..أعترف ألان أنني كنت فظاً مع هذا الرجل العظيم،والذي مثل وجسد مدرسة ثورية قل نظيرها في الساحة الفلسطينية من حيث التواضع والالتصاق بالجماهير وهمومها،ودفء العلاقة الرفاقية والقناعات الفكرية العميقة وتغليب المصالح العليا للوطن على المصالح الفئوية،والمساهمة الجادة والفاعلة من أجل توحيد قوى اليسار الفلسطيني،كتيار بديل عن ما هو قائم في الساحة الفلسطينية ،تياري الانقسام (فتح وحماس).
وأذكر انه في ذروة التحضيرات والنقاشات التي أجرتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لعقد مؤتمرها الوطني السادس،ودعوتها لعدد من أصدقاءها القدماء لحضور تلك الاجتماعات والنقاشات،كنت واحداً من المدعوين وقد احتدم النقاش حول دور الجبهة الشعبية وبهتان وعدم وضوح موقفها السياسي،وكذلك حالة "التوهان" والضياع وحتى الخواء الفكري،وطال النقاش والنقد اللاذع الهيئات القيادية الأولى للحزب،وانتقد غياب القرار المركزي الموحد في قضايا مفصلية وجوهرية، وهذا كان نتاج لكون الجبهة كانت تعيش أوضاعاً أقرب الى الحالة التنظيمية من الوضع التنظيمي الصلب الممسك بكل مفاصل العمل ومتوحد الإرادة،والنقاش محتدم حول ذلك ومن باب الحرص والغيرة على حزب شكل بوصلة النضال الوطني الفلسطيني،وكان نموذجاً ومثالاً رائعاً ورائداً للكثير من حركات التحررية والثورية في العالم،خاطبت الرفيق القائد الشهيد والحضور بالقول،بأن ما آل إليه وضع الجبهة من خفوت صوتها النضالي والكفاحي،وتراجع ادائها وفعلها وحضورها الشعبي والجماهيري،مرده وسببه بالأساس هو الرأس القيادي،وهو من يتحمل القسط الأكبر والمسؤول عن أزمة الجبهة وتعمقها،واستخدمت عبارة قاسية بحق الرفيق القائد الشهيد هي"التلم الأعوج من الثور الكبير"،وقد تقبل الرفيق تلك الكلمة الناقدة وما تضمنته من تعبيرات قاسية،على قاعدة من حق من يعمل أن ينتقد،والنقد نابع من الحرص والمسؤولية،وجاءت التطورات والمسيرة اللاحقة للجبهة برأسها القيادي القائد الشهيد أبو علي مصطفى لتثبت أن هذا الرفيق كان لديه الكثير من السجايا والملاكات والقدرات والطاقات المبدعة القادرة على إحداث نقلة نوعية على أوضاع الجبهة ومسيرتها في مختلف الميادين والمجالات،حيث استطاع أن يعيد اللحمة التنظيمية الى جسد الجبهة،ويوحد رؤيتها وموقفها السياسي من مختلف القضايا الاستراتيجية والسياسية عبر موقف مركزي موحد يعبر عنه من قبل هيئات الحزب المركزية،وبدأت الجبهة في عهده تستعيد عافيتها ودورها،وأصبحت الحركة تدب في مختلف أوصال وقطاعات عملها،وكانت الأمور تتجه نحو الخروج من الأزمات التي عاشتها الجبهة لفترة طويلة بسبب أوسلو وما تركه على مسيرة الثورة والنضال والقضية الوطنية والجبهة نفسها من أثار وتداعيات سلبية،حيث بذل البعض في الساحة الفلسطينية جهوداً كبيرة واستخدم ماكنة المال والتحريض والدس الرخيص ووظف كل طاقاته وإمكانياته وعلاقاته من اجل تشويه موقف الجبهة والضغط عليها من أجل قبول اوسلو والمشاركة فيه،ووصل الأمر حد شراء الذمم والحصار والتجويع وسد وتجفيف كل منابع المال عن الجبهة الشعبية،ولكن الجبهة بقيت امينة لمبادئها ووفية لشهدائها وأسراها ولشعبها ولتاريخها،وتجاوزت تلك المرحلة،رغم ما تركته على جسدها من أضرار،وفي الوقت الذي كان فيه المارد الجبهاوي يستعيد عافيته ودوره وحضوره،داهمت الانتفاضة الثانية ايلول/2000 الجبهة الشعبية،كما داهمت الفصائل الأخرى،ولكن هذا لم يمنع الجبهة الشعبية وفي المقدمة منها أمينها الشهيد القائد أبو على مصطفى وهيئاتها القيادية،من أن تتخذ قرارات جريئة،ليس بالمشاركة الفعالة في الانتفاضة،بل الزج بكل طاقات الجبهة الشعبية في ميدان العمل الانتفاضي المقاوم،ويبدو ان الاحتلال استشعر بأن وجود هذا القائد من شأنه أن يرمم كل أوضاع الجبهة،وهو يعطي ويولي أهمية كبيرة للعمل كبيرة الكفاحي والنضالي،وخصوصاً أنه طالب رفاق الحزب رداً على جرائم الاحتلال بحق شعبنا،بإطلاق النار على رؤوس جنود الاحتلال ومستوطنيه،وكان دور الجبهة الشعبية في الانتفاضة بارزاً وملحوظاً،وصعدت من عملها الكفاحي والنضالي،ولذلك كان ثمن ذلك باهظاً،حيث كانت عملية اغتيال الشهيد القائد في مكتبه برام الله،وشن الاحتلال حرباً شاملة على الجبهة،فقد اعتقل اغلب أعضاء مكتبها السياسي ولجنتها المركزية وهيئاتها القيادية،معتقداً ومتوهما الاحتلال بأن ذلك قد يؤدي الى تفكك وتحلل الجبهة الشعبية،ولكن اتت التطورات لتؤكد قدرة الجبهة على النهوض،فمع انتخاب القائد النوعي احمد سعدات اميناً عاماً للجبهة الشعبية،كان ذلك رسالة واضحة للاحتلال بأن الحرب مفتوحة معه ولا هوادة فيها،فهذا من القادة المتمرسين في كل فنون وأشكال النضال،ولم تمضي فترة قصيرة جداً على انتخابه أميناً عاماً للجبهة الشعبية،حتى ترجم شعاره الذي رفعه الرأس بالرأس والعين بالعين،انتقاماً لاغتيال الشهيد القائد أبو على مصطفى الى فعل على أرض الواقع،حيث اغتالت الجبهة الشعبية الوزير الصهيوني المتطرف رحبعام زئيفي.
اليوم تأتي الذكرى الحادية عشر لاغتيال الشهيد القائد أبو على مصطفى،وهناك مسألة ملحة وهامة تنتصب أمام أعضائها،ألا وهي ضرورة عقد المؤتمر الوطني السابع للجبهة،وضرورة أن تقف الجبهة أمام أوضاعها بوقفة نقدية صارمة،ضرورة أن تعبر عن هويتها الفكرية والايدلوجية بشكل واضح،ضرورة ان تسلم أمور قيادتها الى قيادات شابة تضخ دماء جديدة في عروقها،وأن تحفظ للقيادات القديمة تاريخها واحترامها،فالمطلوب قيادات منتجة على صعيد الفكر والنظرية والعمل،مطلوب مغادرة من تنمط وتكلس وأصبح عبئاً على الجبهة،لا يستطيع سوى اجترار النقد والتجريح أو القيام بمهام التشريفات،مطلوب قيادات تنهض بأوضاع الجبهة في كل خانات وميادين العمل،وأن تنتهي ظاهرة العمل النخبوي والفوقي،مطلوب قيادات تتغلل في أوساط الجماهير،وأن تبتدع وتبدع أشكال جديدة ومتطورة للعمل والنضال تستوعب كل الطاقات،مطلوب قيادات موحدة وجامعة لا قيادات طاردة ومنفرة.
الجبهة الشعبية لها تاريخها وأرثها النضالي والكفاحي،ولها سمعة طيبة بين أبناء شعبنا،ولشعبنا ثقة كبيرة بها وبأبنائها،والذين مثلوا حالات نضالية وتضحوية مميزة،وممكنات نهوضها وتقدمها،رهن برأس وهرم قيادي يمتلك وضوحاً كبيراً في الرؤيا وقادر على التقاط الأحداث ومواكبتها،وأن يكون رائداً وقائداً للجماهير في معاركها النضالية والجماهيرية في مختلف الميادين.
القدس –فلسطين
29/8/2012