في العام 2002 أتيحت لي فرصة زيارة لبنان ضمن وفد إعلامي ، في ذلك الوقت تمكنا من زيارة جميع المخيمات الفلسطينية هناك بدءاً بمخيم الرشيدية ومخيم عين الحلوة مرورا بصبرا وبرج البراجنة وانتهاء بمخيم البداوي ونهر البارد ، حيث استقبلنا سكان المخيمات استقبالا حارا وأحاطونا بحفاوة بالغة لا لسبب إلا لأننا قادمون من الوطن ، الوطن ألذي كان يرنو الكثير منهم إليه ، اليوم وبعد عشر سنوات الوطن لم يعد وطن ، وحتى لم يعد أملا للوطن ، لان الوطن أصبح بقايا ، وطن ممزق بين أنياب الاحتلال وفلوله الاستيطانية ، وبين أهله الحقيقيين الذين فقدوا بوصلتهم ليصبحوا في حالة تيه وتفرد وتمسكك بشعارات لم تعد تنطلي على احد ، وحياة متناقضة، لا ندري أين ستكون محطتها الأخيرة ، فهناك غزة المحررة ، وهناك الضفة المحتلة ، هنا إمارة غزة القادمة ، وفي الضفة الدولة الفلسطينية الموعودة ، في غزة الحصار والفقر، وفي الصفة التنمية والنمو ، في غزة الأمن والأمان ، وفي الصفة غلاء الأسعار وتدني مستوى المعيشة ، الحقيقة لا شيء مما ذكر موجود ، بل الوطن يرزح نحت وطأة احتلال غاشم وان تنوعت أشكاله ما بين الحصار والاستيطان ، وطن ممزق بين الطرق الالتفافية والكتل وبؤرها الاستيطانية ، أما التنمية فهي ما زالت محض أحلام وأوهام لماذا هذا التناقض ، ولماذا وصلنا إلى هذه الحالة المأساوية ، اعتقد أن السبب يكمن في تركيبة المجتمع الفلسطيني التي توقفت عند الحدود الثلاثية الأبعاد ، إبعادا ثلاثية الإضلاع حيث البعد السياسي وأضلاعه الثلاث حركة فتح وحركة حماس واليسار الفلسطيني على اختلاف ألوانه ، والعد الاجتماعي حيث هناك شعب الضفة الغربية ، وشعب قطاع غزة ، وشعب الشتات الفلسطيني ، وأخيرا البعد الجغرافي حيث هناك دولة الضفة ، ودولة غزة ، ودول اللجوء والشتات .وأقول دولة غزة ودولة الضفة لان لكل منهما حكومة لها قراراتها وقوانينها وفي الغالب لا تعترف كل منها بقوانين الأخرى .
كل بعد من الأبعاد الثلاثة له مساراته واستراتيجياته وخططه وتطلعاته الخاصة بة ، ولا ينظر أبدا إلى البعد الذي يقابله ، وكأنه لا يعرفه ولا يعنيه أبدا ،ولا علاقة له به ، ففي غزة هناك محاولات لتجسيد كيان مستقل بعيدا عن الشطر الثاني من الوطن ، حيث حكومة الأمر الواقع ، وجلسات للمجلس التشريعي بنواب الطيف الواحد ، قرارات وقوانين لا تعني إلا بغزة وقطاعها ، اتصالات وزيارات لمسئولين إلى بلاد العالم وكان دولة فلسطين هي غزة ، محاولات وجهود لالقاء غزة في أحضان مصر على الرغم من الرفض المصري أولا لان مصر لا تستطيع تحمل أعباء غزة في هذه المرحلة وثانيها أن هذا الأمر فيه إراحة للاحتلال من التخلص من الأعباء القانونية تجاه غزة ، وعلى الصعيد الاجتماعي والوفاق فهذا أمر هامشي لا يهم وإذا ذكر الطرف الآخر واقصد هنا السلطة في رام الله وحركة فتح أمام أي مسئول فكأنما عفريت ركب رأسه اسمه فتح، علما أن فتح هي حركة تحرر وطني قدمت التضحيات وقادت النضال الوطني الفلسطيني وما زالت ، النتيجة من كل هذا هناك حقيقتين لا يمكن إغفالهما الأولى هي غزة ، والثانية هي رام الله عنواني الانقسام والتشرذم الفلسطيني .
في رام الله واقعا آخر حيث الحكومة وإن كانت دوليا وقانونيا هي الحكومة الشرعية ، إلا أنها تمارس عملها بمعزل عن الشطر الثاني من الوطن على الرغم مما يقال بان أكثر من نصف ميزانيتها تذهب لغزة ، هذه الميزانية التي لا اثر لها ، باستثناء الرواتب ، أما المشاريع التنموية فهي مخصصة في مجملها للضفة الغربية ، سياسيا استمرار المفاوضات مع إسرائيل صحيح أنها متوقفة ألان ولكن الدعوى لاستئنافها مستمرة ولو كانت بشرط وقف الاستيطان الشاهد أن المفاوضات حتى لو تم استئنافها فهي عقيمة وان مرور أكثر من عشرين عاما من المفاوضات دليل على عقمها ، على الصعيد الاجتماعي والتوافق ما يجري في غزة يجري في رام الله حيث محاولة نكران حركة حماس علما أنها حركة تحرر أيضا وقدمت التضحيات ، ونفس الشسء لا يتحمل أي مسئول ذكر اسم حماس ،
في كلا المنطقتين الفلسطينيتين غاب الحس الوطني ، غاب الهدف الوطني والمشروع الوطني ، بل وصل الحال بالشعب الفلسطيني أن يبحث عن لقمة عيشة وأصبح يعلن علنا رفضه لما آلت إليه الأوضاع المعيشية عبر مظاهرات واحتجاجات برزت بشكل اكبر في الضفة الغربية ، مظاهرات تجاوزت خطر الاستيطان والجدار واعتداءات المستوطنين معهم حق فالجوع كافر ولقد أظهرت تلك الاحتجاجات وكان الحكومة في واد والشعب في واد آخر .
وإذا انتقلنا إلى اليسار الفلسطيني ، نجد أن هذا اليسار قد فقد بريقه بعد أن كان لامعا وقويا ومؤثرا ربما هناك أسبابا موضوعية لذلك الضعف والوهن بسبب الانحسار الشديد الذي شهده اليسار في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وغلبة ما يعرف بالنظام العالمي الجديد التي تقوده الولايات المتحدة ، ولكن الم يكن هناك فرصة لليسار الفلسطيني لالتقاط أنفاسه ، وان يمارس واجباته ومهامه على الساحة الفلسطينية بما يتلائم والمتغيرات ، لماذا ترك الساحة للفصيلين المتنازعين دون أن يكون له تأثير ، أين دوره الحقيقي في إحداث الاتفاق والمصالحة ، لا نرى إلا التغني على أمجاد الماضي أما الحاضر فلا .
أما الشتات الفلسطيني فحدث ولا حرج ، حيث تعرض الفلسطينيون في مناطق كثيرة خاصة في دول ثورات الربيع العربي إلى كثير من المعاناة نتيجة محاولات زجهم في الصراع الدائر في تلك الدول الأمر الذي جعل العديد منهم يسقطون ضحايا هذه الصراعات ، في ليبيا واليمن وسوريا وقبل ذلك في العراق ، حتى في مصر ، التي سرعان ما تعمل ماكينة الأعلام ضد الفلسطينيين إذا ما حدثت أية قضية يكون لفلسطيني واحد علاقة بها او حتى شبهة علاقة فلسطيني بها كما حدث نتيجة أحداث سيناء الأخيرة ، نافلة القول أن الفلسطيني في الشتات ومناطق اللجوء لا سند له ويواجه ما يواجهه بمفردة بعيدا أما عشرات السفارات والبعثات الدبلوماسية ومكاتب التمثيل المختلفة المنتشرة هنا وهناك فهي مجرد واجهات ويافطات .
فيا أيها الفلسطينيون انتبهوا وابتعدوا عن الفرقة وإدارة الظهر لبعضكم البعض فأنتم جميعا في الهم سواء ، العدو واحد ويتربص بكم الدوائر وانظروا كيف استطاعوا اغتيال أبو عمار ، وها هم يتحدثون عن إزاحة أبو مازن ، نعم هكذا يتصرف عدوكم عندما ييأس منكم ، فما بالكم لو كنتم متحدين قراركم واحد وكلمتكم واحدة وهدفكم واحد .
وفي النهاية فإن الحديث عن همومنا ومآسينا أكثر بكثير مما تتسع له مقالة محدودة ، فاحذروا أيها الفلسطينيون قبل أن تصحوا يوما لتجدوا أن الطين قد ذهب ولم يبق لكم سوى الفلس.
أكرم أبو عمرو
24/9/2012
.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت