مخيم اليرموك يقابل دولا ولا يتاجر

بقلم: علي بدوان


استوعب واستقبل مخيم اليرموك الفلسطيني الملاصق لمدينة دمشق أعداداً كبيرة من الأخوة النازحين من المواطنين الذين قدموا إليه من مناطق التوتر الساخنة أكثر ما استقبلت تركيا والأردن معاً من لاجئين سوريين، بل وأكثر ما استقبل العالم كله من سوريين خرجوا من بلادهم بفعل الأزمة الداخلية.

ووفق المعطيات المنشورة، فقد استقبل الأردن نحو (24) ألف لاجىء سوري وضعوا في مخيم الزعتري، إضافة لنحو خمسين ألفا من الميسورين دخلوا الأردن للإقامة المؤقتة، فيما استقبلت تركيا نحو (90) ألف لاجىء، بينما استقبل مخيم اليرموك لوحده أكثر من ستمائة ألف مواطن لجأوا إليه من مناطق التوتر المحيطة به، وتحديداً من أحياء التضامن والقدم والعسالي والحجر الأسود والزهور ويلدا وببيلا وبعض مناطق حي الميدان وغيره. وهي أحياء ومناطق شعبية سورية تضم كثافة سكانية كبيرة جداً، لم تجد من ملاذ آمن لها سوى مخيم اليرموك في ظل التوتر العسكري السائد في البلد.

مخيم اليرموك الفلسطيني، وسكانه من فلسطينيي سوريا لم يقوموا سوى بواجبهم الوطني والقومي تجاه شعب شقيق كان ومازال التوأم السيامي للشعب الفلسطيني. فالبصمات التاريخية الطيبة للشعب السوري ويده البيضاء التي مُدت للشعب الفلسطيني منذ عام 1948، لاتمحوها سنوات النكبة الطويلة، ولاتمحوها غبار ورياح النحت الزمني، فهي يد بيضاء ناصعة وراسخة بفعلها النبيل والسامي داخل فؤاد كل مواطن فلسطيني لجأ إلى أرض سوريا عام النكبة، وبات من حينها مواطناً كالمواطن السوري تماماً في الحقوق والواجبات.

لقد كانت لهفة أبناء المخيمات والتجمعات الفلسطينية فوق عموم الأرض السورية في استقبال إخوتهم السوريين القادمين من مناطق التوتر، وفي مخيم اليرموك على وجه التحديد، لهفة الأخ لأخيه، ولهفة العائلة الواحدة لأبنائها، فالسوريون والفلسطينيون شعب واحد موحد، لم تستطع إتفاقية سايكس ـ بيكو أن تفرقهما أو أن تجعل منهما منقسمين إلى الأبد. ففلسطين حاضرة بلاد الشام، ودمشق قلب بلاد الشام، وقد بارك الله جل وعلا بالشام وأهلها، من بيت المقدس إلى تخوم أعماق سوريا بين الشرق والغرب والشمال والجنوب.

لقد تفوق مخيم اليرموك على دول تاجرت ومازالت تتاجر بقضية اللاجئين السوريين، ووضعت قضيتهم الإنسانية على جدول الاستثمار السياسي الرخيص والمقيت في حسابات الربح والخسارة. فكَسَرهم مخيم اليرموك بحضنه الدافىء مستقبلاً نحو (20) ألف مواطن في مدارس وكالة الأونروا والمدارس الحكومية وفي المساجد وعموم المؤسسات الفلسطينية الواقعة في المخيم. كما أستقبل نحو (300) الف مواطن نزلوا ضيوفاً كراماً عند أقارب وأصدقاء، فيما تيسر لنحو (300) ألف مواطن منهم من الميسورين من الاستئجار والإقامة في مخيم اليرموك.

في مخيم اليرموك نشطت كل لجان المجتمع المحلي ومؤسساته المجتمع المدني الموجودة والعاملة في الوسط الفلسطيني، ونشطت معها بعض فصائل العمل الوطني الفلسطيني كحركتي

حماس والجهاد الإسلامي، وحركة فتح، والجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والكشاف الفلسطيني وغيرها.

فقد باتت التجمعات الفلسطينية فوق الأرض السورية (مخيمات ومناطق) بمثابة أنبوب اختبار سياسي، تفاعلي، يغلي ويفور مع سير الأحداث في البلد، مع بروز نشاط متميّز لقطاعات الشباب الفلسطيني المستقل بغالبيته عن عالم الفصائل والقوى السياسية الفلسطينية، ومعه المؤسسات والجمعيات ذات الطابع الشعبي والتي نُطلق عليها مسمى "مُؤسسات المجتمع المدني" وهي مؤسسات حاضرة بفعالية مؤثرة رغم إمكانياتها المحدودة : لجان العمل الأهلي (تكافل)، الهيئة الخيرية لإغاثة الشعب الفلسطيني، هيئة فلسطين الخيرية، الكشاف الفلسطيني، جمعية الإسراء للتنمية الخيرية، الجمعية الخيرية الفلسطينية، اللجنة الفلسطينية للإغاثة والتنمية (إيثار)، جمعية القدس الخيرية، بيت التراث الفلسطيني، اللجنة الأهلية للمخيمات الفلسطينية، مؤسسة جفرا، مؤسسة بصمة. إضافة لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني والسوري، والهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب في سوريا، ووكالة الأونروا، واليونيسيف ...

لقد نجحت تلك الهيئات والمؤسسات في توفير البيئة الحاضنة والدافئة للأخوة السوريين القادمين من مناطق التوتر إلى مخيم اليرموك، فتنافست في عطائها وفي توفير المناخ الأرقى والأفضل للأخوة القادمين.

الهيئة الخيرية لإغاثة الشعب الفلسطيني كانت فاعلة في هذا المضمار، وقد تولت إدارة عدة تجمعات في عدة مدارس منها مدرسة المعتمد بن عباد، ومدرسة أسد بن الفرات، ومدرسة الفالوجة وغيرها. وقد نجحت كما يخبرنا الناشط فراس عباس والناشط مهند أبو ماضي بلجانها الإدارية في توفير كل مستوجبات الإقامة للأخوة السوريين خصوصاً بالنسبة للبرنامج المتعلق بالغذاء والكساء والدواء، إضافة للبرامج التعليمية والترفيهية، وبرامج دورات التمريض والإسعاف، إضافة لإنشاء الفرق الرياضية وفرق الرسم والتلوين والمسرح والموسيقى وإقامة العروض الثقافية والتعليمية باستخدام العارض الضوئي.

والشيء المثير في هذا الجانب، أن أماكن الإيواء وبإشراف ورعاية ومتابعة من قبل اللجان المسؤولة، شهدت وبالرغم من المحنة، حفلات تقارب بين العائلات أدّت في نتائجها لوقوع زواج لشاب وفتاة تعارفت عائلاتهم في المكان ذاته، كما حصل في مركز إيواء مدرسة المعتمد بن عباد، وفي مركزي إيواء مدرستي الفالوجة والكرمل التابعتين لوكالة الأونروا.

وفي مثال آخر، فقد استطاعت اللجنة الفلسطينية للإغاثة والتنمية (إيثار) التي يقودها ويشرف على أعمالها الناشط الفلسطيني الموهوب والمتميز سعيد موعد من تقديم الخدمات المتعلة بالإقامة والإغاثة وتقدين الغذاء والخدمات الصحية للنازحين السوريين في عدد من المدارس التي تشرف عليها لجنة (إيثار) وهي مدرستا ترشيحا وأسدود التابعتان لوكالة الأونروا. فقد استطاعت لجنة (إيثار) تأمين كل المستلزمات الضرورية لاستمرار حياة الناس الطبيعية إنطلاقاً من الدعم الذي تلقته من هيئات ومؤسسات مختلفة كالهلال الحمر السوري ومنظمة اليونيسيف التي قدمت طروداً غذائية. لكن الاعتماد الرئيسي كان على المجتمع المحلي وتبرعات الناس التي غطت بدرجة لابأس بها الاحتياجات المطلوبة خصوصاً الجانب المتعلق بتأمين الغذاء للناس. لقد قدمت لجنة (إيثار) مثلاً ساطعاً على عمل لجان المجتمع المحلي ومؤسسات المجتمع المدني المستقلة في الوسط الفلسطيني في سوريا، من خلال تفاني كوادرها وأعضائها في الإلتزام والعمل، وفي إمتلاك الخبرة والتجربة، وفي صدقيتها وشفافيتها من خلال ميزانيتها المعلنة والموضوعة بيد المجتمع المحلي ليحاسب ويراقب كل شاردة وواردة في عملها وفي أدائها وأداء أعضائها. فلجنة (إيثار) لها باع طويل في العمل الميداني المجتمعي وعلى أكثر من صعيد، وقد برز دورها في محطات عدة في هذا المجال، ونالت أوسمة التقدير من عموم الهيئات والمؤسسات المدنية من داخل سوريا وخارجها.

لقد نجح مخيم اليرموك وفلسطينيو سوريا في تقديم عون متواضع (نقول متواضعاً) لأشقائهم من الشعب السوري، لايستطيعون فيه تسديد ولو قدراً بسيطاً من فضائل سوريا وشعبها على

الشعب الفلسطيني الذي وصل إلى سوريا (وطنه الثاني) عام النكبة فوجد الحضن الدافئ في دمشق وباقي الأرض السورية من أقصاها إلى أقصاها.

صحيفة الوطن العمانية

تاريخ الخميس 6/9/2012

بقلم علي بدوان

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت