تقتصر علينا أحلام اليقظة، حتى تلك الأحلام أصبحت صعبة المنال، فقدت شرعيتها كما يقول أصحاب السياسية، كنا نحلم بالعودة إلى تراب فقد الهوية عند الساسة، ونسوا أن الهوية محفورة في القلوب... بمفاتيحها، وأوراقها، وأشجارها، وثمارها، وبنفحات عبيرها التي سلبت من بين الضلوع.
حدثتني جدتي كثير عن يافا، وحيفا، والمجدل، وبيت دراس، ويازور، ودير ياسين وبيسان وعن البيايير أشجارها وثمارها وعن الخير الوفير فيها، وعن الحياة المفعمة بالحب والأمن والطمأنينة وهداة البال.....
حدثتني عن جاراتها أم أحمد وأم خليل وأم محمد وعن الألفة التي كانت تجمعهم حول فرن الطين وجمع الحطب وجلب الماء من البئر.....
حدثتني عن البقر الشقراء، وعن حليبها، وعن الأغنام والدجاج والطيور التي كانوا يعتاشوا منها وعن خير الكروم وأشجار الزيتون والعنب والنخيل، لم تنسي جدتي شيئا من تلك الملامح المحفورة في ذاكرتها والتي تدمع أعينها كلما قصت علينا بعض تلك الذكريات، وفي كل مرة تؤكد علينا حقنا في العودة، وتغرس في نفوسنا كل ذرة رمل تعلو تلك الأرض، فهي تحلم بالعودة إلى بيتها الدافئ في قريتها الصغيرة، فلم تخلو لها جلسة دون أن تحكي لنا عن الأرض والشجر والحجر وعن الحق الذي سلب- عشقت تلك الأرض، عشقت ترابها- بملامحها الموصوفة لي، وأحييت لي الأمل في العودة بأن لي أرضا سأرجع لها، وأن لي حق سيعود لي يوما.
لكن الساسة قد غفلوا هذا الحق، كما غفلوا الكثير من الحقوق، نسوا القضية، ونسوا الحق في العودة، ونسوا القدس، وظنوا أنهم أنسونا هذا الحق، أخذتهم الغفلة ونسوا أن هذا الحق محفور في القلوب، أنستهم المناصب والكراسي الزائفة، فكلٌ منهم يشغل منصب كذا وكذا.....
تقسمت البلاد المقسمة إلى دولتين أحداهما في غزة والأخرى في الضفة، هنا حكومة وهناك أخري، هنا وزراء وهناك آخرين، ودخل صراع السلطة حيز النفاذ، فالأجدر من يحافظ على كرسيه دون الاكتراث إلى الشعب، أصبحنا غرباء في وطن واحد وتغلبت المصالح الشخصية للساسة وتعمق الانقسام وجفت القلوب وتحجرت، فهذا يزج بالاتهامات والتقصير إلى ذاك والأخر يزج بها إلى ذالك.
تغنوا كثيرا بالمصالحة وبثوا الأمل الحزين في القلوب، تلك المصالحة التي تفقد أدني مقوماتها في النجاح، فالقلوب ليست صافية والمصالح سيدة الموقف، تناسوا أن هناك شعب دمر شبابه وأنهكت قواه، وهدرت طاقاته، وحقد وخلافات عمقت بين أفراده، ومستوي معيشي مذري لا يرقي لآدمية البشر، فقر هنا وهناك وبطالة تفاقمت وتفشت كالوباء المحدق بين صفوف الخريجين، وغلاء فاحش في الأسعار، ازداد وتفجر، وحالات انتحار انتشرت هنا وهناك من شدة الفقر وعدم القدرة على العيش بكرامة، وأزمة في الكهرباء والمحروقات ......
تلاشي حلم العودة ليحل محله حلم آخر وتوفير لقمة العيش، والذي أصبح صعب المنال عند البعض، انشغل الساسة بالمناصب ونسوا الحق في العودة، نسوا القضية، نسوا القدس ومعاناة أهلة، دون أن يكترث لها أحد، فهم في صراع أحادي الجانب مع الاحتلال .....
تعمق الانقسام وتلاشت أوراق المصالحة المحبرة بحبر زائف، وأصبحنا في وادٍ ضيق وتوفير لقمة العيش، والاحتلال في وادٍ أخر، أوسع بكثير، اعتداءاتٌ واقتحاماتٌ متكررة للأقصى، وتهجير للسكان وجدار عنصري وحرق للدنمات واستيلاء على الأراضي وتهويد القدس وتنفيذ مخططهم المزعوم وبناء الهيكل ...
والساسة الفلسطينيون هم في غفلة نائمون، مغلبين مصالحهم وأطماعهم الشخصية على القضية، فإلى متى هذا التهميش؟
فالتاريخ لن يرحم من تلاعب بخيوط القضية وبحق العودة والقدس ولا بمن تهاون وعبث بمقدرات الشعب، هذا الشعب العريق الذي تحمل من الصعاب جمة وبقي كالصخرة الصماء أمام العنجهية الصهيونية.
أ. شيرين السيقلي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت