كنت في زمان مضى امارس الطب النفسي وكنت ارى واسمع العجب مما يثير الحزن والشفقة واحيانا الحيرة والخوف. وكنت معرضا للاكتئاب من شدة التأثر وكثرة التعرض للأحوال الانسانية والمشاعر الصاخبة. ففي جلسة العلاج لا بد من تشجيع اطلاق كل المشاعر والأفكار بعيدا عن الكبت والقمع. وكنت حرصا على توازني النفسي أخصص ساعة في كل يوم اخلو فيها لنفسي استعيد خلالها أقسى اللحظات التي أثرت علي خلال الجلسات فأراجع الكلمات والدموع والتاوهات والتي كنت ارى من خلالها الانسان في ضعفه وانسحاقه ومقدار التشوه النفسي والمعاناة في حياة تبدو في نظر من يعاني بلا بهجه. وكانت تلك الساعة اليوميه بمثابة صمام أمان وصارت مع الوقت عادة يومية حتى حين توقفت عن العمل في العياده.
وقبل ايام وفي اثناء تلك الساعة الخاصة وجدتني أتذكر احدى النساء التي هزت وجداني وأقضت مضجعي وفتحت عيوني على ما يجري بين سطور حياتنا. كانت امرأة جميلة في ربيعها الثلاثين وبادرتني بالقول حين جلست " انني لا اريد علاجا فلن يفيد في حالتي علاج فأنا اريد ان تسمعني فقط " واستطردت دون دعوة للكلام" ان حكايتي مخيفة ولا استطيع ان احكيها لإنسان ولهذا دفعت رسم الدخول؛ فقط لكي احكي قصتي" ووسط دهشتي واهتمامي استمرت" أنا ليس لي اسم لديكم ولهذا اشعر بالأمان وأشعر بالاطمئنان لأني احكي لطبيب نفسي مهمته الاولى سماع الناس "
وبدأت في رواية ما تقشعر له الأبدان مما تعرضت له في حياتها وهي تقول ان اللعنة الكبرى كانت جمالها " وكنت أتمني ان اكون قبيحة المنظر"
توقفت عند تلك الكلمات متأملا كيف النساء يتسابقن في تجميل الوجوه والأجساد وبعضهم يغالي في السباق فترى من تخطتها السنين وهي ما زالت تندس في الجينز وتكدس المساحيق وقد رأيت نساء في السبعين تهتم بأناقتها وهندامها بل وتصفيف شعرها بينما هذه المرأة التي تجلس أمامي تلعن جمالها، وتقول انه سبب تعاستها. يا لقسوة الأقدار .
جمالها ميزها عن غيرها من النساء وآثار غيرتهم لكنه اسال لعاب الذئاب من الرجال وبعضهم من الاقربين فكانوا كأنهم يلاحقون غزالا شاردة ويتربصون بها حتى وقعت فريسة للأول منهم ليتناوب عليها باقي الوحوش!
قضيت ساعة وانا استمع للألم والدموع حتى نهضت فجأة وهي تكاد تترنح. اشفقت عليها مما ينتظرها وسألتها ان كان من شخص يمكن ان تعتبره مقربا وأمينا فردت بلا مبالاة " لا يوجد أحد في راسي الان ولكن لماذا؟ " قلت ربما يلزم في يوم ما كشخص يمكن ان يكون نعود اليه عند اللزوم وكأنه مرجعية. قالت بما يشبه الاستهتار ان المفروض ان يكون أبوها مرجعيتها لكنه كان احد الذئاب البشرية.
في اليوم التالي عرفت ان امرأة شقراء قد انتحرت بأن أشعلت النار في نفسها باستعمال الكيروسين الذي كان يستعمل في مواقد الطبخ. أيقنت انها كانت تلك المرأة التي افضت لي بمأساتها .وأيقنت ان علينا عمل الكثير حتى نعيد التوازن النفسي والأخلاقي لفئات كثيره منحرفة بالمخدرات والجنس و حماية الضحايا من النساء والأطفال، ضحايا التحرش والاعتداء.
وانها مشكلة كبيرة ان يكون الانسان وخاصة المرأة في مجتمعنا دون مرجعيه. مجتمعنا قائم على العائلات والقبائل وكل واحد فينا لديه من يلجا اليه ويقرر له وفيه.
وفي النظام القبلي تختار القبيله كبيرها او من يحل محله نتيجة مرض او عدم اهلية وتعتبر القبيلة ان اكبر مصيبة الا تكون لديها مرجعية. فكيف يكون الحال والمرجعية المفترضة قد تحولت الى مغتصب لحقوق رعاياها. وحين تثور المشاكل في البيوت فإنها تسير الى الحل بهيبة العائلة وقيمتها الاجتماعية او شخصية الاب وحكمته او تتفاقم المشاكل بضعف المرجعية او غيابها.
وجدت نفسي منساقا مع تداعي الأفكار حتى وصلت الى السلطة الوطنية وقد انشطرت بالانقسام وصار الشعب رهينة لبعض المرضى بالحقد والغرور واصحاب المصالح و اعتقل البرلمان تآمرا ومضى على انتخاب الرئيس سنينا خارج الشرعية وفي ظل ضعف اللجنة التنفيذية للمنظمة لم يعد هناك مرجعية لهذه السلطة! فالى اين اللجوء من الظلم باعتقال المناضلين وضرب المتظاهرين واحتقار المحاكم وتكريس الحصار والانقسام وتدمير المشروع الوطني ؟هل نشكو الى الأمم المتحدة ام الجامعة العربية ام مؤتمر المانحين ام دولة كبرى بعينها؟ اين اللجوء؟ من يحاسب ويكشف للناس الحقائق وقد ازدحمت طرقات الانترنت والمقاهي بقصص فساد وأموال ؟!
علقت سيدة فاضله على كل ذلك :"للاسف يا صديقي فانه برغم ما تقول ويقول الشعب فان لسان حالهم يقول برضه قاعدين ..على نفسكم قاعدين"!!!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت