عن الوطن والهم اليومي في سيارة الاجرة

بقلم: مصطفى إبراهيم


في سيارة الاجرة “الهونداي” الحديثة الانتاج المهربة من ليبيا عبر الانفاق الممتدة عبر الحدود الفلسطينية المصرية، من مدينة رفح الى مدينة غزة جلس بجواري الحاج ابو محمود مؤذن في احد مساجد غزة منذ عشرين عاماً، من قرية اسدود التي هجر منها في سن الثانية عشر من عمره.

الحاج ابو محمود ابدى انزعاجه من كراسي سيارة الاجرة العشرة والضيقة، وقال لي هذه كراسي غير مريحة ولا يجوز لوزارة النقل والمواصلات ان ترخصها لأكثر من سبعة ركاب، وغضب اكثر عندما تحركت السيارة وشاهد طفل يبلغ من العمر اربع سنوات وضعه السائق في حضنه، وتبين انه ابن السائق، وقال له هذا اهمال ولا يجوز لك اختراق القانون.

انزعاجه نابع من انه عمل سائق سيارة أجرة مدة اربعين عاماً، و تذكر كيف انه خالف القانون مرة واحدة عندما اخذ ابنائه وبناته العشرين “من زوجتين”، وهو الان لا يتذكر عدد أحفاده، ويقول ربما وصل عددهم 150، في سيارته الاجرة على نقلتين كما قال في جولة الى قرية اسدود كي يتعرفوا على قريتهم ومكان مولد والدهم.

وفي الكرسي الخلفي جلس ثلاثة شبان كان واضح من نقاشهم انهم ينتمون الى احدى الحركات الاسلامية، وكان صوتهم مرتفع وركبوا السيارة وهم مستمرين في نقاش لم يستكملوه في المكان الذي كانوا به، وانصب نقاشهم حول حق العودة واللاجئين، وان التفريط بشبر من فلسطين هو خيانة.

حديث الشبان اثار في الحاج أبو محمود شجن وجرح لم يندمل ولن يندمل، فقال لي في العام 1948، هرب والدي وعائلتي عندما اقتحم اليهود القرية وتركوا كل شيئ وهربوا خوفا من القتل، وكان الوقت ظهراً، وتركوني وحدي حيث كنت اصطاد العصافير في كروم التين، وعدت للبيت ولم اجدهم.

وفي نهاية اليوم بينما كنت اهيم على وجهي، ولم يكن أي انسان في القرية شاهدت مجموعة من الرجال، ومعهم جمال يحملون عليها أغراض، ورجوتهم ان يأخذوني معهم، إلا انهم قالوا لي انهم متجهين شمالا الى روبين التي تقع جنوب مدينة يافا، وطلبوا مني ان اسير مع شاطئ البحر باتجاه الجنوب، وهذا ما فعلته الى ان وصلت الى غزة وحظي انني وجدت مجموعات من الناس يقيمون على شاطئ البحر فبحثت الى ان وجدت اهلي.

الحاج ابو محمود مؤذن المسجد كان يصمت دقائق ويعود للحديث من جديد، وقال لي كنت في رفح لزيارة احدى بناتي للاطمئنان عليها، البنات جميعهن متزوجات، والأولاد يسكنون في بيت واحد بعد ان بنيت لهم بيت من خمس طوابق، وكل واحد منهم يعيش وحده.

نقاش الشبان الثلاثة لم يتوقف، ومع انني كنت استمع باهتمام للحاج ابو محمود، إلا انني كنت استرق السمع ايضا الى نقاش الشبان الذين لم يتركوا موضوع، وهم من هموم الناس الى وتحدثوا به، من الاعتقالات السياسية في الضفة الغربية وتوقعهم قيام حكومة غزة باعتقال بعض من اعضاء فتح في غزة، إلى غلاء الاسعار والاحتجاجات في الضفة الغربية، وارتفاع اسعار الخضروات والارتفاع الجنوني في اسعار الاراضي والشقق السكنية في قطاع غزة، وحال السير والفوضى المرورية على الطرقات وتفرد حكومة حماس في حكم الناس.

وقرار حكومة غزة وقف استيراد الخضروات والفواكه من اسرائيل باستثناء الموز والتفاح، أحدهم ايد القرار والآخران اعترضا وقالا انه لا يجوز اتخاذ قرارات من هذا النوع بفوقية من دون توعية الناس بأهمية مقاطعة البضائع الاسرائيلية، وفرضه على الناس فرضا، وان القرار نابع من ان الحكومة في عزة تمتلك عددا من المزارع وتريد تسويق منتجاتها.

وانتهوا من نقاش الهم الداخلي، الى ان وصلوا الى ملف القدس كما اسماه احدهم، الذي قال تعزيز صمود الناس في القدس لا يتم بافتتاح عيادة اسنان او جمعية خيرية، وان اهتمام السلطة والفصائل الفلسطينية لا يليق بملف مهم كالقدس.

ابو محمود عاد للحديث، وقال انا الان في المسجد اعمل مؤذن، وقائم على خدمته وتنظيفه والحكومة في رام الله تصرف لي مكافأة 500 شيكل في الشهر، وخلال فترتي السابقة في المسجد وحتى الان لم اسمح لأحد ان يستغل المسجد سواء من حركة فتح او من حركة حماس، وتذكر كيف كانت الاجهزة الامنية في عهد السلطة تطلب منه ابلاغهم عن الاشخاص الذين يضعون ملصقات أو يوزعون بيانات، وهو رفض التعاون معهم ويرفض الان التعاون مع أي جهة.

حديث ابو محمود والشبان الثلاثة عن الوطن والهم اليومي في سيارة الاجرة، من تهجير الفلسطينيين بالقوة وقصور المسؤولين، وكيف أخذ اولاده في جولة الى قريته اسدود كي لا ينسوا، وحق اللاجئين بالعودة والقدس، إلى الهم اليومي والأسعار والاعتقالات وغيرها من القضايا اليومية، تؤكد انه لا يوجد شعب في التاريخ الحديث محتل وأبنائه لديهم الارادة والقوة على الصبر والاستمرار في النضال وان الشعب الفلسطيني لن يسنى حقه في وطنه، وانه شعب حي لا يزال يكافح ويناضل من اجل استرداد فلسطين، وهم بحاجة إلى قيادة حكيمة وقوية تغلب المصالح العليا وتعيد الاعتبار للقضية الوطنية، وتخرجهم من الانحطاط الذي وصلوا اليه، وتقودهم الى الاستمرار في النضال من اجل الحرية وإقامة الدولة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت