عمد الاحتلال الإسرائيلي منذ أن سرق أرض فلسطين وادعى أنها أرض الميعاد إلى طمس الهوية الفلسطينية ومعالمها التراثية الحضارية والفكرية والمعمارية 000وإلى سرقة مكوناتها الجغرافية والتاريخية والسياسية والثقافية ، ونشط الإسرائيليون في إخفاء كل دليل شامخ يتـصدى لادعاءاتهم الكاذبة ، وردِّ دعواهم الباطلة . فاستطاعوا أن يخاطبوا شعوب الأرض بأساليبهم المختلفة بما لديهم من اقتدار على تزوير التاريخ ، فتم لهم ماكانوا يريدون في غفلة من الفلسطينيين والعرب أجمعين . " وذهبت السَّكرة وجاءت الفكرة " كما يقول المثل ، وارتفعت قامة الفلسطينيين ببطولات وإنجازات الكفاح الفدائي المسلح بعد هزيمة حزيران 1967، فانتهجوا لأنفسهم طرائق متنوعة من العمل الوطني في م . ت . ف ، وتعددت دوائر الاختصاص ، وكان من نصيب الثقافة دائرة تختص بها وتضطلع بأعبائها ، فسارت في طريقين متوازيين ، الأول : ترسيخ وجود الهوية الفلسطينية واستعادة حضورها في أذهان ووجدان المجتمع الدولي . الثاني : دفْع أباطيل الإسرائيليين بقولهم : أرض إسرائيل وليست أرض فلسطين العربية ، وفضح وتكذيب انتساب هذا التراث الحضاري والمعماري والتاريخي الفلسطيني لهم ، وإثبات انتسابه لنا والتصاقه بنا – نحن الفلسطينيين الكنعانيين العرب – بالوسائل العلمية والتاريخية والجغرافية والإعلامية وبالأدوات الفنية المتنوعة : مثل الكلمة المقروءة والرسم والموسيقى والغناء الشعبي ورقصات ودبكات الجنسيْن الفلكلورية ، في إطار بهيج من الأزياء الفلسطينية التراثية التي كادت تنقرض ، حين تخلينا عنها واستبدلنا الجينز والبضِي والجلباب بالثوب النسائي المُطرَّز بتطاريز تُـعرف منه صاحبته المستورة – من خلال القبـَّات والبنايق والأكمام والأذيال – أنها من قرى قضاء الخليل أوغزة أونابلس أو القدس ...الخ ، كذلك استبدل الرجال الجلابية ( الدشداشة ) بزيهم الوطني المكون من الدِّماية والحطَّة والعِقال والسروال العريض الذي كان يصل عند بعض الرجال إلى ثلاثة عشر ذراعا ، فكلما كان هذا السروال فضفاضا كان صاحبه ذا ثراء ووجاهة . الآن أصبحت هذه الأزياء التراثية متروكة أو تكاد تكون معدومة في قطاع غزة ، ولا نراها إلا في قرى الضفة الغربية من خلال برامج إحياء التراث عبر شاشات التلفزيون في مناسبات الأعراس والأفراح العامة .
في قطاع غزة كما هو في الضفة الغربية مؤسسات لإحياء التراث وبعث روافده في شتى الفنون ، ومن بينها مؤسسة " العَـنُـود " للإنتاج الفني والتلفزيوني بإدارة الدكتور سويلم العبسي الشاعر الشعبي والمخرج السينمائي والأستاذ الجامعي الذي عمل أستاذا في الجامعة الأردنية ، وكان له فيها مكانة اجتماعية وأدبية وعلمية ...أغراه صوت العودة فلبى نداء الواجب الوطني ، وعاد الطير المُهَجَّر إلى عشه في قطاع غزة ليساهم في بناء الدولة الفلسطينية الوليدة ، فاشتغل في مجال تخصصه في التليفزيون الفلسطيني في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات . لكنه لم ينل حظه ولم يُعطَ فرصته ليقدم ما يمكن تقديمه من إبداع شعري وتابلوهات تراثية راقصة وإخراج فني تمثيلي على شاشة التليفزيون أو السينما أو على خشبة المسرح بسبب تكويش اللوبي الوظيفي في هذه المؤسسة وغيرها من المؤسسات الأخرى في حينه .
وجاء الانقلاب فقلب البلاد رأسا على عقب وجعل عاليها واطيها ، وولى الفتحاويون فرارا إلى رام الله يتخذون منها حصنهم الذي يلوذون به ، ويُذكِّرني هروبهم بصوت المطربة سلوى يلاحقهم وهي تعاتب في لوم وتوبيِخ حبيبها : " وين ع رام الله ...ماتخاف من الله ، دشَّرت ( الـقطاع ) ماتخاف من الله !!! " . ولكن د.العبسي لم يكن على شاكلة هؤلاء ، بل هو وغيره القليل من أبطال فتح وصناديدها الذين أبَوْا الفرار، وآثروا الصمود والثبات في وجه العواصف الهوجاء . ودفع الرجل من فاتورة الانقلاب أحد أبنائه الذي اغتالته يد الكفر والخيانة حين ضغطت على زناد بندقية فلسطينية ، وارتفع الشاب شهيدا إن شاء الله .
الآن مؤسسة العنود تتحرق شوقا للانبعاث ، متوثبة للانطلاق والتحليق في فضاء الفنون التي تحافظ على الهوية وتقاوم التهويد ، ولديها فرقة محترمة من الشبان والشابات يقدمون أغانيهم الشعبية ورقصاتهم ودبكاتهم التراثية على دقات الطبلة وعلى أنغام الشبَّابة والأرغول ، وكلهم يرتدي الثياب التراثية ذات النكهة الفلسطينية التي انمحى وجودها في قطاع غزة . ولقد قدمت العنود ، وما زالت تقدم ما تشتهيه أنفسنا من روائع التراث بشكله ومحتواه الفلكلوري كما تواضع عليه الآباء والأجداد ، أو بمحتوى جديد يتناسب ويتناغم مع حالنا وأحوالنا السياسية والاجتماعية في إطاره اللحني والحركي المتوارث ، فتروي نبتة الحب في قلوبنا ، وتغذي الوعي والوجدان وتستدعي الذكريات وتشحذ الهمم وتزرع الأمل في العودة إلى الديارالسليبة . ولقد قدمت مؤخرا " أوبريت " استعراضيا غنائيا على مسرح رشاد الشوا ثم على مسرح جامعة الأزهر بغزة ، ولقد لاقى ترحيبا وإعجابا من المشاهدين المتعطشين لهكذا فن ، فهزتهم نشوة الطرب ودارت الذكريات برؤوسهم ، يشد كلا منهم حبلُ الشوق إلى قريته وإلى مدينته ، فقد صدق مَن قال : إن الشعوب لا تنسجم إلا مع فنونها وتراثها . وقبل شهرين تقريبا قدمت العنود حفلا موسيقيا غنائيا تصاحبه تابلوهات تراثية من الدبكة الشعبية شارك فيها الشباب الواعد من الجنسين ، فألهبت أغانيها الوطنية المشاعر والأحاسيس الجياشة ، ففاض الغرام على النفس التواقة لأصالتها ، واشتعل الهيام بالفردوس البعيد ، فذاب خلالها الإنسان في ذات الزمان والمكان ، ولا يفيق إلا بعد أن يخرج من باب المسرح إلى الشارع ، حينها يحس بالزمان غير الزمان ، وأن المكان ليس هو نفس المكان الذي عايشه أثناء فعاليات فقرات الحفل .
مؤسسة العنود كغيرها من المؤسسات الفنية بحاجة إلى من يسندها ويدعمها سواء من المؤسسات الحكومية الرسمية أو المؤسسات الأهليه الشعبية حتى تنهض وتحقق أهدافها الفنية التي هي جزء من الأهداف الوطنية ، وحتى تصمد في وجه السارقين لأرضنا ولتاريخنا ولموروثاتنا التراثية ، وحتى لايصيبها مرض الإفلاس والقعود . ولقد قُدِّر لي أن أزور مكتب د. العبسي فأراني أعمالا درامية مكتوبة على الورق وهي جاهزة للتصوير، وإنه ليحزنني أن رأيتها مصمودة على الرفوف تنتظر يد وزارة الثقافة تمتد إليها بما تحتاج إليه من مال لتدب فيها الحياة وتنشط فيها الحركة وتخرج من محبسها ، حتى تساهم في إرساء قواعد المجد الفلسطيني الذي نراه يندثر وتنمحي معالمه ، ولكن يبدو أن أيدي وزارة الثقافة مبتورة وعيونها مغمضة ، وأن وكلاء الوزارة والمديرين العامين لاهون عن واجباتهم الوظيفية والوطنية ، وبعيدون عن فلسطينيتهم ، ومع هذا فهم لايتغيرون ولايتبدلون حتى وإن وصل سنهم القانوني إلى التقاعد فلا يتقاعدون ، بل هم باقون وبيدهم قيد يدمي معصميها ورجليها ، ويعملون على وأد الثقافة وخنق المثقفين . وإننا لنتساءل : أين أعضاء اللوبي في وزارة الثقافة الذين يخرجون علينا من خلال شاشات التلفاز يتحدثون ولا نسمع منهم إلا تفاخرا بأقدميتهم في حركة فتح وبعطائهم في ديار الغربة وأنهم المؤسسون وأنهم الرياديون وأنهم الوارثون . ولقد عشت في ديار الغربة ، فلم أرَ إلا مسرحية واحدة على المستوى الوطني الممتاز وأعني مسرحية ( شعب لن يموت ) التي رأت النور على المسرح بعد انطلاق المارد الفتحاوي وخروج رجال المقاومة الفلسطينية منتصرين على العدو الإسرائيلي في معركة الكرامة سنة 1968 ، ولعب أدوارها الفنان المصري الراحل حسن البارودي والفنانة المصرية القديرة إحسان القلعاوي وآخرون من ممثلات وممثلين فلسطينين . بالإضافة إلى الندوات السياسية التي شارك فيها نخبة من المثقفين والسياسيين أمثال د. أحمد صدقي الدجاني والأستاذ عبد الله الريماوي والشاعر الراحل معين بسيسو وآ خرين من أهرامات فتح الأوائل . ثم تلتها فرقة العاشقين الرائدة وفرق ذاتية أخرى مثل فرقة جامعة بير زيت ، التي طافت بعض البلاد العربية بفن ذي نكهة فلسطينية خالصة . فأين كان المتنفذون على مقدرات وزارة الثقافة ؟ ، لا نريد أن نسميهم ، فالتاريخ الوطني سيجل أسماءهم وٍسليياتهم وتكويشهم على المال والأعمال . واأسفاه ! لقد أصبحت مؤسسات السلطة كلها عقارات مملوكة لرجال الأعمال واللوردات والنبلاء و للوزراء والوكلاء والمديرين العامين ، وأمست قضية فلسطين البقرة الحلوب ، وكلهم يفتح حِجـْره لملئها بالزبد والحليب ، كما أضحت منظمة التحرير الفلسطينية مقهى للعجزة وبورصة لسوق المال لكل منهم أسهم معلومة في ( شركة التحرير الفلسطينية ) . فأََثـْروا واغتنوا وصاروا من أصحاب ملايين الدولارات وعشرات العقارات ، يملكون القصورالفارهة والمنتجعات الرحبة . وأحسبهم مثل رئيسهم الذي لايمل ركوب الهواء والتحليق في الفضاء على الجامبو موديل بساط الريح ، تاركين وراءهم سكان قطاع غزة يغرقون في بحر من الظلم والظلمات ، يموتون في الليلة الواحدة أربعا وعشرين مرة ، بينما الرئيس وحاشيته وبطانته يعيشون ألف ليلة وليلة كل ليلة ، بحيث لا يوجد متسع في ذاكرتهم ووجدانهم وضمائرهم وحسهم الوطني للقضية الفلسطينية ولا لهموم الشعب الفلسطيني . وإني أسألكم يامن تتحدثون بالمخفي والمستور في برنامج " حكي ع المكشوف " : أين دوركم في دعم المؤسسات الثقافية سواء الحكومية أو الأهلية ؟ أين أنتم مما أصاب اتحاد الكُتاب بغزة من إغفال وإهمال بحيث تعطَّلت أدواته فلا يخرج من بين يديه ولامن خلفه كتاب أوندوة ، وتركتموه بلا مستحقات وبلا تسديد أقساط إيجار مقره . فكانت النتيجة الإغلاق التام لتنفتح أبواب وأحضان اتحاد كُتاب حماس لرواده ، فتتقاطر منه النتاجات الأدبية ، وتنشط فيه الحركة الثقافــية . ألا تغارون ؟ . ثم لماذا لاتنهضون لمقاومة اعتداءات الصهاينة المتكررة على إرثنا الوطني وتراثنا الشعبي والتصدي لهم بالكلمة وبالأعمال الفنية المتنوعة ؟ . ألم يأتكم أنباء ما يفعله الإسرائيليون من سرقة التراث الفلسطيني وادعائهم أنها أغنياتهم ومشغولياتهم اليدوية وثيابهم التراثية ، فتخرج الممثلات الإيطاليات والفرنسيات والأمريكيات في السينما العالمية يرتدين الثوب الفلسطيني المُطَّرز بالإبرة الفلسطينبة اعتقادا منهن أنها أزياء تراثية إسرائيلية . كذلك فانظروا إلى ما يقومون به من سطو على الإطار اللحني " للدلعونا ، وظريف الطول ، وع الدُّوم عيني ع الدُّوم ، وسَلَّم عليَّ لمَّا قابلني " في موسيقاهم دون صد منكم ولا رد عليهم يفضح دعواهم ، مما يشجعهم تقاعسكم على التمادي في سرقة وجودنا كله ...ألاتستحون من أنفسكم أيها المثقفون الفلسطينيون ؟ أين ضمائركم ووطنيتكم ؟ تكلموا ، وقولوها ع المكشوف : إن لم تستحوا فاصنعوا ما شئتم . *
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت