أهمية إصدار اتفاقيات وقوانين دولية ومحلية لتجريم الإساءة إلى الأديان والمقدسات

بقلم: تيسير التميمي

هذا هو الإسلام
أهمية إصدار اتفاقيات وقوانين دولية ومحلية لتجريم الإساءة إلى الأديان والمقدسات

ما هي المسوغات التي تدعونا إلى المطالبة بقانون دولي يُـجَرِّمُ الإساءة إلى المقدّسات الدينية ، ويضع حداً للسخرية من الأديان وازدرائها وسبّ رموزها والمساس بأركانها !
لا يخفى على أحد أن فتح الباب على مصراعيه أمام من يتطاول على الأديان ويسيء إلى المقدسات يمثل خطورة بالغة على الإنسانية جمعاء ، وتشتد خطورة هذا السلوك القبيح المنبثق عن التعصب والتمييز العنصري المبني على المعتقد بالإمعان فيه والتسابق إليه والتمسك به دون توقف ، وبنشره على نطاق واسع عبر وسائل الإعلام المتعددة كالصحف والفضائيات ومواقع الإنترنت ، مما يعني أن المقصود بها إيذاء أتباعها والمعنيين بها في مقدساتهم وتحقيرها وانتقاصها ، لا مجرّد التعبير عن الآراء الشخصية .
ولتفادي ذلك فقد سلك الإسلام طريقاً يوصل البشرية إلى الأمان والاستقرار والوقاية من هذه المخاطر بدليل الأسس والمبادئ التي أرساها القرآن الكريم والسنة النبوية والتي تقوم على احترام الأديان حتى غير السماوية منها :
* منع الله عز وجل الإساءة إلى آلهة الآخرين ، قال تعالى { َلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } الأنعام ١٠٨ ، تؤكّد الآية الكريمة منع سبّ الأوثان أو الصلبان التي تُعبد من دون الله سبحانه ، ففيها نهيٌ صريحٌ عن سبّ الآلهة الباطلة المعبودة من دون الله بغير حق ؛ وبالأخص إذا خيف من أتباعها أن يَسُبوا الإسلامَ أو النبيَّ صلى الله عليه وسلم أو أن يسبوا اللهَ عز وجل !

وما ذاك إلا لأن السبّ لا تترتَّب عليه أية مصلحةٌ دينيّة ؛ فالمقصود من الدّعوة الاستدلال على إبطال الشرك ، وإظهار استحالة مشاركة الأصنام لله تعالى في الألوهية ، يضاف إلى ذلك أن هذا السب يُحمي غيظ أتباعها ويثير أحقادهم ويزيد تصلّبهم ، وفي ذلك منافاة لمراد الله من الدّعوة ، فقد قال لرسوله صلى الله عليه وسّلم { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكّ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوعظة الحسنة وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } النحل ١٢٥ ، وقال سبحانه لسيدنا موسى وهارون عليهما السّلام لما أرسلهما إلى فرعون { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } طه ٤٤ ، فالسبّ إذن عائق عن المقصود من البعثة بل سبب للمفسدة ومانع من تحقيق المصلحة .

* لا يمكن أبداً اعتبار الانتقادات القرآنية الموجهة إلى المسيحية أو اليهودية أو الوثنية وذكر نقائص آلهتهم من باب السخرية أو الإساءة إليها أو إلى أتباعها ، فقد ورد في مقام المناظرة العقلية والمنطقية ليدلّل على نفي إلهيتها ، وهذا ليس من الشّتم ولا من السبّ ، فالسبّ هو الانتقاص والتحقير بقصد الإيذاء ، ولا يأتي في سياق المجادلة التي يقصد منها التعبير عن الرأي والمعتقد ، ومثال ذلك قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } الأعراف 194-195 .

برهان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستبح دماء النصارى كلهم ولا اليهود كلهم ، ولا طالب بعقوبتهم على إساءات كتبهم المقدسة إلى الله تعالى وأنبيائه ورسله ، هذا على الرغم من بيان القرآن الكريم مدى انتقاصها جلال الله تعالى وكمال صفاته ، فقد وصف سبحانه مثلاً بشاعة مقالة التثليث وعقيدة البنوة بقوله { قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا } مريم ٨٨ - ٩٢ ، ومع ذلك لم يحاسبهم عليها ولم يجرمهم على الإيمان بها .

بل دعا الإسلام إلى ما هو أبعد من ذلك ، دعانا إلى التعايش الكامل معهم رغم الاختلاف ما داموا يقيمون شروط التعايش وينضبطون بمتطلبات المواطنة ، فقال تعالى { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } الممتحنة ٨ -9 .

وأمرنا في مقام المناظرة أن نجادلهم باللفظ الحسن والأحسن ، والمجادلة هي الكلامٍ الذي لا انتهاكَ فيه لعرضٍ ولا سفكًا لدم ولا تسفيهاً لفكر أو دين ومعتقد ، قال تعالى { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون } العنكبوت ٤٦ .
وهذا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم قدوتنا الأولى يراسل الفرس والروم ، ويعامل الكفار والمنافقين واليهود والنصارى ويلقاهم ويحادثهم ؛ فهل أثر عنه فحش القول أو سوء الحديث معهم ! هل قال لهم يوماً أنتم كفارٌ ملعونون . وها هو يكتب إلى هرقل ويصفه بما يستحق من مكانة مناسبة في قومه قائلاً { إلى هرقل عظيم الروم ... } .
إن ما ذكرتُ يعتبر من أعظم الدواعي لاستصدار ميثاق أو اتفاقية توقع عليها دول العالم تحفظ مشاعر الناس وتحترم أديانهم ومعتقداتهم على غرار اتفاقيات جنيف التي كفلت حقوق المدنيين والأسرى وغيرهم أثناء النزاعات المسلحة ، وعلى غرار الاتفاقية الخاصة بنزع الأسلحة النووية ، وحماية للمجتمعات البشرية من الانزلاق إلى الصراعات والفتن الطائفية والانجرار إلى مخاطر الحروب الدينية الطاحنة التي تمزق العالم شر ممزق ، فإن مهاجمة عقائد الناس والسخرية منها بأية صورة كانت هي نيلٌ من أتباعها وعدوان على حرياتهم وكرامتهم .

إن إصدار هذا الميثاق الدولي المقترح ينبغي أن يكون تمهيداً لإصدار قانون دولي ينص على تجريم الإساءة إلى الأديان ، ويلاحق من يصدر عنه شيء من ذلك بتقديمه إلى المحكمة الدولية المختصة كمحكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية أو أية محكمة دولية تنشأ لهذا الخصوص ، وينبغي أن تصدر بموازاته قوانين مماثلة على المستوى المحلي في كافة الدول الموقعة على هذا الميثاق المقترح لتنفذه على أراضيها ضد من تسوّل له نفسه الإساءة إلى الأديان أو الرموز المقدسة لدى الآخرين .
وهنا أؤكد أنه لا بد لنا من المبادرة إلى المطالبة بهذا الميثاق أو الاتفاقية الدولية ومن ثم القانون الدولي والقوانين المحلية المستندة إليها ، وأن نبادر بطرح موادهها وتعريفاتها ونشارك في صياغاتها ؛ لئلا يستغل الغرب وغيره من القوى العالمية المتنفذة والمهيمنة هذه المساعي فيحاول صياغتها على هواه وبما يناسب توجهاته السياسية والفكرية على غرار ما فعل في تعريف الإرهاب ، فقد تمت صياغته بحيث اشتمل على مقاومة الاحتلال وغيرها من وجوه الدفاع عن الدين والوطن والحقوق المشروعة والقضايا العادلة .

وأؤكد أيضاً أنه لا بد من استخدام كافة وسائل الضغط لإصدار هذه التشريعات التي تلاحق كل من يسيء بأي شكل من الأشكال إلى المكونات الدينية والقومية للشعوب ـ على السواء ـ أو رموزها ومقدساتها ليس في دولته فقط بل في كل دولة يحاول اللجوء إليها ، وبالأخص أن هناك سوابق لإصدار مثل هذه القوانين ، ففي سنة 1996م حكمت إحدى المحاكم الأوروبية بعدم شرعية عرض فيلم يسيء لسيدنا عيسى عليه السلام ، كما أن الغرب يلاحق من يتبنى معاداة السامية ، وتوجد تشريعات وعقوبات لا يسقطها التقادم ضد من ينكر الهولوكوست ، وهذا يدل على أن للغرب مقدسات ، وأنه ملزم وفق القانون باحترام مقدسات الآخرين .
ولا بد أيضاً من مناقشة مبدأ حرية الصحافة ووضع حدود لها بحيث تقف عند حريات وحقوق الآخرين ، فحرية التعبير لا تبرر الطعن في الدين ، والشعور بالمسئولية يجب أن يلازم التمسك بحرية الصحافة التي يتذرعون بها لازدراء ديننا والإساءة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، بعيداً عن ازدواجية المعايير التي يستخدمها الغرب في التعامل مع قضية حرية التعبير .

الشيخ الدكتور تيسير التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت