من حكاوي بلادي

بقلم: احمد إبراهيم حماد

استوقفتني مطولاً أغاني الأفراح التي يشدوا بها بعض أهل المغنى في بلادنا من حيث الطابع الهابط لهذه الاغانى, والآن بعد سيادة هذه الفوضى الغنائية والدربكة الفنية تقريبا بدأت اشعر إننا نفقد تذوقنا الفني السليم .. ألا يحق لنا أن نتساءل بكل مرارة : لماذا فشلنا في التصدي للأغان الهابطة ومن يتغنون بها.
في أعقاب العدوان الاسرائيلى الغاشم على غزة عام 2009 كنت أشارك أحد الأصدقاء فرحته بالاحتفال بزواج نجله، وكان المغنى الشعبي يغنى في هذا الحفل أغاني للفرح لكنها كانت على الطريقة الفلسطينية القديمة من حيث الطابع الفلكلوري.
واستمعنا جميعا من هذا المطرب الشاب إلى سيرة الأبطال محمد جمجوم , عطا الزير وفؤاد حجازي من خلال أغنية من "سجن عكا" , وغنتها لنا في السابق فرقة العاشقين فحفظتها لنا من الضياع, هذه الفرقة التي غنت ونشدت للوطن الجريح والأسير والشهيد وللكوفية ، وفى خلال عقود مضت كان كل ما تحين الفرصة للفنان الفلسطيني "أحمد مدنية" كغيره من أبناء شعبنا فى الضفة الغربية و المناطق المحتلة عام 1948 , ياتى إلى غزة لإحياء حفلات الزواج أو ما يقوم بتسجيله على أشرطة الكاسيت من ملاحم بطولية للحرية المنقوصة في بلادنا وعنجهية المحتل يحفظها الشبان عن ظهر قلب كتراث وطني فلسطيني نقى.
وما زلنا نتذكر ذلك الختيار من إحدى عائلات بلدة "برير" المهجرة الذي أتحفنا بالغناء والنشيد على شبابته الحزينة التي كانت تئن تحت أصابعه ملاحم البطولة والفداء لأهلنا ومناضلي شعبنا في ثورة البراق, وثورة 1936, مرورا بنكسة حزيران , وسقوط كل فلسطين, ومن ثم حرب بيروت والانتفاضة الفلسطينية الباسلة , وتلك المواويل الجميلة التي أتحفنا بسماعها ونحن إليها اليوم لأن فيها من عبق الماضي الكثير.
واستذكر هنا ما رأيته فى احتفالية للجالية الفلسطينية فى اليونان قبل سنوات وشارك فيها الجميع رجالا ونساء وأطفال في الدبكة الشعبية ومووايل الميجنا والأووف والعتابا وكلمات الحسرة في الغناء على فراق الوطن وإذا برجال أشداء هدهم النغم الحزين، تتساقط دموعهم بسخاء في صمت نبيل، وعندما فرغ المنشد من إنشاده سألت أحد هؤلاء الرجال عن سبب بكائه فقال بصوت معبأ بحكمة الزمن الذي يحمله فوق ظهره: " يا ولدي أنا إنسان من دم ولحم ومن باعتقادك يسمع هالأغانى والزجل الشعبي وما بيتاثر .. وهالدنيا مليئة بالمظالم، ومن ينصف المظلومين سوى أبطال في شجاعة وقوة محمد جمجوم وعطا الزير"
ولقد كان الشعب العربي الفلسطيني من أكثر شعوب أمتنا العربية ادراكاً لأهمية هذا الفن ودوره، واستغلالاً له في إدارة الصراع مع الأعداء.
فراح شعبنا الفلسطيني يستمد من قصص البطولة والحكايات والأغاني والأمثال العزيمة الصادقة والدوافع القوية لمقاومة الاحتلال , وأدرك أن التشبث بهذا الأدب والتمسك به فيه حفاظ على الهوية الوطنية و الشخصية الفلسطينية في مواجهة الأعداء الذين ينهبون ثقافته ويقتلون كل شئ جميل.
فعندما تشح البطولات، ويشتد الظلم، وتبحر ذاكرة الأمة في تراثها الشعبي تستنجد به، وتتكئ عليه في محنتها، وتستدعيه في أزماتها، وتستلهمه في شدائدها، تبحث عنه في صفحات التاريخ وقريحة الشعراء الشعبيون، لعلها تجد فيه سكينة نفسها، وتستبدل من خلاله هزائمها وانكساراتها بانتصاراته المبهرة، وأحلامها المؤجلة بشجاعته وإقدامه، وإحباطها الدائم بطموحه الذي لا ينتهي إلى على عتبات البهجة..
وها هي السنون تمر ويمضى بنا الزمن وتتوالى الهزائم وتعددت الانكسارات، وجدت نفسي أستمع من جديد إلى نفس الملاحم ويشتد بي الشجن وأبكي كما كان يبكي الرجال، فالروايات والقصص الشعبية تصنع أحلام الفقراء والبسطاء، وتضع فيه كل آمالها في أن يقضى لها على الظلم، والخيانة والفساد والمفسدين، فهو بطلها المخلص، فالأبطال الشعبيون هم الذين يختارهم الناس لينيبوا عنهم في الثأر لهم من الاستعمار والمستبدين ، إنها معادلة الأدب الشعبي لإعادة التوازن للكون، وانتصار للحق حين عز عليهم الانتصار، وخلق نوع من الأمان الداخلي يعيد لنفوس المظلومين السكينة والهدوء والاتزان النفسي، ويخلق لهم خيالا عادلا وفاضلا، بديلا لواقع متجبر وظالم.
يسجل هنا أنه في الوقت الذي وثقت فيه دائرة الثقافة والإعلام فى منظمة التحرير الفلسطينية ما استطاعت من الأشرطة والكتب وحتى الأفلام حول الأدب الشعبي الذي استطاع أن يطور نفسه بنفسه عبر أجيال متتالية، وفقا لظاهرة أدبية انفرد بها الأدب الشعبي وحده، فشاعر الربابة أو اليرغول , على سبيل المثال , الذي يقف أمام حشد من عشاقه ومريديه، لينشدهم ملاحم البطولة والفداء حول آهات وتوجعات الفلاح والعامل وغطرسة المحتل على أبناء الشعب المكلوم بدا من " محمد جمجوم" إلى "فارس عودة " واخير وليس آخر "أبوعمار وعلى الكوفية"، فكل هؤلاء الأبطال لا ينكسرون أمام جبروت عدو غاشم جاء ينتهك الأرض والعرض، ولا يتراجعون عن الحق أمام مستبد ظالم، حتى لو دفع هذا الفنان الشعبي حياته ثمنا لموقف يسجله لنفسه أمام عشاقه ومحبيه، وهذا الجمهور يتغير ويتبدل ، والشاعر الشعبي أيضا يتغير ويتبدل من قرية إلى أخرى، ومن مدينة جنين فى شمال فلسطين ، إلى رفح في جنوبها , ومن قرية اللبن الشرقية في محافظة نابلس ، إلى قرية أم النصر البدوية شمال بيت لاهيا تتوارث النصوص من جيل إلى جيل، وفي كل مرة يعالج شاعر الربابة والأرغول نصه الشعري أو ملحمته الشعبية وفقا لما يتلاءم مع جمهوره الذي يتفاعل معه بطريقة مغايرة لجمهور منطقة أخرى، وعبر الأجيال التي ينتقل إليها النص الشفاهي عبر الزمن، يطور الشاعر والمغنى الشعبي من مورثه الشعبي بالحذف والإضافة من مفردات اللغة مما يجده زائدا عن حاجة الذائقة الشعبية للمتلقي.
وما زال البسطاء والشعراء الشعبيون ، يبتكرون أبطالا شعبيين آخرين، كلما احتاجت قريحتهم أن تبدع أبطالا يعيدون لهم حالات التوازن بين واقعهم المؤلم وخيالهم الفاضل النبيل.. ورغم ذلك ما زلنا جميعا نحلم ببطل حقيقي يخرج من صلب الشعب الفلسطيني ليحل محل أبطالنا الشعبيين.
ونظراً لأهمية الفن الشعبي في حياة الأمم وقدرته على التعبير عن همومها وتطلعاتها فلا بد من وقفة جادة مع هذا الأدب بألوانه المتنوعة، والعمل على جمعه وتدوينه بعد تنقيحه، حيث إن تمسكنا بتراثنا سيكون أنجع، إذا أدركناه، وتعلمناه وتذوقناه، ونقلناه للأجيال القادمة. ولابد من وضع أرشيف خاص بانتفاضة الأقصى ليبقى هذا الفن محفوظا على مدى الأيام. ويبقى شريط الذكريات مفتوحا لمن أراد الاستزادة...

--------------------------------------------------------

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت