غزة – وكالة قدس نت للأنباء
يعتبر "سوق الزاوية" الواقع وسط مدينة غزة امتداد تاريخي لسوق القيسارية ، ويجمع هذا السوق كل طبقات المجتمع الفلسطيني طوال أيام السنة، لاحتوائه على كافة المستلزمات الحياتية التي يحتاجها الغزيون لتسهيل أمور حياتهم اليومية بأسعار تكون في متناول الجميع، فمن الفواكه والخضروات إلى الأسماك واللحوم والمشروبات الشعبية والأعشاب والحلويات المتنوعة، وصولاً إلى ألعاب الأطفال.
ويستمد السوق شهرته التاريخية من وجوده بجوار سوق القيسارية الأثري في البلدة القديمة والذي أصبح امتداد له، في ظل التطور والنمو العمراني في منقطة البلدة القديمة، حيث كان السوق في بداياته مكان تباع فيه العطارة والجلود إلى أن تطور تدريجياً وأصبح على ما هو عليه في هذه الأوقات .
وتقول هيام البيطار رئيس قسم المواقع الأثرية بوزارة السياحة والآثار بحكومة غزة، لمراسل وكالة قدس نت للأنباء، سلطان ناصر، إن" سوق القيسارية في غزة يعود إنشاؤه إلى العهد المملوكي، ولكن لا يوجد تاريخ محدد لهذا التوقيت، وذلك لعدم وجود نص تأسيسي يؤرخ السنة الفعلية التي أنشئت فيها القيسارية، وهي القيسارية الوحيدة المتبقية في غزة."
من الصين ..
وتوضح البيطار أن القيسارية هي أحد أشكال المنشآت التجارية الحرفية الصناعية، وقد عرفت في العهد الروماني وذلك في عهد الإمبراطور أغسطس قيصر، الذي توسعت في عهده التجارة، وخاصة تجارة الحرير الطبيعي الآتي من الصين، فكانت القيساريات تخدم التجارة وتنمية الاقتصاد، وقد استمر إنشاؤها حتى العصور الإسلامية، كي تمارس أدوارها في التجارة والصناعة، وأحياناً كسكن مؤقت لبعض العائلات الفقيرة" .
ويتزين السوق طوال أيام شهر رمضان المبارك برونق رمضاني، حيث يعلق أصحاب المحالات التجارية في ممراته (فوانيس رمضان) والمنتجات الرمضانية كالتمر والمخللات، إضافة إلى محالات القطايف التي يعتبره الغزيون حلوى رمضان، في حين يستعد السوق في أواخر أيام رمضان بتهيئة نفسه لاستقبال العيد من خلال الحلويات التي تزينه كافة المحلات التجارية.
وتبين البيطار أن "تسمية قيسارية هو مصطلح غير عربي، اقتبس من كلمة ( قيصر)، نسبة إلى مؤسسها الإمبراطور أغسطس قيصر، وفي العهد الأموي ظهرت الأسواق المغطاة في القيروان، والفسطاط وهي ( القاهرة)، وقد عُرفت في العصر العباسي، وأطلق عليها الخان الصغير الذي يحتوي على معامل ودكاكين، وتضم ورشات حرفية صغيرة، وجمع الكلمة قيساريات".
قيسارية غزة...
وتشير البيطار رئيس قسم المواقع الأثرية بوزارة السياحة والآثار إلى أن القيسارية أقيمت في قلب البلدة القديمة في غزة، وهي تشكل جزء معماري ضمن وحدة معمارية متكاملة، تتألف من الرواق الجنوبي للجامع العمري الكبير، والذي أنشأه السلطان محمد بن قلاوون عام 1329م، كي يفتح باب منه على وسط سوق القيسارية، وتلك فلسفة عمرانية تجارية.
وتابعت " هي أن تقوم المنشآت التجارية أو الأسواق إلى جانب أكبر الجوامع في البلدات القديمة، حيث تكون بموقعها أنفق للبائع، وأرفق للمشتري، حينما يخرج من الصلاة من المسجد، وكان يقع مقابلها من الناحية الجنوبية منها ( البيمارستان المنصوري) ، وكلمة البيمارستان تعنى المستشفى".
وتبين البيمارستان تم تسميته في وقت لاحق خلال العصر العثماني ( خان الزيت)، وتلك المباني قد اندثرت مع الزمن، إذن فإن موقع القيسارية بوسط البلدة القديمة في غزة، وبالقرب من الجامع الكبير، والبيمارستان ، والحمام ( حمام السمرة ) ودار الإمارة ( قصر الباشا) كلها تؤلف وحدة معمارية متكاملة تشكل عناصر تكوين المدينة الإسلامية.
مكونات السوق...
وسوق القيسارية يمثل نمطاً معمارياً وهندسياً يلائم الأجواء وظروف المناخ، حيث لها سقف مقبب معقود بعقود متقاطعة، وهي تمتد من الشرق إلى الغرب، حيث تأتي من الشرق أشعة الشمس، ومن الغرب يأتي الهواء اللطيف، ولها من الأعلى فتحات للإضاءة والتهوية، وفي وسطها يوجد قبو مثمن الشكل يربط بينها وبين خان الزيت الذي كان قائماً قبل اندثاره، ويوجد مكانه في يومنا هذا (عمارة أبو رحمة).
وتوضح البيطار أن القيسارية تتألف من الداخل من مجموعة من الحوانيت الصغيرة المتراصة إلى جانب بعضها البعض على كلا الجانبين، يصل عددها إلى 18 حانوتاً أو دكاناً، ويقابلها على الناحية الأخرى حوالي 16 حانوتاً أخرى، وجميعها ذات سقف معقود بعقود متقاطعة، ويصل عمق الحانوت أو الدكان الواحد نحو 2.7 متر.
وتلفت أن للقيسارية بوابة شرقية، تعد نموذجاً للفن المعماري والزخرفي في العصر المملوكي، والبوابة على شكل عقد مدبب كبير مزين بحجارة رخامية بيضاء وحمراء، وعلى حافة العقد من الخارج يوجد زخرفة حجرية مسننة وبارزة أعطت البوابة شكلها المعماري والزخرفي المميز.
التعرية الطبيعية ...
وتؤكد رئيس قسم المواقع الأثرية بوزارة السياحة والآثار في حكومة غزة هيام البيطار أن عوامل التعرية الطبيعية والتدخلات البشرية في القيسارية إضافة إلى الإهمال قد ساهمت في اندثار الكثير من زخارفها، وهي بحاجة إلى إعادة ترميم، مرة أخرى كي نستجلي روعة فن العمارة الإسلامية خلال العصر الإسلامي المملوكي.
وتبين بأنه كان يوجد عند كل بوابة للقيسارية من الناحية الشرقية والغربية، سلالم صغيرة تؤدي إلى طابق علوي فوقها، كان يحتوي على مجموعة من الدكاكين الصغيرة، وقد دُمرت جميعها، ولم يبق لها أثر، حيث كانت مأوى ومسكن لأصحاب الدكاكين داخل سوق القيسارية، وفيما بعد وخاصة خلال العصر العثماني، كان للقيسارية باب كبير يتم غلقه بعد غروب الشمس، وقد استمر ذلك الباب حتى بداية الخمسينات من القرن الماضي.
وقد جاء ذكر القيسارية في العديد من الوقفيات، سواء التي كُتبت على النقوش الحجرية، أو الوقفيات الورقية، واعتبرت كسوق رئيسي في قلب البلدة القديمة في مدينة غزة، وبالقرب من الجامع العمري الكبير، وقد تم العثور على حجر رخامي نقش عليه عبارات تدل على إعفاء تجار القيسارية من الضرائب التي فُرضت عليهم في عهد السلطان المملوكي ( قنصوة الغوري)، وقد كانت القيسارية ضمن أوقاف عائلة ( آل رضوان ) الغزية، والتي كانت تتخذ من قصر الباشا مقراً لإدارة غزة خلال العصر العثماني.
أضراراً سلبية ...
وتقول البيطار إن "سوق القيسارية يعاني من الرطوبة المختزنة في داخل جدارنه والتي بدورها تشكل أضراراً سلبية عليه، وتهدد بانهياره، وذلك بسبب قيام أصحاب محلات الصناعة بطمس الجدران الأصلية بمواد الاسمنت الأسود والرخام والجرانيت، وكلها مواد تمنع خروج الرطوبة من داخل الحجر مما يسبب في ضعف الحجارة التي بُنيت منها القيسارية ويعرضها للانهيار.
وتؤكد البيطار أن معلم أثري هام كسوق القيسارية يحتاج منا جميعاً إلى تضافر الجهود للحفاظ عليه، وخاصة بأن معظم الملكيات التي تخص الدكاكين هي ملكيات شخصية لتجار الذهب، وتشرف على هذا السوق بلدية غزة، موضحة ً بأن وزارتها تقوم بدور توعوي لأصحاب الحوانيت في كيفية الحفاظ على هذا المعلم الأثري الهام، ونشر البروشورات التعريفية بتاريخ هذا السوق العريق والوحيد المتبقي في البلدة القديمة بغزة.