الآجال أيامها معدودة ، و صالح الأعمال فيها محدودة ، ولكنّ كثيراً من الناس لا يعلمون ، يضيعون أثمن ما ينفقون من الأعمار ، ويفسدون خير ما يكسبون من الأعمال ، لولا التذكر والتذكير ، فمن رحمة الله أن الإسلام ذكرٌ وذكرى ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له الله :{إنما أنت مذكر }، وقد بقيت يا إخوتاه من رمضان جمعة ، ويوشك رمضانُ أن يذهب بصحائف العمل ، ويا ويح من غلبه التواني وأعجزه الكسل ، والعبرة بالخواتيم ، فلنبادر بختام المسك ، ولنلتمس خير الليالي ، فهذا أوانها بخير العبادة ، وبما جاء به القرآن ، وبما جاءت به السنة ، وعلى ما عمل العاملون ، فمن أدرك ليلة القدر في العشر فقد أدرك الخير كله ، ومن فاتته فقد فاته خيرٌ عظيم ، فأنتم أيها المسلمون الصائمون في سوق لا كالأسواق ، وعملٍ لا كالأعمال ، فالسلعة أغلاها الرحمن ، وشمر للفوز بها أهل الإيقان ، فما ثمَّ راقدٌ منهم ولا كسلان ، الشهر شهركم آذن بالتحويل ، والليل ليلكم جاء في التنزيل ، إن صدقتم باب الريان الملتقى . ، فلنبادر قبل انقطاعِ الحيلة ، أو الموتُ فإنه يأتينا غِيْلَة ، ..ويرحم الله القائل :
يا من بدنياه اشتغل .. قد غره طول الأمل
أولم يزل في غفلةٍ .. حتى دنا منه الأجل
المـوت يأتي بغتةً .. والقبر صندوق العمل
إخوة الإسلام ، أيها الصائمون: قال الله تعالى في سورة الفجر: { وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) }. قال الإمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي - رحمه الله - في تفسيره تيسير الكريم المنان :( ويقع في الفجر صلاة فاضلة معظمة، يحسن أن يقسم الله بها، ولهذا أقسم بعده بالليالي العشر، وهي على الصحيح: ليالي عشر رمضان، أو [عشر] ذي الحجة، فإنها ليال مشتملة على أيام فاضلة، ويقع فيها من العبادات والقربات ما لا يقع في غيرها.
وفي ليالي عشر رمضان ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، وفي نهارها، صيام آخر رمضان الذي هو ركن من أركان الإسلام ) اهـ.
والجدُّ والاجتهادُ يا عبادَ الله والتشميرُ في العبادة وقيامُ الليل من أفضل الأعمال في العشر الأواخر من رمضان ، فقد جاء في صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد والسياق سياقُ البخاري قال : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ " .
قال الإمام البغوي في شرح السنة : ( قال أبو سليمان الخطابي : شد المئزر يتأول على وجهين : أحدهما هجران النساء ، وترك غشيائهن ، والآخر الجد والتشمير في العمل. قال رحمه الله : يقال شددت لهذا الأمر مئزري ، أي : تشمرت له وعلى الأول كنى بذكر الإزار عن الاعتزال عن النساء ، ويكنى عن الأهل بالإزار واللباس ) اهـ .
وبلغ يا عباد الله من حرص السلف رضي الله عنهم على الاجتهاد في العشر الأواخر لاسيما الوتر منها لموافقة ليلة القدر ما جاء في مصنف ابن أبي شيبة قال : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ ، قَالَ : ( رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَرُشُّ عَلَى أَهْلِهِ مَاءً لَيْلَةَ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ .
وقال ابن أبي شيبة : حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ ، عَنْ يَزِيدَ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ.) اهـ .
ولهذا قال الإمام سفيان الثوري : ( أحبُّ إليّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه، ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك. وقد صح عن النبي أنه كان يطرق فاطمة وعلياً رضي الله عنهما ليلاً فيقول لهما:" ألا تقومان فُتصليان "رواه البخاري ومسلم ) اهـ.
وقال الحسن البصري رحمه الله : ( إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته ، فسبق قوم ففازوا ،وتخلف آخرون فخابوا ! فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ! ويخسر فيه المبطلون ! ) أهـ
يا أهل الإسلام والصيام والقيام :
مما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله في العشر الأواخر ما ذكره الإمام ابن رجب في كتابه ( لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ) من تأخيره للفطور إلى السحر:
وقد رُوي عنه من حديث عائشة وأنس أنه كان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحوراً. ولفظ حديث عائشة: ( كان رسول الله إذا كان رمضان قام ونام، فإذا دخل العشر شدّ المئزر، واجتنب النساء، واغتسل بين الأذانين، وجعل العشاء سحوراً ) رواه ابن أبي عاصم.
وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر . قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مُطعم يُطعمني وساقٍ يسقيني "رواه البخاري.
وظاهر هذا يدل على أنه كان يواصل الليل كله، وقد يكون إنما فعل ذلك لأنه رآه أنشط له على الاجتهاد في ليالي العشر، ولم يكن ذلك مضعفاً له عن العمل؛ فإن الله كان يطعمه ويسقيه)اهـ
ومن ذلك اغتساله بين العشاءين، وقد تقدم من حديث عائشة: { واغتسل بين الأذانين } والمراد: أذان المغرب والعشاء، قال ابن جرير: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر. وكان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة، ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر. وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين، ويستجمر ويقول: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل لمدينة، والتي تليها ليلتنا، يعني البصريين.
فتبين بهذا أنه يستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف والتزين، والتطيب بالغسل والطيب واللباس الحسن، كما يشرع ذلك في الجُمع والأعياد. وكذلك يُشرع أخذ الزينة بالثياب في سائر الصلوات، ولا يكمل التزين الظاهر إلا بتزين الباطن بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وتطهيره من أدناس الذنوب؛ فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئاً.
ولا يصلح لمناجاة الملوك في الخلوات إلا من زين ظاهره وباطنه وطهرهما، خصوصاً ملك الملوك الذي يعلم السر وأخفى، وهو لا ينظر إلى صوركم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعماكم، فمن وقف بين يديه فليزين له ظاهره باللباس، وباطنه بلباس التقوى.
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقوى *** تقلب عُرياناً وإن كان كاسياً
اللهم ربنا وفقنا للعمل بدينك القويم ، وثبتنا على صراطك المستقيم ،وتقبل منا الصيام والقيام ، وألزمنا ما تحب وترضى على التأبيد والدوام ، وجنبنا ما تسخط من الأقوال والاعتقادات والأعمال وسائر المعاصي والآثام ، فهي سبيل الهلاك والعذاب الغرام ، اللهم آمين ، اللهم ووفقنا للأعمال الصالحات اقتفاءاً واتباعا وقرباناً متقبلا ، وجنبنا السيئات طريقاً وموئلا ، ومن تق السيئات يومئذٍ فقد رحمته ، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، اللهم آمين .
أيها المؤمنون الصائمون : وأما طلب ليلة القدر والعمل فيها ، فقد روى الإمام أحمد قال : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ الْحَسَنِ الْهِلَالِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ هُبَيْرَةَ بْنِ يَرِيمَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " اطْلُبُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنْ غُلِبْتُمْ فَلَا تُغْلَبُوا عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي " .
قال سفيان الثوري: الدعاء في تلك الليلة أحب إليَّ من الصلاة. وقد كان النبي يقرأ قراءة مرتلة، لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ، فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكير. وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها.
ولما سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: " قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فأعفُ عني " ، وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر؛ لأن العارفين يجتهدون في الأعمال، ثم لا يرون لأنفسهم عملاً صالحاً ولا حالاً ولا مقالاً، فيرجعون إلى سؤال العفو سؤال الُمذنب المقصر.
ومن أفضل الأعمال في العشر الأواخر الاعتكافُ في المساجد ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، " كان رسول الله يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين ".
وإنما كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر التي يُطلب فيها ليلة القدر، قطعاً لأشغاله، وتفريغاً لباله، وتخلياً لمناجاة ربه وذكره ودعائه. فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بقى له هم سوى الله وما يُرضيه عنه. وكما قويت المعرفة والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال.
ألا يا عباد الله :صلوا وسلموا على النبي المصطفى ، والرسول المرتضى صفوة الخلائق أجمعين ، سيد الأولين والآخرين ، من بطاعته زكاةُ الدين وصلاحُ الدنيا محمدٍ بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما ، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنه وكرمه سبحانه إنه أكرم الأكرمين.
بقلم /الشــيخ ياســين الأســطل
الرئيس العام ورئيس مجلس الإدارة
بالمجلس العلمي للدعوة السلفية بفلسطين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت