إذا كان الرئيس محمود عباس هو المهندس التفصيلي التخطيطي الدقيق لاتفاقية أوسلو قبل أكثر من تسعة عشر عاماً، وتحديداً منذ الثالث عشر من سبتمبر لعام 1992.
وإذا كان سيادته مؤمناً إيمانه اليقيني أن تحقيق السلام ليس بالمقاومة، وإنما بالتفاوض والتفاوض والتفاوض، ثم بالتفاوض الذي يسبقه تفاوض ويتلوه تفاوض وإن فشل التفاوض، حتى بات مألوفاً عندنا أن الحياة ليست إلا تفاوض وتفاوض ثم تفاوض في تفاوض، كما ذهب إلى ذلك صائب عريقات في كتابه سيء السمعة والجالب لشهرة رديئة "الحياة مفاوضات"،
وإذا كان ما تحقق حتى اليوم، وعلى مدار تسعة عشر عاماً بعد أوسلو، قد بلغ في مجموعه صفراً كبيراً إلى جانب ما شئتم من أصفار أخرى تكبر يميناً ويساراً، على الرغم من كل ما كان من قياداتنا من تنازلات لم نُستشر نحن فيها، ولم يُستفت شعبنا في شأنها،
فما الذي اضطر سيادة الرئيس إلى الإقرار (مجاناً!!!) وأمام وفد من الحاخامات اليهود بأن "إسرائيل وجدت من أجل أن تبقى دولة لها كيانها وليس لأن تزول"؟!
وإذا كانت نقابة العاملين في جامعة الأزهر قد دفعها حب الوطن إلى أن تطالب العاملين بالاعتصام يوم الخميس 27/9/2012 دعماً لخطوة الرئيس نحو الأمم المتحدة، فكيف يمكن لهذه النقابة أن تعبر عن وطنيتها الطافحة إزاء قول الرئيس الصاعق يوم الإثنين 27/8/2012، أمام وفد من الحاخامات المتطرفين في رام الله :"إن إسرائيل وجدت من أجل أن تبقى دولة لها كيانها وليس لأن تزول"؟!
ما الذي يضطر الرئيس إلى استقبال حاخامات متطرفين في مكتبه أو حتى إلى مجرد اللقاء بهم؟! وما الذي يضطره إلى التعبير عن أمنيته في لقاء أكثر الحاخامات تطرفاً، الحاخام عوفاديا يوسيف، الذي اشتهر بمواقفه العدائية للعرب، والتي وصلت حداً جعله يصفهم بالأفاعي، كما جعله يحرض على قتلهم، فضلاً عن أنه هو الذي أباح قتل الأطفال، وهو الذي قدم الفتوى التي شرعت وأقرت حرب الرصاص المصبوب على غزة عام 2008/2009.
وإذا كانت النقابة راغبة في الاشتغال بالسياسة، ولو من باب التعبير عن الرأي في مواقف مهمة تجاه الوطن، إما عبر دعمها لتلك المواقف، أو عبر الاختلاف معها واستنكارها ومجابهتها،
فلماذا لم تنبر النقابة دفاعاً عن اللاجئين الفلسطينيين الذين أعدم النظام السوري ما زاد عن أربعمائة منهم، والذي كان آخرهم ستة نشر خبر إعدامهم بدم بارد قبل أن تطالبنا النقابة بالاعتصام دعماً للرئيس؟! وأين موقف النقابة من استمرار التفاوض لمدة دخلت الآن في عامها العشرين، والتي يتواصل الخسران الوطني خلالها دونما طائل؟!
أين موقفها من رئيس يستمر في التفاوض فيما يستمر - بالفم المليان – حديثه عن التفاوض والتفاوض ثم التفاوض والتفاوض، حتى وإن فشل التفاوض؟!
أين موقف النقابة من تهويد القدس؟! أم أن دعم الرئيس- عند هذه النقابة- هو أكثر أهمية من القدس، على اعتبار أن دعم الرئيس هو أمر مهم ومطلوب لا لشيء إلا لأنه الرئيس الذي إذا ما انتهت صفته وانتهى وصفه رئيساً انقلبوا عليه ليصيروا ما كانوا يعتبرونه بالأمس القريب حسنات سيئات؟!
أين موقف النقابة من الكنس اليهوية التي أغرقت القدس فباتت تسبح في بطنها وتغزو سماءها؟! وأين موقفها من "أنا لاجىء يهودي"؟! وأين موقفها من أوباما الذي لم يف بما وعد به الرئيس؟! وأين موقفها من الرئيس إزاء وعود أوباما الكاذبة عليه وعلى شعبه؟! وأين موقفها من أوباما الذي عاد ليؤكد أن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل؟! وأين موقفها من مرشح الرئاسة الأمريكي الجديد، رومني، الذي قال إن حل الدولتين أمر عديم الجدوى، وإن قيام دولة فلسطين هو أمر مستحيل، وإن الفلسطينيين هم سبب تعثر التسوية وهم سبب تعطيل السلام، ذلك أن السلام معهم أمر مستحيل لأنهم لا يؤمنون بالسلام، بل يؤمنون بفكرة تدمير دولة إسرائيل والقضاء عليها؟!
أين موقفها من طرح "الدولة ذات الثنائية القومية"؟! بل أين موقفها من قيادات فتحاوية وأخرى سلطوية تجرأت فأعلنت فشل التسوية من خلال مشروع حل الدولتين؟! وأين موقفها من قيادات صاغت تعازيها في موت أوسلو دون شهادة وفاة ودون إذن رسمي بالدفن؟! بل، وأين موقفها من تلك القيادات التي عادت عن حل الدولتين لتستبدله بحل الدولة الواحدة ثنائية القومية؟! وأين موقفها من أصحاب أوسلو الذين قالوا فيها إنه فعل ينطوي على ندم وعجز، كوصف واحد نفسه وهو من أهل أوسلو، السفير السابق للسلطة لدى مصر، نبيل عمرو؟!
أين موقف النقابة من حرص الاحتلال الإسرائيلي على عدم انهيار السلطة؟! وأين موقفها من اختراع رئيسها لمسألة الرسائل المتبادلة مع نتنياهو؟!
أين موقفها من الحراك الشعبي في الضفة الغربية؟! وأين موقفها من فياض إزاءه؟! بل أين موقفها من الانقسام الفتحاوي تجاه فياض؟! وأين موقفها من رأي مفاده أن "انهيار فياض هو ضد أمن إسرائيل، طبقاً للصحف العبرية؟! أما الأهم، فأين موقف النقابة من فياض الذي أوصل سلطة عباس إلى مديونية زادت عن 4 مليارات من الدولارات، طبقاً لعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، اللواء/ توفيق الطيراوي؟! وما ليس أقل أهمية، فهو أين موقف النقابة من جهات داخل حركة فتح تقف ضد المصالحة، كقول مسؤول ملف القدس في حركة فتح حاتم عبد القادر؟!
أين موقف النقابة من مهرجان الخمور في مسجد بئر السبع؟! وأين موقف النقابة من إغلاق أبواب مقاطعة السلطة في رام الله في وجوه مرضى الانقسام وجرحاه؟! بل وأين موقف النقابة من تقرير الأمم المتحدة في الشرق الأوسط بعنوان "غزة منطقة غير قابلة للحياة عام 2020"، على اعتبار أن هذا الأمر يشكل كارثة هي إحدى إفرازات أوسلو التي هندسها الرئيس؟!
أين موقف النقابة من تجاهل اتفاق أوسلو للاستيطان والأسرى؟! وأين موقفها من مال أوسلو الذي كان مال إطعام وتسمين وإفساد ولم يكن مال تنمية؟! بل أين موقفها من أوسلو في ذكراها التاسعة عشرة التي حلت ليس فقط بلا محتفلين، وإنما بتجاهل طاغٍ على المستوى الشعبي والإعلامي والرسمي، وحتى الرئاسي؟! أين موقف النقابة إزاء العجز الفلسطيني الرسمي عن إلغاء أوسلو كما العجز عن مواصلته؟!
وإذا كان الرئيس ذاته قد سلم بفشل أوسلو، وهو أكثر المتباهين بها ممن عدوها إنجازاً،
وإذا كان كبير مفاوضيه الذي يرى أن" الحياة مفاوضات" قد اعترف هو الآخر بهذا الفشل، وإذا كانت السلطة تدرس إلغاء أوسلو انطلاقاً من الجدية وليس التهديد، طبقاً لعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، حنا عميرة، الذي صرح بأننا لن نجد فلسطينياً واحداً مع أوسلو،
أين موقف النقابة من الاتفاق الاقتصادي الملحق بأوسلو وسط هذا السخط الشعبي المتمادي في الشارع الفلسطيني؟! أين موقفها – وهي نقابة تتحدث باسم، وتعبر عن، أساتذة جامعات من الأكاديميين والعلماء والباحثين والإداريين- من هذا الاتفاق الذي وصفه كتاب صهاينة بالكارثة على الفلسطينيين واقتصادهم؟! وأين موقفها من قيادات هي التي قادت الاتفاق ووقعت عليه وباتت الآن تعدد مثالبه وسلبياته وأخطاءه؟!
وأين موقف النقابة من عجز لف اثنين وخمسين شخصية حكومية وأمنية وفصائلية واقتصادية شكلت آخر اجتماع للقيادة الفلسطينية تواصل يومين لينتج عجزاً عن الخروج بقرارات محددة وواضحة في شأن اتفاقية أوسلو من حيث إلغاؤها أو متابعتها وإبقاؤها، على الرغم من أن سلبيات هذا الاتفاق ومخاطره هي التي فرضت على الاجتماع القيادي نفسها واحتلته واحتوته؟!
ولماذا لا تندفع هذه النقابة بما فيها من وطنية تبدو طافحة لتطالب الرئيس بالخروج من أوسلو والتحرر من أغلالها؟! أم أن النقابة لا تجيد إلا فن الانتظار حتى يعلن الرئيس خروجه من أوسلو لتقوم هي باللحاق به أينما حل وأينما رحل، مؤيدة في كل حين، لا رافضة في أي حين؟! أم أنها خططت لدعمه عوضاً عن نقده لأسباب لا علاقة لها بالوطن ودعم رئيسه، انطلاقاً من نظرية "كاد المريب أن يقول خذوني"؟!
وإذا كان الأب الروحي لاتفاق أوسلو، يوسي بيلين، قد وجه للرئيس "نداء حاراً" يدعوه فيه إلى إلغاء اتفاقية أوسلو التي وصفها بأن "الزمن قد عفا عليها" وأن إلغاءها بات ضرورة اليوم قبل الغد لأنها أصبحت تشكل تدميراً وضياعاً لشعبه وقضيته، الأمر الذي يوجب عليه حل السلطة وتحميل كامل المسؤولية لإسرائيل في ذلك، مضيفاً أن المجتمع الدولي – بما يقدم للسلطة من مساعدات- إنما يمول الاحتلال، وهو أمر ينبغي له أن يدفع رئيس السلطة إلى تفكيك هذه السلطة وتحميل إسرائيل تبعات تفكيكها، والتي من بينها دفع الرواتب للموظفين من مدرسين وأطباء وشرطة ومهندسين، مؤكداً على أن استمرار الأوضاع على النحو الذي هي عليه إنما يعني مشاركة رئيس السلطة لنتنياهو في سياساته التي تهدف إلى المحافظة على السلطة واستمرار أوسلو التي يجري تفريغها تباعاً من مضمونها".
وبعد، فإذا كانت النقابة قد غيبت نفسها عن كل ما ذكرناه من عشرات المواقف المتصلة بالوطن سلباً أو إيجاباً على سبيل المثال لا الحصر، فما الذي حرضها على أن تطلب منا يوم الخميس الماضي 27/9/2012 الاعتصام دعماً لرئيس تعلم هي تماماً أنه قال أمام الحاخامات اليهود:"إن إسرائيل وجدت من أجل أن تبقى دولة لها كيانها وليس لأن تزول"؟! ألا تعلم نقابتنا أن نتنياهو وليبرمان وبيريس وبن جوريون وأوباما ورومني هم الذين يقولون سراً وجهراً ما قاله الرئيس ؟! وألا تسأل النقابة نفسها سؤالاً مفاده:"ما ضرك يا سيادة الرئيس لو لذت بالصمت ولم تقل هذا الذي قلت؟! ما ضرك يا سيادة الرئيس لو قلت كل ما أردت قوله إلا أن تقول "إن إسرائيل وجدت من أجل أن تبقى دولة لها كيانها وليس لأن تزول"؟! ألا تسأل النقابة نفسها سؤالاً مفاده:" إننا وإن لم نطلب منك يا سيادة الرئيس، ولن نطلب أن تقول إنك عازم على تدمير دولة إسرائيل، فما كان ضرك لو لم تقل ما قلت، وما الذي فرض عليك قول ما قلت وهو أن إسرائيل وجدت من أن أجل أن تبقى دولة لها كيانها وليس لان تزول"؟!
أما آخر الكلام، ألم يكن الأجدر بهذه النقابة- بدلاً من أن تطالب العالمين بالاعتصام يوم الخميس 27/9/2012 دعماً للرئيس في التوجه نحو الأمم المتحدة – أن تطالب بحق العاملين الذين عوقبوا لأنهم آزروا النقابة حين استجابوا لإضرابها، فيما كوفئ غيرهم ممن خرجوا على النقابة فأداروا الظهور لإضرابها؟! وإذا كانت النقابة أعجز من أن تقف ضد من أوقع الأذى على جسدها وفرغها من مضمونها النقابي السليم فراحت تستجير به وتطلب وده وتستجديه، تاركة من وقفوا معها ، فهل لها بعد كل هذا الضعف والانهزام والانكسار والخور والخسران أن تقدم لرئيس وطن ما يمكن أن يفوز به ويدعم موقفه ويقلل من خسارته؟! أيها الناس: ألم تفهموا بعد أن فاقد الشيء لا يعطيه. اسمعوا، أيها الناس، وعوا: لا تشتغلوا في السياسية التي لستم- وما كنتم يوماً- من أهلها، وارعووا!
بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جامعة الأزهر – غزة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت