تجري الرياح بما تشتهي إسرائيل

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج


نعم، في هذا الزمان المعاصر تجري الرياح بما تشتهي اسرائيل وبما لا تشتهي العرب، وخاصة الفلسطينيون، الرياح السياسية والأمنية والإقتصادية، وحتى الإجتماعية بالرغم من شتات الفكر والعقيدة والمنشأ لمكونات شعب اسرائيل.

الرياح السياسية:
لقد نجحت هذه الحكومة اليمينية المتطرفة في تطبيق سياسة حظيت برضى المواطن الإسرائيلي باستثناء المواطن العربي في اسرائيل، واستطاعت اللعب بأوراقها بدهاء وذكاء، كما أنها تحظى بدعم غربي على الرغم من سياساتها المتطرفة في المنطقة والتي لا تتوافق مع الإجماع الشعبي الآوروبي وبعض الأمريكي، وعلى الرغم من تطلعات الإدارة الأمريكية في إنهاء هذا الصراع المزمن على قاعدة حل الدولتين كمصلحة وطنية أمريكية كما صرح بذلك الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون. واستطاعت خلط الأوراق والملفات، وبالتالي ترتيب الأولويات بحيث استبعدت من أجندتها الصراع العربي الإسرائيلي، وأصبح اليسار الإسرائيلي المنادي بصناعة السلام يسير في فلك اليمين المتطرف متحالفاً معه في حصد مكتسبات على الأرض والسماء لدولة اسرائيل على واقع عربي وفلسطيني منقسم ومتردي. ولم يعد حتى اليسار الإسرائيلي يحمل في طيات أجندته صناعة السلام مع العرب. واختفى معسكر السلام من المشهد السياسي الإسرائيلي وكأنه كان خائناً لدولة اسرائيل. وفرضت اسرائيل ذلك التوجه على الأجندة الدولية، بتناغم مع مراكز القوة المتنافسة في المنطقة على لعب دور الشرطي، وخاصة محور الممناعة الذي تتزعمه ايران، ومحور الإعتدال الذي تتزعمه تركيا، حيث استغلت القضية الفلسطينية لتكون ورقة يلعب بها المتنافسون على النفوذ في المنطقة (اسرائيل، ايران تركيا) وكل يبحث في هذا الصراع عن مصالحه الخاصة بعيداً عن المصلحة العربية والفلسطينية بشكل خاص. كما أن هذه الحكومة المتطرفة عملت على قاعدة "إذا هبّت رياحك فاغتنمها"، إذ كلما لاحت فرصة في الأفق يمكن استغلالها سارعت اليها واستغلتها حتى الثمالة. فها هي اليوم تلعب بورقة الإنتخابات الأمريكية ويتنافس مرشحا الحزبين في أمريكا على استرضائها والسكوت على جرائمها وأفعالها في إنهاء حل الدولتين وذلك بتغيير الواقع على الأرض وقضم الأراضي التي ستقوم عليها الدولة الفلسطينية الموعودة. وقد استطاعت هذه الحكومة اليمينية المتطرفة بخبثها ودهائها السياسي تحويل الباطل الى حق في نظر المجتمع الدولي، خلقت من الميت حياً وذلك في خطوتها الأخيرة بعقد اجتماع في الأمم المتحدة لبحث قضايا اللاجئين اليهود من الدول العربية وذلك التفافاً على حق العودة للاجئين الفلسطينيين. وعندما تم تكليف نتنياهو بالحكومة الإسرائيلية من قبل ثعلب السياسة الإسرائيلية شمعون بيرس راهن المحللون السياسيون العرب على عدم استمرار حكومته لأكثر من عامين. ولكنه سار بعكس التوقعات العربية واكتسب شعبية غير مسبوقة. ليس هذا اشادة بسياسات هذه الحكومة بقدر ما هو تأسٍ على سياسات عربية وفلسطينية عقيمة.
ويقابل ذلك سياسة فلسطينية وعربية ترقص بالظلام ولا يشاهد رقصها ويصفق لها إلاّ خفافيش الظلام من الدول العربية والدول غير الفاعلة التي لا تقدم ولا تؤخر، وتلعب بأوراق باهتة لا وزن لها ولا طعم ولا رائحة ولا أثر. واقع عربي سياسي ممزق وواقع فلسطيني مشرذم، ومحاور سياسية متناحرة ومتناقضة، وعمل عربي وفلسطيني عشوائي يتعامل بردات الفعل التي تجلب الدمار والخراب. وزيادة في عدد اللاجئين العرب. إذ يتفهم المرؤ اقتران كلمة اللاجيء بالفلسطيني نتيجة لعدوان خارجي، ولكن كيف للمرء أن يتفهم ملايين اللاجئين العرب من العراق وسوريا وليبيا وغيرها.. ويتفهم المرؤ اقتران كلمة المخيم بالفلسطيني، وكيف له أن يتفهم المخيمات العربية المستجدة بفعل عربي، وكيف يتفهم بيوت الصفيح التي يقطنها أشقياء العرب مجاورة لقصور القطط السمان من الطبقة المخملية الفاسدة والمستظلة بمظلات الأنظمة العربية الأنانية الحاكمة. إنه نتيجة لفشل سياسي واستراتيجي عربي ولحالة اللاوعي التي تسيطر على العقل العربي وتجعله لا يرقى للمواجهة في هذا الصراع العربي الإسرائيلي المزمن ومواجهة التحديات لهذه الأمة ولوحدة كيانها الجغرافي والديمغرافي.

الرياح الأمنية:
لم يشهد المواطن الإسرائيلي وضعاً أمنياً مثالياً كما يشهده اليوم وذلك منذ بداية الصراع الى يومنا هذا، وهذا يتم بسلاسة ويسر على ألحان الواقع الفلسطيني المؤلم بألحانه النشاز في الأذن الفلسطينية والمطربة في الأذن الإسرائيلية. فهذا اللحن الفلسطيني اليوم لا يمت للتراث الفلسطيني الأصيل القديم بصلة، وكأنه تراث صهيوني دخيل على الساحة الوطنية الفلسطينية. إذ هنالك حكومتين فلسطينيتين في جناحي الوطن تتنافسان على حفظ الأمن الإسرائيلي على حساب أمن المواطن الفلسطيني. وأنا أكره أن اتحدث عن فلسطين المنقسمة، لكي لا يترسخ هذا الإنقسام الطاريء في أذهان الأجيال. ولكنني في هذا المقام اتحدث مكرهاً ومتألماً، فحكومة غزة الحمساوية تتبع سياسة أمنية حازمة وصارمة تصب لصالح المواطن الإسرائيلي، بينما تقوم اسرائيل بأعمال القتل والإغتيال اليومي للمواطن الفلسطيني في القطاع. وكلما اعتدت اسرائيل على المواطنين في غزة يذكرنا حكام غزة بتمسكهم بالهدنة مع حكومة المعتدي ويؤكدون على ذلك حفاظاً على مكتسباتهم من السلطة وما يترتب عليها من مكاسب شخصية للقيادة ومكوناتها، ويدفع ثمن هذه المكتسبات الشخصية المواطن الفلسطيني البريء في القطاع من دمه وجوعه وفقره ومصائبه التي لا تنتهي. فظهرت القطط السمان التي كانت جائعة من تجار الأنفاق، ومن جباة الضرائب واستغلال المساعدات والهبات التي يستولون عليها وتباع للمواطن الفلسطيني. ونسمع بين الفينة والأخرى إطلاق صواريخ سياسية (لا وطنية مقاومة) تستقر في الصحراء وذلك بأمر من الولاة والممولين في دمشق أو طهران أو الدوحة وذلك لإعادة خلط الأوراق لتصب نتيجتها في صالح من أمر بإطلاقها.
وبالمقابل هنالك سلطة فلسطينية منقوصة في الضفة الغربية تعيش في الحاضنة الإسرائيلية على حساب المانحين وتتهالك في حفظ الأمن للمواطن الإسرائيلي، وذلك لتثبت أحقيتها في قيادة الدولة الفلسطينية الموعودة، بينما تخضع للإحتلال ويمارس فيها الإحتلال الأعمال القمعية ضد المواطن الفلسطيني من قتل وأسر واعتقال تعسفي اداري دون أن يكون للسلطة ردة فعل مقاومة لهذه السياسة التعسفية. ويجري في نفس الوقت التسارع في عملية الإستيطان وسرقة الأراضي واغتصابها بالقوة، وتهويد القدس العاصمة المنتظرة لدولة فلسطين التي يتغنى بها حكام السلطة. سلطة آن الأوان لتحديد هويتها، أهي فلسطينية تعمل لصالح الفلسطينيين أم لصالح الإسرائيليين. فقد تم إعطاؤها فرصة طويلة جداً وزائدة عن الحد من الزمن لإجراء المفاوضات والتوصل الى اتفاق يعطي الحقوق الدنيا للفلسطينيين وذلك للإنتقال من سلطة منقوصة الى دولة قابلة للحياة وكاملة السيادة على الأرض والإنسان. لن يرضى المواطن الفلسطيني أن يظل رازحاً تحت ثلاثة سلطات متنافرة متداخلة تصدر أمواجاً متضاربة تطرق أذن الفلسطيني وتؤذيها مسببة له الطرش، سلطة في غزة لها سيادة على الإنسان فقط تقدم له الخدمات بأجر ضريبي، وسلطة في الضفة لها سيادة على الإنسان والقيام بالأعمال الإدارية والخدمية والضريبية نيابة عن الإحتلال، وسلطة إحتلال تملك السيادة على الأرض والإنسان في جناحي الوطن. لقد صبر الشعب الفلسطيني صبراً يقترب من صبر أيوب، وفي النهاية للصبر حدود.

الرياح الإقتصادية:
على الرغم من الأزمة الإقتصادية العالمية التي عصفت بالعالم فقد استطاعت اسرائيل تخطيها، وتوفير المال اللازم وتمويل عمليات تهويد الأرض وتوسيع الإستيطان على حساب الأراضي العربية المحتلة. حيث أنها تمارس الإحتلال المدفوع الأجر وتنعم بالأمن، فقد تكفل المانحون للسلطة الوطنية الفلسطينية بالصرف على الفلسطينيين المحتلين وذلك دعماً لحل الدولتين، وما زال الإجتلال موجوداً يتحكم بالأرض والمياه والموارد كيفما شاء.وفقاً لمصالحه الإقتصادية والسياسية والجغرافية. فلو تم احتساب المبالغ التي قدمت للسلطة الفلسطينية منذ انشائها والتي تكفل المانحون بها نيابة عن سلطة الإحتلال القائمة الى يومنا هذا، لكانت هذه المبالغ كفيلة بإعلان إفلاس دولة اسرائيل الملزمة بها ما دامت تمارس الإحتلال وبموجب القانون الدولي. ولو كان المانحون عادلون ومصممون على الحل لما استمروا بالقيام بإلتزاماتهم المالية تجاه السلطة ما دام الإحتلال قائماً ويدمر منجزات السلطة، ولرضخت اسرائيل لذلك المطلب الذي يلقي على كاهلها الإقتصادي عبئاً لا تستطيع تحمله. وفي نهاية المطاف فهذا الدعم من المانحين يصب كله في بحر المصالح الإسرائيلية وبعلمٍ من المانحين وليس من أجل العيون الفلسطينية . وهذا أيضاً بغض النظر عن البنى التحتية التي دمرتها اسرائيل في حروبها على الفلسطينيين بعد فشل محادثات كامب ديفيد عام 2000م. والغرب المانح كان ساكتاً عليها دون أن يحرك ساكناً أو يدين الإعتداءات الإسرائيلية وأفعالها التدميرية لما بنته السلطة الوطنية بأموال المانحين. هذا علاوة على نمو الإقتصاد الإسرائيلي على حساب المواطن الفلسطيني الذي يعتمد في اقتصاده على المواطن الإسرائيلي. حيث تتحكم شركات النفط الإسرائيلية بتزويد الفلسطينييين بالنفط والغاز بأسعار عالية وكذلك بمواد البناء والمواد الغذائية والإستهلاكية مما سبب رخاءً اقتصادياً للقطاع الخاص والعام الإسرائيليين. وتقتطع اسرائيل جزءاً من الضرائب على البضائع المستوردة من القطاع العام والخاص الفلسطينيين لصالح خزينتها. وتتحكم اسرائيل بالإستيراد والتصدير وتمنع استيراد المنتجات الزراعية الفلسطينية وكذلك تمنع تصديرها للخارج وبذلك توجه ضربة قاصمة لقطاع الزراعة الفلسطيني الذي يعتمد عليه كثير من الفلسطينيين. هذا عدا عن تحكمها بالمياه والكهرباء والإتصالات وتحكمها بالموارد الطبيعية من معادن ومياه ارتوازية في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967م. إنه الوضع المثالي الإقتصادي للخزينة الإسرائيلية وللبنوك الإسرائيلية وللقطاعين العام والخاص الإسرائيليين.

الرياح الإجتماعية:
على الرغم من وحدة الدم والدين وتآلف العقيدة المتوارث في فلسطين منذ القدم، ووحدة اللغة والتراث والعادات والتقاليد الفلسطينية المحافظة على وحدة الأسرة والعائلة والقبيلة والبلد وغياب الطائفية عن المجتمع الفلسطيني ووحدة الهم الوطني والتاريخ وتقارب وتداخل الجفرافية في الوطن الفلسطيني الأ انه بدا المجتمع الفلسطيني اليوم منقسماً على نفسه جيوسياسياً. وانقسم الشعب عمودياً بين حكومتين منزوعتي الدسم وكلاهما منتهية الصلاحية وفاقدة للشرعية. حكومة في غزة وحكومة في رام الله، وانقسم الناس بين أيدلوجية حماس ومنطلقات فتح. مما شتت من قوى المقاومة الوطنية للإحتلال ومنح العدو الأمن والأمان. ويفخر الفلسطيني اليوم بأنه الوطن الوحيد المحتل في العالم ولديه حكومتين بالرغم من عدم نيله الإستقلال بعد.، ووجه هذا الإنقسام البغيض ضربة موجعة للحركة الوطنية الفلسطينية لم تعهدها من قبل.
وبالمقابل بدا المجتمع الإسرائيلي متماسكاً ظاهرياً على الرغم من شتات الفكر والعقيدة واللغة والمنشأ وتنوع التاريخ والتراث متحداً من أجل مصالحه. وذلك نتيجة للسياسات الإسرائلية التي تخدم المصلحة العامة والسياسات الفلسطينية التي تخدم المصالح الخاصة وتعمل على تغييب وضياع الصوت الوطني في خضم هذا الصراع الذاتي الشاذ.
لا أريد اشاعة التشاؤم في هذا المقام بقدر ما أريد إحياء الروح الوطنية الفلسطينية الأصيلة المقاومة للظلم والتي تعبر عن الحس الوطني الخالص وإعادتها للجسد الفلسطيني الممزق بفعل الإنقسام. فالرهان كل الرهان على الشعب الفلسطيني الخلاق الذي يحتفظ بجذوة المقاومة والنضال ضد الإحتلال، وكلما اقتربت هذه الجذوة من الإنطفاء يشعلها من حيث لا يتوقع الأعداء تماماً كما أشعلها عام 1987م في انتفاضته الشعبية السلمية الحضارية بعد أن كادت الجذوة تنطفيء مع إبعاد الفدائيين عن حلبة الصراع ونفيهم الى تونس وآتت الإنتفاضة الآولى أكلها وكادت أن توصله للهدف لولا تغيير اسلوب المقاومة بما لا يتساوى مع الجهد النضالي الفلسطيني وذلك بانتفاضة ثانية مسلحة فرضت علينا معركة يتفوق فيها العدو وعادت على الشعب الفلسطيني بالخسائر المادية والمعنوية الفادحة. ولا رهان اليوم على حزب أو فصيل أو طائفة. فالمطلوب اليوم مقاومة شعبية حضارية منزوعة السلاح وهبة جماهيرية لرفض هذا الواقع المتجمد والعقيم الذي يعتري الحالة الفلسطينية الوطنية المتردية.
ولا بد من اللعب في مسارات الرياح السياسية والإقتصادية والأمنية والإجتماعية وتغيير اتجاهاتها لتسقط علينا غيثاً يغيثنا في سنوات القحط التي تمر بها قضيتنا وذلك بعقد مؤتمر وطني فلسطيني جامع وشامل يضم كافة الأطياف والألوان والمستقلين لوضع استراتيجية جديدة للعمل الوطني وذلك لتصحيح المسار للحركة الوطنية الفلسطينية ولفظ الزبد منها واستنهاض القوى الوطنية الخالصة لما ينفع الوطن والمواطن.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت