كلمات على صوت الهاون
اليرموك وتركيا والأردن
بلسمة الجراح
قبل وبعد الهاون
بَدت الأيام الأولى من شهر أيلول/سبتمبر الجاري على مخيم اليرموك، والنطاق المُحيط به من الأحياء السورية المختلفة، أياماً صعبة وقاسية، بعد سَيلٍ من الإشتباكات العنفية العنيفة التي جرت على أطرافه وتخومه الجنوبية والشرقية والغربية على حد سواء، بإستثناء مداخله من جهة الشمال التي كانت مُستقرة بحدود نسبية.
الأيام الصعبة في مخيم اليرموك شَهدت تساقطاً لقنابل الهاون (المورتر) على أطرافه، وقد قِيل بأنها قنابل ضلت طريقها، وأن أهدافها الأساسية كانت خارج مخيم اليرموك، لكنها بالنتيجة أوقعت أعداداً إضافية من الشهداء والجرحى من أبناء المخيم ومواطنيه من الفلسطينيين والسوريين على حد سواء، حيث سقط خلال شهر رمضان الفائت نحو مائة شهيد من أبناء المخيم ضحايا الرصاص العشوائي المُنفلت، وضحايا القذائف الضالة التي سقطت على جوانبه ومنها القذيفتين اللتين سقطتا في شارعٍ مُكتظ وسط المخيم في اليوم الثالث عشر من شهر رمضان الفائت، وقد تسببتا في إستشهاد سبعة وعشرين شهيداً دفعة واحدة، ووقوع أعداد مضاعفة من الجرحى والمعطوبين.
فكيف حال مخيم اليرموك عاصمة الفلسطينيين في الشتات في الوقت الراهن، وهل ثمة قلق يَنتاب سكانه على ضوء التصعيد العنفي الدائر على أطرافه..؟
كلمات على صوت الهاون
في حقيقة الأمر، أكتب كلماتي هذه وأصوات قذائف الهاون المتقطعة التي تَعبُر سماء مخيم اليرموك في الإتجاهات المختلفة تَصُم أسماعي ومعها سيل متقطع من أزيز رصاص البنادق والرشاشات المتوسطة والثقيلة، لكنني أستدرك وأقول بأن الإرادة العامة لعموم سكان ومواطني مخيم اليرموك، إستطاعت وبإقتدار طوال الأشهر الماضية من عمر الأزمة الداخلية في سورية الشقيقة من تحييد المخيم والتجمع الأكبر للفلسطينيين في سورية، وإبعاده عن مسار التجاذب والتنافر، وعن خط النار المتصاعد في البلد. حيث لعبت الشخصيات الفاعلة ومعها قوى المجتمع المحلي وعموم فصائل الحركة الوطنية دوراً ملموساً في هذا الميدان، يُضاف إليه الوعي العميق الذي تشكّل عند الناس بخصوص أهمية إبقاء مخيم اليرموك كساحة خارج إطار
العمل العنفي وتكريسه كملاذ آمن لجميع المواطنين والسكان من المناطق والأحياء المحيطة به الذي وجدوا في مخيم اليرموك حضناً دافئاً وأميناً.
فقد إستقبل مخيم اليرموك خلال الأشهر الثلاثة الماضية من الأخوة اللاجئين والنازحين إليه من المناطق الشعبية المحيطة به أكثر ما إستقبلته كلاً من (الأردن وتركيا) معاً من مواطنين سوريين وغير سوريين مازالوا حتى اللحظة مقيمين في المخيم بل وتزداد أعدادهم يوماً بعد يوم، في ظل رعاية ومتابعة وإهتمام كامل من قبل لجان الإغاثة المحلية التي تَشكّلت في المخيم، وهي اللجان التي تَضُم في صفوفها صفوة النشطاء من الشباب وجيل مابعد الشباب من المندفعين في عطائهم اللامحدود والقيام بما هو مطلوب منهم تجاه الأخوة السوريين القادمين لمخيم اليرموك، حيث إمتلأت مدارس وكالة الأونروا ومعها المدارس الحكومية في المخيم ومختلف المساجد بنحو خمسة وعشرين ألفاً من المواطنين السوريين القادمين من الأحياء المجاورة، بينما تم تأمين إقامة وسكن نحو مائتي ألف عند عائلات ومعارف وأقارب، ونحو مائتي ألف تمكنوا من السكن والإستئجار في مخيم اليرموك.
اليرموك وتركيا والأردن
الأردن وتركيا إستقبلا لاجئين سوريين، والوزير الأردني سميح المعايطة طالب المجتمع الدولي قبل أيام خلت وفي مؤتمر صحافي وعلى الهواء مباشرة بمبلغ حدده بنحو (700) مليون دولار كمساعدة سريعة لتلبية جهود الأردن في غوث اللاجئين السوريين، كما حال تركيا التي باتت تصرخ من إمكانية إستيعاب لاجئين سوريين، فيما مخيم اليرموك الذي إستقبل أعداداً مضاعفة لايطالب أحد بأي مبلغ كان، بل يُطالب ويأمل بكل محبة وإخلاص إغلاق ملف الأزمة السورية ووقف فتيلها المنفجر ووصول البلاد إلى بر الأمان، ووقف نزيف الدم السوري الطاهر على أمتداد الأرض السورية من أقصاها إلى أقصاها.
هذا هو حال مخيم اليرموك الفلسطيني الآن، أكبر بقعة سكانية فلسطينية في الشتات خارج أرض فلسطين التاريخية على الإطلاق، والذي يَضم بين جنباته نحو ربع مليون مواطن فلسطيني هم أبناء مدن حيفا ويافا وعكا وصفد وطبريا وبيسان والناصرة واللد والرملة وقطاع غزة وقراها وأريافها، الذين عَرِفوا وجَربوا وعاشوا معنى اللجوء وذل الهوان، وقد إكتوت حياتهم وحياة أحفادهم وأقترنت بسيكولوجيا المنافي والشتات وضياع الوطن والهوية منذ عام 1948، في قصة مأساوية لاتحاكيها ولاتجاريها تراجيديا نكبات عالمية بما فيها نكبة الهنود الأحمر في القارة الأمريكية، وسكان أستراليا الأصليين الذين بقوا في نهاية المطاف فوق أرض وطنهم التاريخي بالرغم من عمليات الإبادة التي تعرضوا لها في زمنٍ باتَ غابراً.
هذا مخيم اليرموك، هو، هو لم يَتغيّر، مخيم اليرموك الحضن الدافىء لكل من دخله وأقام بين جنباته منذ بواكير الثورة الفلسطينية المسلحة فجر العام 1965 والإرهاصات التي سبقتها، محاولاً الآن الإبتعاد عن مسار الحالة العُنفية التي باتت تَطبَعُ الوضع العام في البلاد.
هو، هو، مخيم اليرموك، وأهله اللاجئين من فلسطين عام 1948، مخيم المبادرة الشجاعة، والنباهة، المخيم الذي أنجب سيلاً جارفاً من طوابير المقاتلين البواسل في صفوف الثورة الفلسطينية المعاصرة وعلى جبهات الصراع مع العدو "الإسرائيلي"، إنتقل من حالة (الحياد الإيجابي) قبل هطول الهاونات المارة فوق سمائه إلى حالة (الحياد الإيجابي + توفير الملاذ الأمن) لكل من دخل إليه وأقام به بعد هطول الهاونات المارة من فوق سمائه.
بلسمة الجراح
مخيم اليرموك يعيش في هذا اليوم، وعند كتابة هذه الكلمات مساء الخامس من أيلول/سبتمبر 2012 على أصوات مايجري في الجوار القريب حيث قذائف الهاون (المورتر) من عيار(60 أو 81، أو 82 أو 120) ملمتر، وطلقات البنادق الروسية (كلاشنكوف) والأمريكية (بنادق ناتو/إم سكستين، وبنادق فال الغربية) وطلقات رشاشات الـ (بي كي سي) وطلقات رشاش (دوشكا) الثقيل، وقذائف الـ (بي سفن) وصواريخ (لاو)، والتي بات يُميّز أصوات بعضها عن بعض الصغار قبل الكبار.
وفي قلب هذا المعمعان من أصوات قذائف الهاون المرعبة، وقرقعة السلاح وأزيزه رصاصه، دَفعت حالة الإحتكاك العُنفي في الجوار المحيط بمخيم اليرموك نحو توليد معادلة ذات روح ديناميكية من خلال نشاط لجان الإغاثة التي فَرضت نفسَها على كل الأطراف، وفَرضت على كل الأطراف أيضاً إحترام دور تلك اللجان، وتَجنُب التَعرض لها حتى في ظل أزيز الرصاص، وهو ماوقع بالفعل في منطقة تقع وسط المخيم مساء الخامس من أيلول/سبتمبر الجاري حين دخلت إحدى تلك اللجان الإغاثية لوسط المعمعة القاسية قرب ثانوية مخيم اليرموك الرسمية للبنات لتخلي الجرحى، ولتُقدم المساعدات الإنسانية العاجلة لمن وقعوا تحت نيران الحالة العنفية دون أن تمس بأي أذى.
هذا هو بالضبط الدور الفلسطيني المطلوب من فلسطينيي سورية تجاه أشقائهم من أبناء الشعب السوري التوئم السيامي للشعب الفلسطيني، دور البَلسم الذي يساعد قدر الإمكان على مداواة الجراح بمعناها وإطارها العام، وتقديم كل ماهو مستطاع في ظل أزمات إنسانية تُخَلِفُها الأعمال العسكرية العنفية في تلك الحالات.
قبل وبعد الهاون
لقد نَجح فلسطينيو مخيم اليرموك في إمتحان مرحلتي (قبل وبعد) سقوط قذائف الهاون، لكن هذا النَجاح يَفترض الإستمرار بالدور إياه دون تَورط أو إنزياحات مُكلفة في أزمة داخلية في بلد شقيق، كما وقع سابقاً في أزمات عربية داخلية دَفع الفلسطينيون في نهايتها فواتير باهظة جداً جداً جداً، كان منها على سبيل المثال الحرب الأهلية اللبنانية التي (تَورط أو وُرطَ أو أُستُهدفَ) الفلسطينيون فيها، فقدموا عبر سنواتها الطويلة ألوفاً مؤلفة من الشهداء والضحايا من خيرة الكوادر الشبابية والعسكرية والبشرية بشكل عام، لكنهم خرجوا في نهايتها وبعد إتفاق الطائف "مُدانين" عملياً، حيث طوقت تجمعاتهم في لبنان (مُخيمات ومناطق) وأصبحت جزراً خارجة ومتمردة على الشرعية عند الجهات اللبنانية الأمنية كما هو حال مخيم عين الحلوة على سبيل المثال، فيما بقي حال اللاجئين الفلسطينيين في لبنان سائداً وعلى المنوال ذاته حيث الفاقة والحرمان والتعامل العُنصري المقيت معهم.
إن الدروس القاسية، التي دُفعت أثمانها وتكاليفها الباهظة من كيس الفلسطينيين الخالص، حَريةً بالفلسطينيين ذاتهم على الإنتباه الشديد تجاه مايجري في سورية، والإصرار على بناء دور إيجابي كما هو سائد الآن. موقفاً أعمدته الحكمة والتَعقُل، وميدانهُ العمل الإنساني في قلب المشكلة السورية، في معمعان أزمة طاحنة تنزف دماً وجهداً.
إنه الوعي، نتاج إقتران التجربة بالخبرة ومحاكاة الواقع، سِمةُ العقل الراجح، نِتَاجُ إعمال وتَفعيل عقل الإنسان، والتعلم من التجارب ودروسها، نقيض التسرع والإنفعال ونقيض عقلية الإرتجال والتجريب. إنه الوعي الذي يجنب الناس المهالك، ويفتح طريق العمل المثمر الذي بات فلسطينيو سورية يرسمونه ويجسدونه الآن على الأرض من قلب مخيم المعاناة، مخيم اليرموك حاضنة العمل الوطني الفلسطيني المعاصر.
الجزيرة نت
الثلاثاء 11/9/2012
بقلم علي بدوان
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت