النخبة السياسية الفلسطينية: صناعة الانقسام وأوهام الانتصار

بقلم: إبراهيم أبراش

(1)

تعدد النخب وتبادل أدوار الفشل

التحليل النخبوي للنظم وللحياة السياسية يكتسب في الحياة السياسية المعاصرة مزيدا من المصداقية بسبب تزايد دور وتأثير قوى مجتمعية وسياسية تتشكل في إطار جماعات مصالح وتحوز القوة والقدرة السياسية من خلال امتلاكها السلطة الفعلية أو سلطة التمثيل والإنابة عن الشعب،أو بسبب تأثيرها على متخذي القرارات السياسية.لذا فالتحليل النخبوي الأكثر قدرة على فهم وتفسير المجال السياسي في مجتمعات لم تعد النظريات السياسية التقليدية،كالديمقراطية والماركسية،ولا المقاربات القانونية والمؤسساتية،قادرة على فهم وتفسير كثير من ميكانزمات عمل الحياة السياسية المعاصرة .

يؤسس التحليل النخبوي المعاصر على أنه في كل الأنظمة، سواء كانت ديمقراطية أو استبدادية أو عسكرية،هناك نخب تَحكُم مباشرة أو تؤثر على متخذي القرار، موظفة قدراتها السيكولوجية والمادية والقدروية وموظفة الشعب أيضا لتحقيق مصالحها التي قد تلتقي مع مصالح الشعب وقد لا تلتقي.والحالة الفلسطينية مثال جيد لخضوع مجال سياسي بكامله لسيطرة وتوجيه نخب سياسية واجتماعية أكثر من خضوعه لمؤسسات دولة أو سلطة سيادية.لذا يعتبر التحليل النخبوي أكثر مناهج التحليل قدرة على فهم وتفسير المجال السياسي الفلسطيني ،و فهم بنية النخبة الفلسطينية وملابسات تشكلها والأدوار التي تقوم بها وعلاقاتها العربية والإقليمية والدولية سيمكننا من فهم سيرورات الحياة السياسية الفلسطينية وتفسير كثير من الأمور التي تعجز المقاربات القانونية والمؤسساتية على تفسيرها .

إذن في ظل غياب دولنة المجال السياسي ومع شكلانية السلطة فإن النخبة السياسية الفلسطينية تعتبر الفاعل السياسي الرئيس الذي يستحوذ على عملية صنع القرار وعلى توزيع وتقاسم الأدوار والمغانم وتأطير المشهد السياسي.إلا أن توظيف مصطلح النخبة أو الصفوة Elate في تحليل الحقل السياسي الفلسطيني لا يعني أننا أمام نخبة متجانسة أو نخبة يتميز أفرادها بالأفضلية والتفوق القيمي والأخلاقي والسياسي كما يوحي مصطلح نخبة أو صفوة .نحن نسميها نخبة سياسية لأن في يدها مقاليد الأمور وتمارس سلطة أمر واقع ،ويتم التعامل معها خارجيا كمسئولة عن الشعب الفلسطيني أو تمثيله،أيضا هي نخبة في حالة تحول من نخبة ثورية وجهادية إلى نخبة سلطة خاضعة للاحتلال وفاقدة للشرعية الدستورية ،بل يمكن إدراجها ضمن جماعات المصالح ،لا فرق بين النخب في الضفة الغربية والنخب في قطاع غزة،إلا على مستوى الشعارات والأيديولوجيات ،وهو فرق شكلاني خارجي لا يغير من حقيقة الوحدة الجوانية لهذه النخب من حيث نمط تفكيرها وتعطشها للسلطة والجاه والمغانم ،وفي نظرتها الدونية للشعب .

بالإضافة إلى غياب الدولة التي تؤطر عمل النخبة فإن واقع شتات الشعب الفلسطيني أضفى خصوصية على تشكل النخب وآليات عملها ومدى استقلاليتها،فالحديث عن النخبة أو النخب السياسية الفلسطينية لا يرتبط بمواقع سيادية للنخبة أو بقدرتها على اتخاذ قرارات سيادية بل بحيازتها سلطة تأثير على مجريات الحياة السياسية وسلطة تقرير مقيدة بما تمنحه لها سلطات الدولة التي يقيمون بها سواء كانت سلطة دولة الاحتلال أو سلطات الدول العربية والأجنبية حيث تتواجد التجمعات الفلسطينية في الشتات،ومن المفيد التذكير أن أول ظهور لنخبة سياسية رسمية كان خارج فلسطين المحتلة ،حيث ظهرت منظمة التحرير الفلسطينية و المنظمات الفدائية،بل إن اعتراف بعض الدول العربية – الأردن خصوصا- بمنظمة التحرير الفلسطينية كان مشروطا بعدم مطالبة منظمة التحرير بممارسة أي سيادة على الضفة الغربية التي كانت جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية قبل فك الارتباط إداريا بين الطرفين عام 1988.

إن دور الأطراف الخارجية في تشَكُل النخب السياسية الفلسطينية وفي ضمان ديمومتها أكثر بروزا من دور الشعب الفلسطيني نفسه،وحتى إجراء انتخابات تشريعية لمرتين -1996 و 2006- فإن هذه الانتخابات لم تغير كثيرا من حقيقة أن قوة تأثير الخارج على عمل هذه النخب بل واستمرارها أقوى من تأثير إرادة الشعب . وفي جميع الحالات فإن وجود واستمرارية النخب السياسية اليوم لا يعتمد على شرعية الانجاز بل يستمد من قيامها بادوار وظيفية تحددها أطراف عربية وإقليمية ودولية بالإضافة إلى إسرائيل.كما أن الانقسامات العمودية والأفقية داخل النخبة السياسية تؤثر ولا شك على صفتها التمثيلية والاستقطابية من جانب وعلى قدرتها على صياغة الأهداف الإستراتيجية الوطنية واشتقاق استراتيجيات عمل فاعلة تحضا بمصداقية داخلية وخارجية.

لخصوصية الحالة فإن النخبة الاجتماعية بمفهومها الواسع – اقتصادية ودينية ومثقفين- لها دور لا يقل عن دور النخبة السياسية وعليه فإن النخبة الفلسطينية تتشكل من:

1 – الرئيس ورئيس الوزراء والوزراء في الحكومتين

2- قادة الفصائل والأحزاب وأعضاء المكاتب السياسية أو مجالس الشورى

3- أعضاء المجلس الوطني والمجلس التشريعي

4- قادة الأجهزة الأمنية والجماعات المسلحة

5- رجال الإصلاح والمخاتير ورؤساء العشائر وأئمة المساجد

6- مستشارو الرئيس

7- رؤساء تحرير الصحف الرئيسة في غزة والضفة

8- بعض المثقفين وقادة الرأي العام .

9- بعض مدراء ورؤساء منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية

10- رجال مال وأعمال في الضفة يتعاملون اقتصاديا مع إسرائيل،وتجار إنفاق في غزة .



وكخلاصة يمكن تلخيص سمات وخصائص النخبة السياسية الفلسطينية بما يلي:

1- في حالة تحول نتيجة مؤثرات أيديولوجية وسياسية ومالية خارجية.

2- غير متجانسة إيديولوجيا وسياسيا حيث تتشكل من قوى دينية وعلمانية الخ.

3- تفتقر لحوامل اجتماعية واضحة لضعف الفرز الطبقي في المجتمع من جهة وغياب الطائفية والإثنية في المجتمع الفلسطيني.ومع ذلك فللعائلية دور وإن كان محدودا في تشكلها.

4- نخبة قوة لغياب الديمقراطية والقانون في عملها وضعف ثقافة الديمقراطية في المجتمع الفلسطيني بشكل عام.

5- نخبة مسلحة غالبا لامتلاكها جماعات وميليشيات مسلحة وكثير من هذه الجماعات يشتغل خارج مؤسسات أمنية وعسكرية رسمية.

6- نخبة أمر واقع وغير شرعية لانتهاء آجال المؤسسات المنتخبة .

7- في حالة صراع مستمر مع بعضها البعض لغياب المرجعيات الوطنية الجامعة والمنظمة لعملها.

8- تعيش مرحلة انتقالية مرتبكة نتيجة تخليها عن أصولها كحركات تحرر دون أن تتمكن من التموقع كنخبة سياسية لدولة مستقلة.

9- تفتقر لاستقلالية القرار حيث قرارها لجهات أجنبية إما على أساس إيديولوجي أو سياسي أو مالي.

10- تفتقر إلى الشفافية والوضوح في عملها .

11- لا يتوفر أي منها على الصفة التمثيلية الجامعة للشعب الفلسطيني.

12- نخبة طفيلية حيث تتعيش من مال سياسي خارجي أو من مصادر داخلية غير شرعية كالأنفاق في غزة .



لا أحد ينكر دور النخبة السياسية الأولى وخصوصا نخبة حركات المقاومة الفلسطينية المنضوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية في استنهاض الوطنية الفلسطينية بداية ظهورها منتصف الستينيات ودورها في فرض القضية الفلسطينية كقضية سياسية،قضية شعب يناضل من أجل الحرية والاستقلال بعد أن كانت مجرد قضية لاجئين فلسطينيين.آنذاك كانت حركة المقاومة أو الحركة الفدائية كما كانت تسمى قريبة من ضمير الشعب وتعبر عن ثقافته وتطلعاته وكان الفدائيون وقادتهم من أبناء الشعب يعيشون حياتهم ويعانون معاناتهم،ومن عايش تلك المرحلة كما عشناها يعرف أن كثيرين تركوا وظائفهم وأعمالهم المربحة والمتميزة وانخرطوا في العمل الفدائي،وحتى من لم يكن منضويا رسميا في العمل الفدائي كان يساهم من ماله الخاص في دعم هذا العمل وكثير من الفلسطينيين الذين يشتغلون في الخارج كانوا عن طيب خاطر يقتطعون نسبة من راتبهم لصالحة منظمة التحرير .فالوطنية آنذاك كانت عطاء بلا حدود ولم يكن أحد يفكر بمكسب أو ربح من وراء انخراطه في العمل الفدائي،ولذلك حضت الحركة الفدائية بتقدير واحترام ليس فقط الفلسطينيين بل وكل العالم الذي انحنى احتراما واعترف بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني بالرغم من ممارسة الفلسطينيين آنذاك للعمل الفدائي المسلح داخل فلسطين وخارجها .

يبدو أن تلك المرحلة أصبحت ذكرى جميلة بالرغم من أنها لم تحرر وطنا ولم تُقِم دولة،ذكرى جميلة وتاريخ مشرِف مقارنة مع واقع النخب السياسية اليوم ،حيث لم تعد المصلحة الوطنية أو العمل في سبيل الله والوطن دافع الانتماء الحزبي أو السعي لتأسيس مؤسسات المجتمع المدني، بل بات الدافع طلبا لوظيفة أو بحثا عن مكسب ومغنم.وباتت النخب الفلسطينية تعيش حالة من التعالي عن الشعب لإخفاء عجزها عن التعامل مع استحقاقات العمل الوطني الجاد،تعالي السياسي المؤدلج الذي يعتقد انه عالِم ومُحيط بكل شيء، محولا المجتمع والقضية الوطنية لحقل تجارب لكل ما يُستَجد من أيديولوجيات وشعارات وتهويمات سياسية ،متسلحا بديماغوجية الشعارات أو بسيف السلطة المالية أو السلطة الدينية.

لذلك تعيش القضية الوطنية حالة انفصال وانفصام مزدوجة :انفصال وانفصام ما بين النخب من جانب و غالبية الشعب من جانب آخر ،وانفصال وانفصام ما بين النخب والتشكيلات السياسية بمصالحها وصراعها على السلطة من جانب والواقع بما يتطلبه من مستلزمات نضالية حقيقية من جانب آخر.هذه الحالة أدت لفشل معمم للمشاريع السياسية والتنموية والاجتماعية والتحررية وصيرورة الحال للوضع الراهن المتسم بالانقسام الداخلي وانغلاق الأفق السياسي وحالة التيه والإرباك التي تعم كافة الأحزاب والفصائل ومؤسسات المجتمع المدني، حالة تيه وإرباك تشمل القضايا الرئيسة كالتسوية والسلام والمقاومة وأضيف إليها ملف المصالحة الوطنية.

إذا تُركت القضية الفلسطينية للنخب القائمة اليوم فلن يخرج النظام السياسي الفلسطيني من مأزقه وستفشل كل محاولات استنهاض المشروع الوطني.إمساك النخب السياسية بكل تلابيب الحياة السياسية يشكل عائقا أمام استنهاض مشروع مقاومة حقيقي حتى في صيغته السلمية ، وعائقا أمام استنهاض مشروع سلام حقيقي وعادل حتى في إطار قرارات الشرعية الدولية ، وسيبقى كل طرف – فتح وحماس- يجتر الشعارات ويرمي بالمسؤولية عن فشله على عاتق الطرف الثاني ،فيما القيادات النافذة في كل طرف تعرف حقيقة أن فشلها لا يعود لمناكفات أو أخطاء الطرف الثاني، بل فشلها يكمن في ذاتها :نهجا ومصالح ذاتية وفئوية بات لها الأولوية على المصلحة الوطنية،هذا بالإضافة إلى أن إسرائيل استطاعت تدجين وتطويع غالبية النخب السياسية والمدنية وإن بدرجات متفاوتة،بالإضافة إلى معادلة دولية جدية خلقت الظروف المواتية للانقسام وتعمل على ديمومته.


ففيما يشبه المفارقة الخطيرة أن فشل ودمار المشروع الوطني التحرري والفشل المُعمم لكل مكونات النظام السياسي وحالة البطالة والفقر التي يمر بها الشعب ،لا تنعكس على واقع نخب الأحزاب والفصائل ومؤسسات المجتمع المدني،فخراب ودمار وضياع الوطن والمشروع الوطني يواكبه تَشَكُل نخب حزبية ومدنية تتسم بالثراء والنفوذ والامتيازات غير المسبوقة ،الأمر الذي يحتم ربط الأمور بعضها ببعض من خلال معادلة بسيطة تقول بأن اغتناء هذه النخب ثمنه تضييعها للوطن أو تخليها عن مسؤوليتها عن تحرير الوطن والدفاع عن كرامة المواطن .لا فرق بين نخبة حركة فتح في الضفة حيث غِناها وامتيازاتها مقابل سكوتها – ولو كان عن عجز- عن الاستيطان والتهويد ،أو نخبة حماس في غزة حيث غِناها غير المسبوق واستمرارها في السلطة ثمنه تخليها عن المقاومة المسلحة في فلسطين 48 أولا ثم في الضفة ثم عبر الحدود بين غزة وإسرائيل وقيامها بدور الحارس للحدود الجنوبية مع إسرائيل.ولا فرق بين فساد النخب السياسية وفساد نخب المجتمع المدني ،بل إن فساد المجتمع المدني لا يقل خطورة عن فساد النخب السياسية ،لأن فساد الأولين خارج نطاق المحاسبة والرقابة سواء من المجتمع أو من الحكومتين أو من الجهات المانحة.

هذه النخب التي باتت أسيرة مصالحها الاقتصادية وأسيرة متطلبات السلطة وأسيرة ثقافة لا تعترف بالخطأ أو بالنقد الذاتي أصبحت تتبادل ادوار الفشل دون ان تعترف بانها فاشلة ،فبالرغم من الفشل والطريق المسدود الذي وصلت إليه منظمة التجرير والسلطة إلا ان نخبها ما زالت تتصرف وكأنها ممسكة بمقاليد الأمور وما زالت ترفض الاعتراف بالفشل،وذلك ينطبق على حركة حماس التي تخفي فشلها الوطني بالارتماء بأحضان الإخوان المسلمين ،ولذا ستستمر هذه النخب باجترار خطاب عن المقاومة أو السلام لا علاقة له بالواقع ،وتسويق انتصارات وهمية لتبرير وجودها واستمرارها في السلطة،ولكل طرف أوهامه التي يسوقها للشعب وهي أوهام إن لم تكن تعبر عن الجهل السياسي وهو أمر خطير فإنما تعبر عن تضليل مقصود للشعب وهو أخطر من الجهل.

بالرغم من حالة العداء بين فتح وحماس ومختلف النخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلا أننا نعتقد بأنها تتجه نحو التعايش في إطار الانقسام القائم والبحث عن مخارج غير وطنية للقضية الوطنية.

‏11‏/8‏/2012

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت