ليس سهل على الانسان ان يُقدم على الانتحار من خلال حرق جسده، فعندما يصل المرء للحظة فارقة مع الحياة، فان ثمة ضغط هائل واحساس لا يمكن ان يوصف قد وصل اليه، احساس ولده الواقع مرير ليكبر شيئا فشيئا محطما الذات، بعد ان تكون كل نوافذ الامل قد أغلقت، وان شعور بالظلم والمهانة والعجز والإحباط قد سيطر على كل تفاعلاته، حينها يهرب الانسان من الحياة الى الموت، بحثا عن الراحة الابدية، التي يعتقد انها مستقره النهائي حيث انعدمت مقومات بقائه على هذه الحياة التي شعر بأنها قد لفظته .
ودون الدخول في جدل فقهي بشرعية عملية الانتحار، وإذا ما كانت حرام او حلال، واذا ما هي نضال سلبي في وجه الظلم بدل التحدي ومواجهة القوة التي تسبب الماسي في المجتمع، فان انتحار الشاب ايهاب من مخيم الشاطيء بغزة، هو في كل الاحوال صرخة كبيرة في وجه واقع الظلم والإحباط والفقر وانعدام الامل الذي يعيشه غالبية الشباب في قطاع غزة، وقد طرق ايهاب بحرق جسدة ناقوس الخطر لحالة مجتمع يتهالك يوما بعد يوم، حيث الحصار وارتفاع نسبة الفقر، وازدياد معدلات البطالة، وتدني مستوى الخدمات المقدمة، وانسداد الافق امام طموح الشباب وآمالهم، وانغماس قطاعات واسعة منهم بآفة المخدرات، والإحساس بتقييد الحريات وإشاعة مناخ الهوس الامني، والشعور بتدني مستوى العدل الاجتماعي، حيث فئات اجتماعية تغتني على حساب اخرى، والحرمان الوظيفي، والتمييز في الترقيات والرواتب، والى جانب ذلك انسداد الافق السياسي الذي يشكل منفذا للأمل الشعبي، بان حلا عادلا يمكن ان يلوح في الافق يخلصهم من الاحتلال البغيض، ليفتح الامل امام واقع جديد عنوانه الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم .
ان ما يدفع الانسان للانفجار وأحيانا انتصار ارادة الموت على الحياة بداخله، ليس الاحساس بالظلم والقهر ممن يحتلون ارضه ويحاولون قتله كل ساعة، بل عندما يعاني الظلم بسبب ممارسات ابناء جلدته، ليتحول الظلم الى ظلمات، وعندما يشعر بان مصالح البعض اصبحت هدفا وغاية على حساب لقمة خبز الفقير والغلبان، وعلى حساب تعليم ابنائهم واحتياجاتهم اليومية، وعندما يجد من الممارسات ما يضاعف معاناته ويعرقل امكانية انتصاره على جلاديه ومغتصبي ارضه .. احدهم قال " كيف تريدوننا الانتصار على محتلينا ونحن لا ننصر انفسنا، نقتل بعضنا وننقسم على انفسنا، والمهم مصالح كبار القوم على حساب الشعب " ، وأخر قال " شو هالعيشة، والله ما عشنا ذل ولا احباط ولا سوء احوال اكثر من هالايام"، آلاف عبارات التذمر والإحباط يعكسها اهالي قطاع غزة بسبب سوء الاحوال المعيشية، وكذا الضفة الغربية التي عبر بعض الاحرار عن واقعها الصعب ايضا بمسيرة في نابلس، ضد الغلاء والضرائب .
صحيح هناك فرق بين من يرفع لواء النضال وبين من يصمت، بين من يناضل حتى الموت في ساحة المعركة، ومن ينتحر هربا من المعركة والحياة، لكن في كل الاحوال الثائر في الميدان هو عنوان التحدي، والصامت هو خمير الثورة القادمة، حيث تنتظر ذاته لحظة الانفجار، والمنتحر هو من يحاول اشعال وقود الثورة لكن على طريقته الخاصة، املا بان يكون بوعزيزي فلسطين .
اه يازمن...عبارة تنطلق ملتهبة من قاع القلب، تحملها زفرات الغضب، ربما تريح النفس، او ربما يريد ان يقول مطلقيها وهم كُثر، لم نكن نحلم كشعب بمثل ردائة هذا الحال، ولا بان نعيش المهانة والذل كما نحن عليه الان، وربما هي نذير للتوعد بان المستقبل قادم ليسحق كل من تسبب بظلم وإهانة وإذلال الشعب، وفي مقدمة هؤلاء، اولئك الذين تكرشوا على حساب المساكين والغلابا، اولئك الذين ذبحوا الشعب ليحيوا هم ومن حولهم مكتنزي الذهب والفضة ، اولئك الانقساميون بكل تصنيفاتهم والوانهم هنا او هناك، الذين استطاب لهم واقع الانقسام ومعاناة الشعب، إما بسبب مصالحهم السوداء، او بسبب اوامر اسيادهم من العرب والعجم، ومن الشرق والغرب، ليعطلوا بذلك وحدة الشعب وليضعفوا قدرته على مواجهة التحديات السياسية والاجتماعية التي تواجهه .
اذا كان ايهاب قد احرق نفسه بسبب بؤس الحال، فإننا نشهد يوميا عشرات الشباب ممن احترقت ذواتهم ليضافوا الى سجل المعطوبين نفسيا، كما نشهد الالاف ممن يسيطر عليهم الاحباط، وهوس الرغبة بالهجرة الى الخارج، وكثير منهم من هجر اتزانه ليصبح ضحية لحبوب الادمان والهلوسة.
اخشي ان يكون ايهاب بداية الطريق لطابور من الشباب ينتظروا ان يرتاحوا من معاناتهم بالطريقة التي اختارها، كما اخشي ان لا يقيم "سادة قومنا" هنا و هناك أي اعتبار لروح ازهقت نفسها بوحشية، احتجاجا على ما اوصلوا الشعب اليه .. يا زعامات هذا الشعب قفوا قليلا مع ذواتكم وضمائركم، فان قال اليوم ايهاب ومعه الشعب "طز بهيك عيشة"، فان شعبنا سيقولها المرة القادمة باتجاه اخر سيصيب الكثيرين بلا شك .
غزة - 4/9/2012م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني
[email protected]
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت