معضلات الديمقراطية الفلسطينية

بقلم: محمد السودي


أبدى العالم المتحضر " وفق المفهوم الغربي " اعجابه بالتجربة الانتخابية الفلسطينية سواء كانت على المستوى الرئاسي او التشريعي كما حصل عام 2006 ، ولكن نتائج الاخيرة لم تأتي على هوى صنّاع القرار الدولي في مقدمة اؤلئك راعي عملية التسوية السياسية في المنطقة " اذا صحّت التسمية على واقع الحال " ثم رفضت بدورها نتائج صناديق الاقتراع مالم تستجيب الاطراف الفائزة فيها للشروط المحددة على عجل التي لبستها الرباعية الدولية وفقا لمقاييس املاءات حكومة الاحتلال بالاتفاق التام مع الشريك الاستراتيجي الامريكي ، حينها ركزّت هذه الدول جلّ اهتمامها على الجانب الشكلي للعملية الانتخابية من خلال الاشادة بالشفافية والنزاهة التي احاطت بها ، غير ان حساب الحقل الغربي لم يأتي مطابقا لحصاد البيدر الفلسطيني عندما فازت حركة حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي ، إذ ظهر للقاصي والداني ازدواجية المفاهيم الغربية للديمقراطية المراد تطبيقها في المنطقة ، بعبارة اخرى ديمقراطية موجهّة مضمونه النتائج بما بخدم مصالحها ومخططاتها واطماعها ،والا فلا اعتراف بالخيارات السياسية للشعوب التي افرزتها صناديق الاقتراع طالما لم تؤدي الوظيفه المطلوبه منها ، مما جعل اعضاء المجلس التشريعي المنتخبين من الشعب مباشرة رهائن بيد قوات الاحتلال واستبدادهم ،دون ان يحرك العالم ساكنا للمعاناة التي لحقت بالنواب جراء اعتقالهم سنوات طويلة ولازال بعضهم قابعا في سجون الاحتلال حتى يومنا هذا .
ان الحالة الفلسطينية الفريدة من نوعها لايمكن مقارنتها مع تجارب اخرى إذ لم يحدث غالبا الا ما ندر اجراء انتخابات ديمقراطية حقيقية في مكان لا زال الاحتلال يجثم على صدر شعبه ويتحكم بكافة مجريات الحياة سياسيا واقتصاديا وجغرافيا ، الامر الذي يخالف المنطق الطبيعي للاشياء حيث يتم الجمع في هذه الحالة المعقدة بين الاضداد المتناقضة على اعتبار ان جوهر العملية الديمقراطية يكمن في الحرية للافراد والمجتمعات وحق الاختيار ، واذا جرت انتخابات في مكان ما كما حصل في العراق على سبيل المثال الذي كان واقعا تحت الاحتلال الامريكي المباشر فمن المؤكد انها تاتي ضمن سياق المتطلبات الضرورية التي تخدم الاهداف الاستراتيجية للمحتل على المدى البعيد .
لقد اثبتت تجارب الشعوب ان العملية الديمقراطية الواعية تنمو بالتدريج في اطار دورة التطور الطبيعي للمجتمعات على المستوى الاقتصادي والسياسي وفق خصوصية كل مجتمع من المجتمعات دون مبالغة او تهويل حيث لا يتوفر نموذج ديمقراطي موحد قابلا للتصدير يمكن ان يكون صالحا في كل مكان وزمان ، بالرغم من محاولات بعض منظري العولمة الجدد اشاعة مناخ عصر الديمقراطية الامريكية الذي يتهاوى امام الازمات الاقتصادية والاجتماعية وعلى اكثر من صعيد ، لعل ما يؤكد صحة ذلك ما يحدث الان من تحولات دراماتيكية في المنطقة العربية التي عانت ويلات الاستبداد والحكم المطلق وما زالت تخوض ولادات عسيرة ليست مضمونه النتائج ان كانت ستضعها على بدايات الطريق نحو الديمقراطية من عدمه ، اي ظهور اشكال اخرى من الديكتاتوريات مغلفة بشعارات الديمقراطية الزائفه .
أما حال التجربة الفلسطينية المضاف اليها احتلال استعماري وعدم حصولها على الاستقلال وبناء الدولة الفلسطينية ذات السيادة فقد اختلط الامر بين اولوية التحرر الوطني والبناء الديمقراطي وهي ممكنة الحدوث بالتوازي فيما بينها لو كانت هناك استرتيجية وطنية تحدد الاولويات الوطنية من خلال جبهة وطنية عريضة متماسكه تضم مختلف الاطياف السياسية ، ثمة محاولات كثيرة تتجاهل قراءة الواقع الموضوعي الفلسطيني وتصوير الامر بأن اجراء الانتخابات العامة والبلدية على اهميتها يمكن ان تشكل الحل السحري المنشود للمعضلات الفلسطينية ، قد يبدو ذلك ممكنا من الناحية النظرية كون العملية الديمقراطية تعبر عن رأي الاغلبية التي تفرض على الاقلية احترام اختيار المجتمع ولكن الذي حصل في الانتخابات التشريعية الاخيرة جلب كارثه على الشعب الفلسطيني حيث بات نسيجه الاجتماعي مهددا بشكل حقيقي ، وشكل الارضية الخصبة لحالة الانقسام المدمرة التي لا يبدو في الافق حلولا للخروج منها على المدى المنظور ، بل على العكس من ذلك تتعزز فرص الانقسام ثم الانفصال يوما بعد يوم على ارض الواقع نتيجة تعنت الطرف الذي يرى ان من حقه الاحتفاظ بالسلطة الى ما لا نهاية ، اذن فان مخاطر اجراءالانتخابات العامة بما فيها البلدية والمحلية وكذا المجلس الوطني في الظروف الراهنة قد يكون له عواقب وخيمة على الجميع لاسباب عديدة في مقدمتها عوامل الاحتلال الذي سعى بشكل حثيث الى تغذية الانقسام بكل اشكاله من خلال استثمار الفرصة لتسريع مخططاته العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني ومصادرة اراضيه وتسريع وتائر الاستيطان وتهويد مدينة القدس وعزلها عن محيطها وتقطيع اوصال الاراضي الفلسطينية الى كانتونات لا يمكن التواصل فيما بينها ، كما يشكل الحسم العسكري في قطاع غزة الطامة الكبرى على مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني بما في ذلك مسألة وحدانية تمثيل شعبنا مما يعني تسلل المتربصين بالقضية الفلسطينية عبر نافذة الانقسام للطعن بأحدى اهم الثوابت الوطنية التي تعمدت بفعل المسيرة الكفاحية الطويلة تجلى ذلك في استقبال رئيس جمهورية مصر العربية مسؤول حكومة حماس المقالة في القصر الجمهوري الامر الذي ما كان ينبغي تمريره والسكوت عنه وتلتها دعوة طهران الى قمة عدم الانحياز والباب لا زال مفتوحا على مصراعيه من اجل تكرار هذه المحاولات ، الامر الاخر الذي لا يقل اهمية عن سابقيه يتمثل بتعدد القوانين الخاصة بالانتخابات حيث جرت الانتخابات البلدية السابقة وكذلك الاتحادات والمنظمات الشعبية والنقابية على اساس قانون التمثيل النسبي الكامل بينما لم يحصل ذلك في الانتخابات التشريعية الاخيرة الذي اعتمد فيه قانون المناصفة بين الدوائر والقوائم ، الامر الذي اظهر عيوب ونواقص استطاع من خلاله النظام العائلي السائد من الاصطفاف في الواجهة الانتخابية متقدما على الفصائل الوطنية والاحزاب والقوى المجتمعية الاخرى بل تعدى الامر ذلك الى تلطي القوى المختلفة وراء النظام العائلي تحت مسميات لا تمت للواقع بصلة ، من جهة اخرى ترسخت عقلية الاستئثار بالسلطة اللون الواحد لدى القوى المتنفذه على مدى سنوات الصراع الطويلة حيث سنّت القوانين والانظمة بما يديم اطالة بقائهم على رأس الهرم والحفاظ على مصالحهم مما جعل هذه القوانين فضفاضه هشّه غير قادرة على اتخاذ الاجراءات القانونية المناسبة في حال نشوب خلافات بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ، مما سهل دخول قوى جديدة للانتخابات العامة دون ضوابط ودون اقرار بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ، ايضا لابد من الاشارة الى ان المشروع السياسي الناجم عن اتفاق اوسلو محكوم بمحددات سياسية وظيفية تنفيذية تموله الولايات المتحدة الامريكية والدول الاوروبية وبالتالي فان ما يتعارض مع سياساتها قد تكون له تأثيرات سلبية تطال قطاعات واسعة من البنية المجتمعية .
ان الانتخابات حق مكفول للمواطن لا جدال حوله ،ولكن ما تتعرض له القضية الفلسطينية والتحولات العربية المنشغلة بشؤونها الداخلية ، وفي ظل الانحياز الاعمى الامريكي لحكومة الاحتلال بالاضافة الى عدم وجود الاندفاعة الشعبية تجاه الانتخابات المزمع اجراؤها الشهر القادم دون قطاع غزة ، ودون الاتفاق بين الفصيل الواحد على تشكيل قوائم ائتلافية تجعل من هذه العوامل حجر عثرة جديدة في وجه الخروج من المأزق الراهن ، كان ينبغي على الجميع الوقوف امام هذه الحالة الغريبة عن تقاليد شعبنا ، واستنباط الدروس والعبر لفهم ما حدث والاتفاق على استراتيجية وطنية بديلة بعد ان ظهر الوهن في البرامج التي لا زالت اسيرة الماضي ومفاهيمه البالية ...

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت