في ذكرى جريمة إحراق المسجد الأقصى المبارك
في صبيحة يوم الخميس السابع من جمادى الثانية عام 1389 للهجرة النبوية ، الموافق 21/8/1969م استيقظ العرب والمسلمون على نكبة جديدة حاول إيقاعها صهيوني إرهابي مجرم ؛ فقد امتدت يده الغادرة إلى مسرى نبيهم محمد صلى الها عليه وسلم وقبلتهم الأولى فأضرم فيها نيران حقده وعنصريته ؛ بعد فشل محاولته ذلك قبل عام كامل بتاريخ 21/8/1968م ، ولكن بفضل الله سبحانه وتعالى ، وبسبب يقظة وانتباه حراس المسجد الأقصى المبارك يومها باءت محاولته الحاقدة بالفشل ، وتظاهرت حينها سلطات الاحتلال بإلقاء القبض عليه لبعض الوقت لكنها سرعان ما أطلقت سراحه ليعاود المحاولة من جديد .
وكعادتها سارعت سلطات الاحتلال إلى التنصل من أية مسؤولية عن هذه الجريمة النكراء ؛ فنسبت مرتكبها مايكل دينيس روهان إلى الجنون لتغطي على الحرائق الفعلية المبرمجة والخطط التآمرية المنظمة التي يقوم بها العقلاء والحكماء من دهاقين ساستها . وحقيقة الأمر أن فعلته النكراء هذه حظيت بدعمها بدليل إعاقتها عمليات الإطفاء وتباطؤها في محاولات الإنقاذ ، وحظي هو شخصياً بالحماية القانونية فقد ادَّعى محِّرضوه إصابته بالعَتَه واختلال قواه العقلية ، فنجا من المساءلة والمحاكمة والعقوبة العادلة .
وما أن سمع أبناء شعبنا المجاهد بالكارثة حتى هبوا من كل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية رجالاً ونساء ؛ شيوخاً وأطفالاً لنجدة مسجدهم والدفاع عنه رغم العراقيل التي وضعتها سلطات الاحتلال في طريقهم ، وانطلقت سيارات الإطفاء من مدن نابلس وبيت لحم والخليل وغيرها ، وهرع أهل البلدة القديمة في القدس إليه سراعاً يحملون الماء بأيديهم يخمدون به ألسنة اللهب التي سرت فيه . وفي اليوم التالي للحريق أدى آلاف المسلمين صلاة الجمعة في الساحة الخارجية للمسجد الأقصى المبارك وعمت المظاهرات الغاضبة مدينة القدس وسائر المدن الفلسطينية بعد ذلك احتجاجاً على هذا التعدي السافر على كل القوانين والقيم والأعراف .
أوقع الحريق بالمسجد الأقصى المبارك أضراراً مادية فادحة ، فهدد قبة المسجد الأثرية المصنوعة من الفضة الخالصة ، وتسبب في خسارة عظيمة لا يمكن تعويضها ؛ فقد شمل أماكن كثيرة من المسجد المبارك ؛ منها منبر الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي الذي يمثل قطعة فنية نادرة من الخشب ؛ صنعه القائد نور الدين زنكي في حلب ثم حمله إلى القدس القائد صلاح الدين ، ومنها محراب زكريا بكامل مساحته التي تبلغ 400 متر مربع بكامل نقوشه وزخارفه ، ومنها أيضاً الزخارف والفسيفساء الموجودة على القبة الخشبية ، والخشب المزخرف في سقف المحراب ، وأصاب التلف العمودين الموصلين من ساحة القبة إلى المحراب والقوس المحمول عليهما ؛ وسورة الإسراء المكتوبة بالفسيفساء المذهبة فوق المحراب ؛ والجدار الجنوبي بجميع التصفيح الرخامي الملون . وأتت النيران على كامل السجاد ؛ وعلى ثلاثة أروقة مع الأعمدة والأقواس والزخرفة ؛ وعلى جزء من السقف الذي سقط على الأرض ، وثمان وأربعين واحدة من النوافذ الفريدة بصناعتها وأسلوب الحفر عليها ؛ الذي يمنع دخول الأشعة المباشرة إلى المسجد .
كانت جولدامئير رئيسة حكومة الاحتلال يومذاك ؛ كانت تظن أن الأمة الإسلامية ستبتلع كيانها ، أو أن الأرض ستتزلزل من تحت أقدامها ، حتى لقد عدَّت يوم الحريق أسوأ يوم في حياتها . لكن طلع النهار وأشرقت الشمس ، ولم يحدث شيء من تخوفاتها وظنونها ، فعادت وأكَّدت أن اليوم التالي للحريق كان أسعد أيام حياتها . فقد جاءت ردود الفعل العربية والإسلامية باهتة ضعيفة ومخيبة للآمال . صحيح أنها فجرت ثورة عارمة في أرجاء العالم الإسلامي ، فغضبت جماهير أبنائه وثارت لهذه الجريمة البشعة ، لما فيها من انتهاك لحرمة مقدساتها ومساس بأماكن عبادتها واعتداء على كرامتها وعقيدتها ، لكن كان لزاماً عليها الرد على هذا التحدي السافر لمشاعرها ودينها بتأكيد الوحدة وجمع الكلمة واستنفار القوة اللازمة لمواجهته .
تداعى زعماؤها وحكامها خلال شهر من الكارثة إلى مؤتمر قمة لهم في المغرب ، قرروا فيه تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي ، التي تضمَّن ميثاقها العهد على السعي بكل الوسائل لتحرير القدس الشريف من الاحتلال .
ثم أنشئت لجنة القدس عام 1975 م بهدف متابعة تنفيذ القرارات التي تتخذها منظمة المؤتمر الإسلامي والهيئات الدولية الأخرى التي تؤيدها أو تتمشى معها ، والاتصال مع أية هيئات أخرى ، واقتراح المناسب على الدول الأعضاء لتنفيذ المقررات وتحقيق الأهداف ، واتخاذ ما تراه من إجراءات . ويهدف إنشاء لجنة القدس أيضاً إلى تنفيذ جميع قرارات المنظمة المتعلقة بمواضيع الصراع العربي الإسرائيلي نظرا للترابط الجذري بينه وبين قضية القدس وفلسطين .
توالى عقد المؤتمرات العربية والإسلامية من أجل القدس ومن أجل المسجد الأقصى المبارك ؛ لكن دون أن يصدر عنها قرارات عملية لتحريره وإنقاذه من الأسر ، فتجرأ المحتلون على مواصلة انتهاكاتهم المتوالية ضد المسجد الأقصى المبارك وضد مدينة القدس إلى يومنا هذا ، ثم توالت في السنوات الأخيرة مؤتمرات نصرة القدس ، لكنها لم تختلف نتائجها عن نتائج سابقاتها من المؤتمرات ، أموال تُهْدَرُ وحناجر تَهْدِرُ وشخصيات تروح وتجيء .
أما على المستوى العالمي فكان من المنتظر أن تحدث هذه الجريمة الحاقدة دوياً في أرجائه ، وأن يكون لمنظماته موقف واضح يسهم في الحفاظ على المسجد الأقصى المبارك وحمايته من أي مساس بحرمته أو عدوان على بنيانه ؛ ليس فقط لكونه دار عبادة تمنع القوانين والتشريعات الدولية التدخل في شؤونه أو انتهاك قدسيته أو ازدواجية العبادة فيه ؛ بل بوصفه أيضاً صرحاً معمارياً وأثراً حضارياً وجزءاً من التراث الإنساني . وبالفعل فقد أدان العالم هذا العدوان واستنكره وامتعض منه ، وكفى ! فلم يتمكن من تطبيق قراراته الدولية الضعيفة التي أصدرها على استحياء ، ولم يأبه يوماً لعدم التزام المحتل بها أو لرفضه تنفيذها . وهذا نهجه من قبلُ ومن بعدُ في قضايا الأمة الإسلامية والعربية ، ولسنا مجحفين في تقرير هذه الحقيقة السلبية الواضحة للعيان ، فقد رأينا ورأى الجميع موقف المجتمع الدولي من تحطيم تماثيل بوذا في أفغانستان ، وهل من مقارنة بين الموقفين ؟ وفي كل يوم تطلع فيه الشمس نرى وقوفه إلى جانب المحتل وتبرير أفعاله .
واليوم ؛ وبعد مضي أكثر من أربعة عقود على الجريمة البشعة التي أصابت المسلمين في صميم عقيدتهم إلا أنهم من يومها إلى الآن لم يقوموا بدورهم المنتظر في إنقاذ المسجد الأقصى المبارك من اعتداءات سلطات الاحتلال الإسرائيلي كما يجب ، فالحفريات متواصلة تحت أساساته وأسواره وفي محيطه فأثرت في بنيانه وصدعت بعض جدرانه وسببت انهيارات في ساحاته ، واقتحامه يومياً من قبل الجماعات اليهودية المتطرفة المدعومة من الأذرع العسكرية الاحتلالية لأداء الصلوات التلمودية فيه لا يتوقف ، ومنع المصلين المسلمين دخوله والصلاة فيه إجراء علني مستمر تتخذه سلطات الاحتلال الإسرائيلية على مرأى ومسمع من العالم أجمع .
إن حالة اللامبالاة التي تسيطر على الأمة وعلى المجتمع الدولي بأسره تجاه ما يجري في المسجد الأقصى المبارك جرّأت بعض الساسة والحاخامات الإسرائيليين عليه فأصبحوا يطالبون بتقسيم الزمان والمكان فيه بين المسلمين واليهود لتحويل أجزاء منه إلى كنيس يهودي على غرار ما حصل في الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة خليل الرحمن ، وهذا ما حذرنا منه مراراً وتكراراً على مدى السنوات الماضية الذي تسعى إسرائيل لتحويله إلى حقيقة واقعة .
ومما يؤسف له أن القمة الإسلامية التي عقدت قبل أيام في مكة المكرمة ـ كغيرها من القمم ـ لم يصدر عنها أي موقف إسلامي يشير إلى عزم الأمة على القيام بواجبها العقدي والديني في إنقاذ المسجد الأقصى المبارك والدفاع عنه وحمايته من المؤامرات التي ترمي إلى الهيمنة عليه تمهيداً لهدمه وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه ؛ مما يشجع سلطات الاحتلال الإسرائيلية في تنفيذ مخططاتها بكامل الأريحية ودون مساءلة من أحد .
كل ذلك يزيد يقيننا بأن المسجد الأقصى المبارك في خطر حقيقي ، والواقع المشاهد يصدق هذا اليقين فأين الأمة ! أما آن لها أن تقوم بواجبها في إنقاذ مسرى نبيها محمد صلى الله عليه وسلم أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ؟
الشيخ الدكتور تيسير التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت