عدت هذا الأسبوع لمساعدة ابني بشارة بإطفاء حرائق أقامها بعض المحترفين والمزاودين بالتهجم دون أبسط قواعد البحث والاستقصاء وسهولة إطلاق الاتهامات دون الحد الأدني من الاحترام والاخلاق. وخرجت بالعديد من الاستنتاجات حول بعض الأمراض التي تضرب في الجسم الفلسطيني بشكل عام والمقدسي بشكل خاص. الموضوع المسبب لكل هذه الضجة فيلم دولي مدة عرضه 24 ساعة عن مدينة القدس يوفر فرصة فريدة لعرض قصص حياتية عن معانة وألم المقدسيين وفي أهم محطات التلفزة العالمية.
وتتمثل فكرة المشروع بتصوير يوميات سكان القدس في يوم محدد وعرضها دون “رتوش” تذكر أو تدخل مقص الرقيب أو المخرج.
القدس طبعاً مدينة معقدة وربما هذا سبب اختيارها من قبل المنتج الألماني صاحب فكرة برلين 24 والتي عكست حياة أشخاص من خلفيات مختلفة بصورة إنسانية.
فكل مدينة كبيرة لها عقد ولكن القدس قد تكون أكثرها عقداً. فهناك الفلسطيني وهناك الإسرائيلي وهناك الأجنبي وهناك رجال الدين وإلى ذلك من كشكول يصعب تفصيله.
الشركة الفلسطينية التي تم التوجه لها يديرها ابني الذي رجع بعد التخرج من الولايات المتحدة متحمساً لعمل شي إعلامي للقضية الفلسطينية يعكس المأساة الإنسانية والتطلعات الوطنية لشعبنا.
تم وضع شروط للمشاركة الفلسطينية في الفيلم منها التعاقد المباشر بين الجانب الألماني والجانب الفلسطيني وتخصص أي تمويل بأن يأتي للإنتاج الفلسطيني فقط من الجانب الأوروبي، كما وتم الاتفاق على حرية المخرجين والمنتجين الفلسطينيين باختيار المشاركين في الفيلم واستمرار المشاركة الفلسطينية في كافة مراحل التصوير والمونتاج لضمان أصالة الصوت الفلسطيني.وتم التواصل مع كافة الجهات الوطنية والإسلامية في القدس ورام الله، كما تم تشكيل الفرق التقنية وتم التعاقد مع المخرجين وكان واضحاً للمخرجين أن التعاقد يتم مع شركة فلسطينية فقط لمنتج طويل ومعقد عن كل ما يجري في القدس وسيبث على مدى 24 ساعة.
وكما أسلفنا لا يستطيع أي إنسان أن يتجاهل وجود الجانب الإسرائيلي، ومن المعروف أن الموقف الرسمي الفلسطيني هو ضرورة قيام عاصمة الدولة الفلسطينية في القدس الشرقية مما يعني أنه لا توجد محاولة إلغاء الطرف الآخر. فالمهم هو عدم إلغاء الطرف الفلسطيني.
قام المنتجون والمخرجون والباحثون- كما علمت- بالتنقيب عن الحالات الإنسانية والقصص القوية التي تعكس الرواية الفلسطينية المقدسية الأصيلة. وتم التعرف على العديد من القصص التي تحرك المشاعر وتعكس المأساة.فمنها العائلة التي انقسم بيتها بسبب الجدار، ومنها الشباب في سلوان الذين يناضلون ضد الاستيطان الهمجي، ومنها قصص محامين يناضلون للحفاظ على هويات المقدسيين، ومنها صاحب دكان في مخيم شعفاط المنكوب، ومنها قصص مبعدي حركة حماس في منطقة كفر عقب، ومنها صاحب سيارة إسعاف يعاني يومياً على نفاط التفتيش… تعرف عليها المخرجون وتحمسوا لعرض تلك القصص أمام الرأي العام العالمي.
ولكن المزاودين تدخلوا بأسلوبهم الهمجي، فبدأت حملات التشكيك وتزوير المعلومات، وظهر ذلك على موقع مناهضة التطبيع. فالتعاقد الفلسطيني الألماني أصبح تعاوناً إسرائيلياً فلسطينياً، وتمويل الجانب الفلسطيني من الفيلم من قناة آرتي الألمانية وغيرها من المحطات الأوروبية أصبح تمويلا من صندوق القدس الإسرائيلي.
كل ذلك بهدف تدمير مشروع وطني يهدف إلى نقل صورة أهلنا في القدس إلى العالم.لم يتصل أي انسان مع شركة “كتاب للإنتاج” لمعرفة الحقيقة، بل تم إصدار بيان بأسلوب رسالة مفتوحة قام ناشروها بتوزيع التهم فيها وعلى الطرف الآخر الرد بعد أن عينت جهة غير منتخبة ودون أية مرجعية معقولة بوضع أنفسهم في مقر القاضي والجلاد.
وتبع ذلك حالة هستيرية من التهديد لكل من له علاقة بالمشروع، وكأن وقف التصوير سيعيد لنا القدس. وقد تمت محاولة لدخول الموقع المذكور لمحاورة كاتبي البيان بعقلانية، ورغم وجود بعض أسماء الشخصيات الفلسطينية المعروفة (والتي لم تعرف عن البيان) إلا أن الموقع لم يضع اسم كاتب البيان أو المسؤول عن تلك الحملة أو عنوان أو هاتف متبنيه، كما لم تتم الإجابة عبر البريد الالكتروني الموجود في البيان عن التساؤلات.تواصلنا مع وزارة الإعلام ونقابة الصحفيين والمؤتمر الشعبي للقدس وشخصيات وطنية وممثلي المنظمة وتنظيم فتح وغيرهم وكلهم يقولون نفس الشي:مشروعكم ممتاز ومهم وضروري ونحن بحاجة ماسة إليه… وعند الدخول في التفاصيل يقولون لك ونحن لا نعرف ما هو التعريف الحقيقي لـ “التطبيع”،والخلاصة أن عليك قلع “شوكك بيدك”.البعض حاول تقديم اقتراحات من قبيل: لماذا لا يتم إنتاج فيلم عن القدس الشرقية فقط؟ وهذا ممكن، ولكن محطات التلفزة كما هو الإعلام يبحث عن التناقض ويريدون أن يروا شطري القدس في آن واحد. والغريب في هذه الحالة بالذات أن التناقض بين القدس الغربية والشرقية يوضح المأساة ويوضح الشرخ والتمييز والاحتلال والضم. فالمدخل للرأي العام الدولي لا يأتي بأن نفرض فقط روايتنا ونتوقع من الآخرين قبولها كما هي. فقوتنا في عدالة قضيتنا ويجب أن لا نتراجع عندما يتم عرض قصة الآخر.مؤيدو ما يسمى بحركة مناهضة التطبيع لا يمثلون وجهة نظر أو اجتهاد.فموقفهم هو “فرمان” وعلى الجميع الإذعان حتى ولو بالقوة لما قرروا هم بما هو صالح ومن هو طالح.
فالسؤال لسلطتنا الوطنية هل توجد في فلسطين سلطة أم سلطلتان؟ وهل يحق لجهة غير منتخبة أن تبتز المواطنين وتفرض أجندتها على الجميع؟ وهل هذه هي التعددية الفلسطينية التي طالما تمنيناها؟ أحد المخرجين الفلسطينيين اتصل بوزارة الثقافة لسؤالهم عن موقفهم فكان الرد من إحدى الموظفات أن الوزارة معارضة للفيلم، وهذا غريب فقد تم التواصل مع رئيس الوزراء حول الفيلم نفسه خلال شهر رمضان وتمت مناقشة مشاركة شخصية معينة فيه. فهل فعلاً أن للسلطة موقفاً أم أن هناك من يصنع المواقف حسب المزاج المختلف يوميا؟ في نهاية المطاف سيتم حسم الموضوع باتجاه معين ومن الممكن أن يتم إلغاء مشروع له فائدة كبيرة لعرض مأساتنا. وسيتم التصفيق من بعض الأطراف وسيحتفل البعض لهذا الانتصار، ولكن السؤال الحقيقي يبقي: من هو المنتصر ومن هو الخاسر؟
قد يكون هناك شركات خاسرة وستبحث عن مشاريع أخرى رابحة وفي مجال الترفيه أو الموسيقى التجارية أو مسابقات رمضانية وغيرها. ولكن الخاسر الحقيقي هو تلك العائلة التي تم قطع بيتها من قبل الجدار،وذاك الناشط في سلوان الذي كان يمكن أن يعبر عما يجري في حياته يومياً،وذلك المحامي الذي كان يمكن أن يوضح للرأي العام الأجنبي عن قضية الهويات والتمييز المنظم من خلال قوانين عنصرية. نعم.. القدس معضلة صعبة ولكننا نحن الذين نصعبها ونحن الذين نستطيع أن نفككها. كل من شارك في عمليات الإرهاب الفكري والترهيب للمخرجين، شريك في إبقاء القدس كما هي ويجب أن لا يرتاح بال كل من شارك في عملية التخريب المبرمجة هذه.سأرجع بعد أيام إلى الأردن.. ولكنني سأبقى متألما لما حدث في القدس، ليس فقط مما تقوم به إسرائيل فهي في النهاية العدو والمغتصب، ولكن المأساة هي فينا وفي عدم قدرتنا على التفاهم والعمل المشترك لما هو في المصلحة العامة وفي خدمة شعبنا وقضيتنا.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت