المجالس البلديّة المنتخبة: بديلة من السلطة أم موازية لها؟

بقلم: هاني المصري


منذ الإعلان عن موعد الانتخابات البلديّة، زارتني، بوصفي كاتبًا مستقلًا، وفود ممثلة لمؤسسات أو بلدان أجنبيّة مطروح عليها المساهمة في تمويل الانتخابات ومراقبتها. وكانت أسئلة هذه الوفود تتركز على: هل ستكون الانتخابات حرة ونزيهة، وهل أنصح بتمويلها والمراقبة عليها، وما هو تأثيرها على المصالحة والنظام السياسي الفلسطيني؟

كنت أقول إن الانتخابات المحليّة انتخابات خدميّة ذات بعد سياسي محدود، وأن إجراءها بعد انقضاء المهلة القانونيّة للمجالس المنتخبة واستطالة المدة للمجالس التي لم تنتخب، مثل الخليل وطولكرم، وفي ظل قيام وزارة الحكم المحلي بتعيين لجان لإدارة البلديات؛ استحقاق ديمقراطي ضروري شرط تأمين حريتها ونزاهتها وإجرائها في وقت واحد وليس على مراحل تحدد على أساس فرص "فتح" في الفوز. فالمجالس المنتخبة أفضل من المجالس منتهية المدة والمعينة، وخصوصًا أن إجراء الانتخابات المحليّة في الضفة الغربيّة، بما فيها القدس، لا يمنع إجراءها لاحقًا في قطاع غزة.

طبعًا، من الأفضل أن تُجرى الانتخابات في وقت واحد، وتحت مظلة وفاق وطني، وبعد المصالحة الوطنيّة، ولكن ربط إجرائها بالمصالحة والوفاق يعني، على الأرجح، أنها لن تُجرى لفترة طويلة قادمة. ولماذا ما لا يدرك كله يترك جله؟

بالرغم من هذا الموقف المبدئي من الانتخابات، لا بد من تسجيل ثغرات كبيرة ظهرت خلال الفترة الماضية بالتعامل مع الانتخابات المحلية، عبر تحديد مواعيد لإجرائها ومن ثم إلغائها في اللحظات الأخيرة تحت حجة عدم المساس بالجهود المبذولة لإنجاح المصالحة، في حين أن السبب الحقيقي للإلغاء يرجع إلى خشية "فتح" من صراعاتها الداخلية وألا تحوز على انتصار باهر فيها، بالرغمن من مقاطعة "حماس" لها، يُمكّنها من تعويض خسارتها في الانتخابات السابقة، ويكون بمثابة "بروفة" للانتخابات العامة القادمة.

وتأتي خشية "فتح" من عدم تحقيق آمالها تدني نسبة المشاركين؛ بسبب دعوات المقاطعة، وحالة الإحباط السائدة عند المواطنين الفلسطينيين، وسط تآكل شرعيّة السلطة ومصداقيتها وهيبتها بعد فشل عمليّة المفاوضات، ومضي إسرائيل في تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان، خصوصًا في القدس، وفرض أمر واقع يجعل الحل الإسرائيلي هو الوحيد المطروح والممكن عمليًّا. فعدم إجراء الانتخابات أفضل لـ"فتح" من إجراء انتخابات لا تفوز فيها فوزًا ساحقًا، أو تلغيها في اللحظة الأخيرة بما يقضي على ما تبقى من مصداقية للسلطة التي تقودها.

أي إن "فتح" استخدمت الدعوة للانتخابات وإلغائها لخدمة مصالحها الفئويّة الضيقة، فعندما تعتقد أنها ستفوز تدعو إليها، وتلغيها عندما تنفجر الخلافات بين أجنحتها وبينها وبين العائلات والمستقلين والفصائل الأخرى، خصوصًا في ظل عدم استجابة فصائل اليسار المنضوية في المنظمة لتشكيل قائمة وطنيّة موحدة لخوض الانتخابات المحليّة تفوز بالتزكية، ما يجعل المنافسة إذا تم ذلك معدومة أو محدودة والنتائج مضمونة.

بالرغم من أن إمكانيّة إلغاء الانتخابات هذه المرة أقل بكثير من السابق، ولكن استمرار خشية "فتح" من نتائج الانتخابات في ظل أوضاعها الداخلية المرتبكة، خصوصًا في المدن الرئيسة، وتحديدًا رام الله والبيرة ونابلس والخليل؛ تجعل هذا الاحتمال واردًا.

وما يجعل الشكوك قائمة، أن الدعوة لإجراء الانتخابات وتحديد موعدها وإلغائها يتم دون تشاور حقيقي مع الفصائل الأخرى، وخصوصًا "حماس"، بحيث يصدر المرسوم الرئاسي أو القرار الحكومي، ويتم بعد ذلك دعوة الجميع، بمن فيهم "حماس" وقطاع غزة للمشاركة، في تجاهل مقصود لواقع الانقسام وتبعاته.

مسسؤوليّة السلطة و"فتح" واضحة في ضرورة توفير ضمانات لتكون الانتخابات حرة ونزيهة في الضفة الغربية، من خلال الإفراج عن المعتقلين، والتعهد بعدم اعتقال المرشحين، وتمكينهم من حرية الدعاية الانتخابيّة والتنقل من دون اعتقالهم أو تهديدهم ومن يساعدهم من مطابع ووسائل إعلام وقطاعات مختلفة.

ولكن مسؤوليّة "حماس" واضحة أيضًا وأكبر بالنسبة لإجراء الانتخابات، فمن جهة تربط ما بين إجراء الانتخابات المحليّة وإنجاز المصالحة، وهذا يمنع عقدها، ومن جهة أخرى قامت بوقف تسجيل الناخبين في قطاع غزة في إشارة بالغة الدلالة على عرقلة إجرائها، ومن خلال وضع الاستدراكات على "إعلان الدوحة" من جهة ثالثة، في ظل ميل دائم إلى تأجيل مفتوح لإجراء الانتخابات بكل مستوياتها لأسباب فئويّة تُغطى بأسباب موضوعيّة، وأخرى موضوعية.

فـ"حماس" التي لم تُمكّن من الحكم بالرغم من فوزها في انتخابات 2006، وعانت حكومتها من الحصار والمقاطعة والعدوان، قامت بالانقلاب في غزة ولا تريد إجراء الانتخابات قبل أن تحسن فرصها في الفوز بها.

إن الانتخابات وسيلة عند فصيل لتكريس الانقسام تحت عنوان إنهائه، ومنعها وسيلة عند الفصيل الآخر لاستمرار سيطرته الانفراديّة، وبهذا وذاك تصبح الانتخابات ضحية، وليست وسيلة من وسائل الديمقراطية والصراع ضد الاحتلال، وتعبير الشعب الفلسطيني عن إرادته الحرة، بصرف النظر عن فرص هذا الفصيل أو ذاك بالفوز.

يمكن ويجب ربط الانتخابات العامة الرئاسيّة والتشريعيّة والمجلس الوطني بإنجاز الوفاق الوطني، لأنها انتخابات سياسية لا يمكن أن تعقد دون مشاركة قطاع غزة والضفة، بما فيها القدس، ولكن ربط إجراء الانتخابات المحليّة والنقابيّة والقطاعيّة بالوفاق يمنع تجسيد الإرادة الشعبية التي هي بمسيس الحاجة لتبية احتياجاتها المعيشية بأفضل وأسرع صورة ممكنة.

وإذا كانت "حماس" ترفض الانتخابات إلا بعد الوفاق، فلماذا تشارك أحيانًا ولا تشارك أحيانًا أخرى في الانتخابات الطلابيّة والمهنيّة والقطاعيّة؟. "حماس" تشارك عندما تعتقد أن فرصها جيدة بالفوز، وتقاطع عندما تخشى من الخسارة. والقمع عامل مهم يجب التشديد على رفعه لتوفير حريّة ونزاهة للانتخابات، ولكنه لا يؤدي دائمًا إلى خسارة الطرف المقموع، بل ربما إلى زيادة فرصه بالفوز.

على "حماس" أن تبحث عن أسباب تراجع فرصها بالفوز التي لا تتعلق بالآخرين فقط، وإنما أساسًا بنموذج السلطة الفئوي التي أقامتها، وإعطاءها الأولويّة لتعزيز سيطرتها على غزة والصراع على القيادة والتمثيل والقرار، وتعليق المقاومة، واقتراب برنامجها من برنامج المنظمة.

إن الانتخابات المحليّة المقبلة، إذا جرت، لها أهميّة سياسيّة كبرى، كونها تتم في سياق تزايد الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، الذي يتجلى في محاولات الاحتلال لإعادة صياغة السلطة، بحيث تقبل ما تطرحه إسرائيل عليها من حلول؛ حتى تستطيع مواجهة أي احتمالات لانهيار السلطة أو حلها أو إعادة صياغتها، بحيث تكون أداة من أدوات المنظمة في سياق إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني.

إسرائيل تهدد السلطة وتسعى إلى إضعافها وتحويلها أكثر وأكثر إلى إدارة ذاتيّة ضيقة ووكيل أمني للاحتلال، ولعل تزايد دور الإدارة المدنيّة، وتهديدات ليبرمان لـ"أبو مازن"، وزيادة عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل، وإصدار أعداد هائلة من تصاريح الزيارة لإسرائيل؛ تدل على أن إسرائيل تسعى إلى ربط المواطن الفلسطيني بها، بما يقلل من هيبة السلطة واعتماد المواطن عليها، ويسهل الاستغناء عنها إذا لزم الأمر.

في هذا السياق، في ظل استمرار الانقسام وانهيار "عملية السلام" يمكن أن تكون المجالس البلديّة المنتخبة القادمة مهمة جدًا، لأنها ستكون المؤسسات الوحيدة الشرعيّة والمنتخبة، والتي سيزيد استمرار الاعتماد عليها إذا استمر الانقسام وتراجع دور السلطة أو انهيارها أو حلها. لذلك من المهم أن تكون مجالس وطنيّة تعدديّة تمثيليّة، حتى لا تكون فريسة سهلة لسلطات الاحتلال.

لقد أرادت سلطات الاحتلال من السماح بإجراء الانتخابات المحليّة عام 1976 تشجيع قيام قيادة بديلة عن المنظمة، وقد تسول لها نفسها باستخدام المجالس الجديدة كبديلة أو منافسة للسلطة.

تأسيسًا على ما تقدم، أدعو "حماس" إلى السماح بإجراء الانتخابات في غزة، أو على الأقل إلى عدم المقاطعة والرد على الانتخابات بتعميق الانقسام عبر إعلان قطاع غزة محررًا، أي منفصلًا عمليًّا عن الضفة، وإلى المشاركة مباشرة أو بشكل غير مباشر في الانتخابات المحلية القادمة في الضفة، مع المطالبة بتوفير ضمانات لحريتها ونزاهتها، حتى لا تندم في وقت لا ينفع فيه الندم، وحتى لا تساهم في إيجاد مجالس بلدية ضعيفة سهلة التطويع.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت