فيلم "الذهب الاسود" يجدد جدلنا الذي لم يحسم

بقلم: عمار جمهور


يحاكي فيلم الذهب الاسود ""Black gold للمخرج الفرنسي "جان جاك أنو" فيلم المصير للمخرج المصري الراحل يوسف شاهين في تجسيد الصراعات بين الحداثيين والتقليدين في عصرين وبيئتين مختلفتين تماما. والفلسفة التي انتهجها كل من التقليدين والحداثيين لفرض رؤيتهم وصبغتهم لتغليف الفكر الاسلامي.

فيلم المصير يخلص الى أن المتشددين قد استطاعوا ان يغلفوا الفكر الاسلامي ويصبغوه برؤيتهم التي نجحت بالطغيان على الفكر الاسلامي الحداثي حتى يومنا هذا. اما فيلم الذهب الاسود فيخلص الى أن الصراع افضى في نهايته الى سيطرة الفكر الحداثي مع بدايات اكتشاف الذهب الاسود في الجزيرة العربية.

لكلا الزاويتين الفلسفيتين منطقهما ومبررهما، الا انه وفي الواقع المعاش اليوم وخاصة وبعد الربيع العربي الذي بدأ بالثورة التونسية التي رافقت مرحلة تصوير وانتاج فيلم "الذهب الاسود" يعطي املاً بالتقدم والحداثة والتطور، لان الربيع العربي اظهر بأن للعرب طاقات وامكانات يمكن لها ان تحقق امانيها وتطلعاتها، والتي تجسدت بانتصار الثورات العربية في اسقاط الحكام المتسلطين. وفي المثال الاخر يراى بأن طغيان التيار التقليدي المتشدد والذي استطاع ان يخدع الناس وبضللهم تعود جذورة الى تلك المعركة الفكرية التي دارت في الاندلس بين الامام الغزالي والامام ابن رشد.

الواقع العربي ومنذ ما يقارب المائة عام يشهد صراعات غير محسومة، وهي السبب الذي يتلخص فيه واقع العرب الان، فالثورات العربية نجحت في اسقاط الانظمة، ولكن السؤال المهم هل نجحت في اسقاط مفاهيم السيطرة والاستغلال، وتحقيق العدل والمساوة والحرية، كما نجحت الثورات الاوروبية؟

وقد يكون من الملفت للنظر من خلال هذا الاستعراض بأن التاريخ يعيد نفسه اليوم، ولكن التاريخ عندما يعيد نفسه يعني بالضرورة بأن تجربتنا المقبلة ستكون محتومة بالفشل الاكيد، لان التاريخ يسير بخط مستقيم ولا يعود لنقطة البداية الا في الحضارات التي لا تنجز ولا تتقدم. وبفعل النهج التقليدي الذي سيطر على عقولنا خرجنا من الاندلس، وبذات الفعل قبعنا تحت حكم الاستغلال عشرات السنين، وها نحن ندخل مرة اخرى في عصر الاخوان المسلمين لامد مجهول.

النفط الذي كان من المفترض ان يحقق لنا الحضارة والحداثة لم يزحزح عقولنا للامام بل ان الجيش كاملاً في فيلم "الذهب الاسود" ادار ظهره ليتمكن اميرنا من رؤية وجه زوجته، فما زالت الصورة التي ننتجها في افلامنا - كون منتجي الفيلم عرب- هي ذات الصورة النمطية التي تزداد تجذراً في الاذهان الغربية عن العربي صاحب بئر البترول، ذو الثقافة الاستهلاكية فهو من يزود العالم بالنفط الذي لا يعلم كيف ينتفع به علمياً وحضارياً.

بالرغم من كون الفيلم يحتوي بعض الصورة النمطية، والتي لا بد من العمل بشكل جدي على تغيرها في الذهنية الغربية، الا انه يشكل عملاً فنياً متألقاً كونه كرس العديد من الكفاءات السينمائية العالمية لبلورة هذا العمل السينمائي المتقن، فمخرجه فرنسي وروايته مأخوذة عن كاتب سويسري، وابرز نجومه الممثل الاسباني "انطونيو بانديراس"، بالاضافة الى غيرهم من النجوم العرب والعالميين. كما ان الفيلم نجح في خلق حوار جدي مع الكميرا من خلال نجاحه في تصوير عمق حياة الصحراء سواء كانت في المشهدية البصرية او في المشهدية الدرامية.

طرح الفيلم جدلية الحداثة والتقليدية بحوار درامي شيق ومقنع، بالرغم من كون الرواية مستوحاة من قصة غير واقعية، الا انها تبدو وكأنها وقعية جداً، لكون ما جاء فيها من محاكاة للواقع العربي والصراع القديم الجديد ما هو الا اصل الازمة وأصل التخبط الحالي للشعوب العربية والاسلامية. ومن ابرز رسائل الفيلم ما اظهره من امكانية للتغيير والتطور في العالم العربي في حال استطاع حسم خلافه مع الرجعية، ونجح في اللاحق بخط سير الحضارة.
عمار جمهور – اعلامي فلسطيني

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت