أعضاء جسد الأمة، فيبعث فها الحرارة والطاقة والحيوية لتنطلق في طريق التغيير.

إذن للثورة مقدمات تبدأ برغبة ممنهجة في التغيير، يطلقها النخبة لتصل الى اسماع العامة الذين هم بحاجة ماسة للتغيير اكثر من حاجة النخبة اليه، ويحتاجون الى القيادة ومن يعلق الجرس لينفروا خفافاً وثقالاً ويصطفوا طوابيراً ويندفعوا بكل طاقاتهم وراء النخبة يحمون ظهرها من الطعنات، فتلتقي رغبة ممنهجة موزونة ومبرمجة مع رغبة جامحة غير متزنة وغير مبرمجة، فتحدث تفاعلاً وحراكاً في المجتمع، وتتحرك الجماهير الثائرة بتوازن ومنهجية لا ترقى في أدائها الى فكر النخب في حدها الأعلى، ولكنها لا تنزل بمستوى أدائها الى فكر العامة في حدها الأدنى، فتكون وسطاً يلتف حولها كل طبقات المجتمع. والإمساك بالعصا من الوسط يبقي القدرة والسيطرة والتحكم بالمسار ضمن الحدود الآمنة، حيث يمنعها من السقوط والإنكسار. وللثورة أطوار ومراحل تمر في أزمان لكي تستكمل كل جوانبها ومكوناتها، وتملك قدرتها على الحياة ومقاومة الفناء، فإن لم تستكمل أطوارها ومراحلها فستتعرض للإجهاض، أو لولادة جنين معاق، او للولادة المبكرة التي ربما لا تبقي الجنين حياً، وإن بقي حياً فلا بد من أن يكون قد مكث في الرحم أكثر من ثلثي فترة الحمل على اقل تقدير، وربما يعيش بالحضانة بعد الولادة، وربما يموت، ويعتمد ذلك على الظروف المناخية المحيطة به، وعلى مستوى الرعاية الطبية المقدمة له، وعلى قوة المناعة لديه ومدى قدرته على المقاومة.

أما الفورة فهي ردة فعل تلقائية غير محسوبة وغير ممنهجة وغير مبرمجة (بدون سابق إنذار)، تكون معاكسة لاتجاه فعل ظالم وغالباً ما تكون بقوة أقل في قيمتها من قوة الفعل الظالم ونادراً ما تكون قوتها اكبر، وفي كلا الحالتين فالنتيجة سيئة. والفورة أقرب ما تكون في معناها وهدفها الى الإنتقام والتدمير منها الى الإصلاح والتعمير. وهي ناتجة عن غليان داخلي من الأسفل حيث نيران اللهب من تحتها ومتجهة في سيرها الى الأعلى، تماماً كما تترك القهوة أو الحليب على نار غير مقننة فتفور القهوة ويفور الحليب في لحظة سهو عنهما، ويندلق الحليب وتندلق القهوة خارج الإبريق، ويذهب المفيد والهدف هدرا،ً ويبقى الماء كما كان، وربما أصبح بوضعية اسوأ مما كان وغير صالح للشرب. فينتج عن الفورة الزبد والغثاء الذي لا ينفع الناس رغم كثرته. أما الثورة التي تتعامل باتزان ونظام وتخطيط فينتج عنها الزبدة.

الثورة تبدأ بالرأس وتتجه من الأعلى الى الأسفل، ولها هامة وقيادة وبوصلة وطنية ومكابح تتحكم بخط سيرها وتقيها من الإنزلاق والتهوروالتدهور، أما الفورة فتبدأ من الأسفل متجهة للأعلى بدون قيادة وبدون بوصلة وبدون مكابح فتتعرض للإنزلاق ومخاطر التهور والإنتكاس والإنكسار. الثورة يصعب ركوبها من الإنتهازيين المتربصين لإقتناص مغانمها من حطام السلطة السابقة نظراً لتقييم مخاطرها من نخب المجتمع وتركيب محطات انذار ورادارات لرصد تلك المخاطر، واكتشافها قبل حدوثها، ووضع الأسس والآليات لتجنب الوقوع فيها. اما الفورة فهي سهلة الركوب والإقتناص من الإنتهازيين المتربصين لها، والطامحين الى خلافة السلطة الراحلة. لاستبدال دكتاتورية كانت هي السلطة بدكتاتورية كانت معارضة لها.

الفورة عرض جانبي سالب من أعراض الثورة التي هي علاج للحالة المرضية التي تعتري الأمة، لأن الفورة تنطوي على الفردية في الأداء، فتتعارض وتتعاكس مصالح الأفراد والفئات مع بعضها البعض، فتتنافر وتتناحر القوى والطاقات، وتعم الفوضى والفلتان الأمني، وتتفكك الأمة ومؤسساتها. فتغلب الأعراض الجانبية السالبة للثورة على مفاعيل المادة العلاجية فيها، فتنقلب النتائج المرجوة من إصلاح الى تدمير إن طغت مظاهر الفورة على الثورة. وهذا ما حصل في ما يطلق عليه اليوم الربيع العربي في مجمله وغالبيته.

إذن الأمة العربية اليوم في مرحلة الفورة، ولم تصل بعد الى مرحلة الثورة، ولعلها تكون درساً نتجاوز فيه هذه الفورة لنصل الى مرحلة الثورة، ونتجنب مزيداً من الفورات في سعينا لتحقيق ثورة حقيقية (ثورة تربوية وعلمية واقتصادية وثقافية وسياسية وصناعية وزراعية لنصل الى باحة الحرية والديمقراطية). الأمة تعيش مخاضاً سيمتد طويلاً حتى تنضج فورتنا الفجة وتتحول الى ثورة. مخاضاً ربما يصل الى عقد من الزمن ونيف أو أقل، حيث بعدها ستميز الأمة الخبيث من الطيب، والإنتهازي من الوطني الحر، وطالب السلطة من طالب التنمية والخير للأمة. ربما تكون الأمة في مرحلة ربيع عربي، لكنه ربيع يستمتع بخيراته ومناخه غيرنا، ونحن منه متفرجون ومحرومون. وسيمر علينا ربيع عاقر ويليه صيف وشتاء وخريف ودورات عديدة حتى نستمتع نحن بربيعنا.

وأكبر خاسر في هذه المرحلة هي القضية الفلسطينية التي لا تجد ظهراً تستند عليه نظراً لانحناء وانكسار كل الظهور. واشتداد المؤامرة الدولية عليها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت