المتتبع لنشأة وتطور الحركة الصهيونية ،منذ مؤتمرها الأول في مدينة بال بسويسرا عام 1897، هذا المؤتمر الذي وضع الاساس الاستراتيجي والتكتيكي الهادف الى إقامة الدولة اليهودية في فلسطين . لقد صدق مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل عندما تنبآ بقيام دولة اسرائيل على الأرض الفلسطينية ،حين صرح مع اختتام أعمال المؤتمر لأحد الحاخامات قائلا " نحن الان وضعنا خطة العمل وعلى الجميع تنفيذها ،وان دولة اسرائيل ستقوم بعد خمسين عاما "وبالفعل فقد قامت اسرائيل عام 1948. ومن اللحظة الاولى فقد وضعت الحركة الصهيونية كحركة يمينية وعنصرية نفسها في خدمة النظام الرأسمالي العالمي والمصالح الامبريالية والرجعية ،واستغلت اليهود في انحاء العالم ،وروجت لفكرها التوراتي .
لقد مرت القضية الفلسطينية في مراحل متعددة من المد والجزر ،وكلما تقدمنا خطوة تراجعنا عشرة خطوات ،فمن الكفاح المسلح الاسلوب الوحيد والمقدس ضد الاحتلال الذي كان ردا على الهزيمة العربية ،تراشقنا داخليا بالرصاص وتشاكلنا مع شعوب دول الجوار التي احتضنت ثورتنا ،وعصفت بنا الصراعات الداخلية ،ومنيت ثورتنا المعاصرة بخسائر كبيرة ،فقدنا المكان والشهداء . ولما تعرضت منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا الفلسطيني لمحاولات التصفية والتهميش ،وخلق بدائل كروابط القرى ،وجماعات المتأسلمين ،انتفضت جماهير الارض المحتلة عام 1987 لتعلن تمسكها بالمنظمة كقائدة لنضاله الوطني التحرري ،وتعيد الاعتبار لساحة الاراضي الفلسطينية المحتلة ،ولجماهيرها التي أبدعت وسائل نضالية جديدة أذهلت العالم ،وتحت تأثيرها المباشر جرى توحيد الموقف الفلسطيني بإعلان المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988 عن هجوم السلام الفلسطيني ،والتمسك بقرارات الشرعية الدولية . والى مفاوضات اوسلو التي جاءت من وراء ظهر المفاوض الفلسطيني ،لتفتح ثغرة في الجدار الفلسطيني ،وتخلق حالة من الارباك والصراعات والتباينات على الساحة الفلسطينية ،شابها العديد من الأخطاء من المفاوض الفلسطيني في مقدمتها تأجيل بحث القضايا الجوهرية للصراع مثل القدس واللاجئين والاستيطان والمياه والحدود ... الخ نجح المفاوض الاسرائيلي في اجبار المفاوض الفلسطيني على التوقيع على اتفاقية باريس الاقتصادية ،وتقسيم الارض الفلسطينية الى a-b-c ، واتفاقية المعابر... الخ وصفقنا كثيرا لمبادرة السلام المزعومة واعتبرنا ذلك انتصارا لشعبنا وقضيتنا ألفلسطينية ،برغم بعض الانجازات ،وكان يمكن أن تحقق أكثر لو ان المفاوض الفلسطيني ادار المفاوضات بعلم ومعرفة وهذا ما حذر منه الامين العام السابق لحزب الشعب الفلسطيني المرحوم بشير البرغوتي في اجتماع المجلس المركزي في اكتوبر عام 1992 "ان الاتفاق اما أن يؤدي الى طريق الاستقلال وإما ان يقودنا الى جهنم وهذا مرهون بطريقة تعاملنا مع الاتفاق ،هل سنتعامل معه بطريقة مكتبية وإدارية ؟ أو نتعامل معه كأداة نضالية ؟ "ويبدو اننا قاب قوسين او ادنى من جهنم !!! ومع ذلك فلا زلنا نصفق بين الحين والآخر كأننا انتصرنا على العدو ،والعدو يستمر في تغوله وإرهابه ،ويمارس سياسة التطهير العرقي بحذافيرها دون مراعاة لاتفاقيات ولقوانين دولية وقرارات الامم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان ،والمحصلة النهائية فلا المقاومة باعتبارها السلاح الوحيد جلبت لشعبنا الانتصار ،ولا المفاوضات باعتبارها الاداة الوحيدة .
لقد مر على انشاء منظمة التحرير الفلسطينية منذ قيامها عام 1964 أكثر من ثمان وأربعين عاما تغيرت استراتيجيها وأدوات نضالها ،وتراجع دورها ،وجرى تهميشها كقائدة نضاله الوطني ،وتبدلت حجارة الوادي وتضاربت المصالح وتبدل الاشخاص ،جزء من قيادتها التاريخية اصحاب التجربة والخبرة استشهد أو رحل ،وآخرين عاطلين عن الفعل سوى بطاقة العضوية ،وانتقل الشعب الفلسطيني في غياب قيادة جماعية ومشاركة سياسية ،من أزمة الى أزمة ،ومن مصيبة الى مصيبة ،ومن مأساة الى اخرى ،وغاب العمل الجماعي ،وتعثر عمل اللجنة التنفيذية للمنظمة ،وحلت السلطة محل المنظمة ،وتضخم عدد وزرائها ،وكل منهم يفتي في الشأن السياسي ،وخصوصا بعد الانقسام العار ،يسرحون في تخيلاتهم ،فمنهم من يريد ان تجرى الانتخابات التشريعية فقط في الضفة الغربية ،تحت حجة لا يجب الارتهان لسطوة حماس التي تسيطر بقوة السلاح على قطاع غزة ،وتمنعه من المشاركة فيها ،ومنهم من يصرح بفك الارتباط مع غزة ولتذهب الى الجحيم ،واقطعوا المرتبات عن موظفي غزة بسبب استهلاكها لميزانية السلطة المزعومة ،ودعوهم يجوعون علهم ينتفضون على حكومة حماس وأمنها الداخلي ،وبعضهم من ينظر لوحدة كونفدرالية معها والتعايش مع الانقسام ،ومن يعتبر غزة اقليما متمردا ،وبعضهم نسي او تناسى انه من قرر بمنع الموظفين عن العمل ،وقطع رواتب الرافضين احتجاجا على الانقلاب الدموي خصوصا في سلك التعليم والصحة ،وتوفير الفرصة لحركة حماس وحكومتها غير الشرعية لتعبئة الشواغر وحل مشاكل عناصرها ،ليثبت الانقسام الافقي والرأسي السياسي والجغرافي ،وتحويل الانقسام الى سرطان يهدد المشروع الوطني برمته ،ويعيق وحدة الشعب.
أصيبت القيادة الفلسطينية ،بالحيرة والإرباك والتردد ،لهذه التطورات الخطيرة التي تحيط بالقضية الفلسطينية ،اوسلو قتله التطرف الاسرائيلي وحكومة نتينياهو وليبرمان وغلاة المستوطنون ،والمفاوضات متوقفة ظاهريا ،والكل يعلم حجم الضغوط التي تتعرض لها القيادة الفلسطينية ،وتأخذ القيادة قرارا ثم تتراجع عنه ،ويتراجع اهتمامها بشعبها ومواطنيها ،وحل الدولتين بدا صعبا ،وبوادر الفشل في اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ،وتحاول القيادة التحرك من طرف واحد ،كالمشاورات الاستكشافية ،والترويج لفك الارتباط مع اوسلو والبحث عن إبلاغ ذلك لحكومة اسرائيل ،وكيفية مخاطبة المجتمع الدولي ،والتخبط في الحصول مرة على العضوية الكاملة ومرة اخرى عضو مراقب في الجمعية العامة ،وعين على الادارة الامريكية وانتخاباتها دون دراية وتخطيط ،وغياب المشاورة والتشاور مع القوى السياسية الاخرى ،وتعثر متابعة قضايا شعبنا الفلسطيني في مواقع اللجوء والشتات ،وفقدان الصلة الحية مع الجاليات الفلسطينية والعربية والإسلامية في المهجر ،وبطء عمل السفارات الفلسطينية ،الكل مغيب ،القوى السياسية وشركاء الدم مغيبون، منظمات المجتمع المدني مغيبة ،حركة فتح يلفها التبعثر والانقسام الداخلي والصراعات الظاهر منها والمبطن ،وحركة حماس مسيطرة على غزة وهمها تطبيق مشروعها بالحديد والنار ،خصوصا ،بعد التغييرات الدراماتيكية في العالم العربي ،ونجاح حركة الاخوان المسلمين في مصر باعتبارها الابن والفرع لهذه الحركة ،وتحاول أن تغتصب الشرعية الفلسطينية ،وتنسى القيادة الفلسطينية متابعة مشروع المصالحة الذي انتقل من مؤسسة المخابرات العامة المصرية الى مؤسسة الرئاسة ،والبطء في تحريك ملف المصالحة ،والنشاط القطري في غزة بحجة المشاركة في اعمار ما دمره العدوان الاسرائيلي على غزة عام 2008 ،وغياب رصد المتغيرات في العالم العربي ،وتراجع القضية الفلسطينية كقضية مركزية للعالم العربي ،ومكانتها الدولية ،وتدني حجم الدعم السياسي والمادي الذي أقرته القمم العربية ،والمماطلة في التزاماتها المادية ،وفي الجهة المقابلة الاسرائيليون يخططون وينفذون ،يمارسون حقدهم على السكان والأرض والمقدسات الاسلامية والمسيحية ونبش القبور واحتجاز جثامين الشهداء ،الى سرقة الارض وإقامة المستوطنات عليها وتهويد القدس وبناء جدار الفصل العنصري ومصادرة الاراضي واقتلاع المزروعات وهدم البيوت واحتجاز أكثر من 4500 معتقلا ،ومطاردة المناضلين ،الى تهديد القيادة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس ابو مازن ،وتحت حماية جنودهم يسمحون لزعرانهم ومستوطنيهم التعدي على المواطنين وتخريب مزروعات الفلسطينيين ،وتوتير حياتهم ،وتحول شعار المقاومة الشعبية استعراضيا وحبر على ورق ،وتغيرات في البنية الطبقية للمجتمع الفلسطيني ،وبروز جهاز بيروقراطي داخل السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية ،ومجموعات المصالح ،وفئة اجتماعية ذات امتيازات خاصة ،ومقاولين وأصحاب وكلاء وشركات ،ومع الطفرة في مداخيلها تغير واقعها الطبقي الاقتصادي والاجتماعي ،فتغيرت نظرتها للمشروع الوطني وتراجع دورها للمحافظة على مصالحها الآنية .
الحياة المعيشية للمواطنين في تدهور ومن سيء الى أسوأ ،البطالة في تزايد ،والأمن مفقود والمواطن يتهدده الاحتلال ،والأجهزة الأمنية تتدخل خارج القانون حتى في الحياة الخاصة للمواطنين ،والحكومة تتخذ قرارات دون دراسة وتخطيط وعشوائية ،وفقدت القيادة الفلسطينية مصداقيتها ،وتراجعت مشاركة الجماهير في الحياة السياسية ،وجرى انشغالها بالهم الآني وبالقضايا المعيشية مع ارتفاع الاسعار وتدهور التعليم والصحة . لقد لحق بقطاع غزة جراء الانقسام والحصار اضرارا فادحة طالت كل مناحي الحياة ،وتراجع دور قوى منظمة التحرير الفلسطينية بسبب غياب الاستراتيجية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية ،وتعثر تنفيذ الاتفاق الذي تم في القاهرة والدوحة . غزة جزء من الوطن ،وتاريخيا ام الحركة الوطنية الفلسطينية منذ ما قبل خمسينيات القرن الماضي ،احتوت كل ألوان الطيف الفلسطيني بدءا من الشيوعيين والإخوان المسلمين والقوميين العرب والبعثيين والفتحاويين والمستقلين ،غزة افشلت مشاريع التوطين في سيناء ،وحملت الفكر والسلاح ضد الاحتلال وفجرت الانتفاضة الكبرى عام 1987 ،وانتفاضة الأقصى عام 2000، ولا زال شعبنا الفلسطيني في غزة دائما جاهزا للنضال الوطني والتحرري والاجتماعي والديمقراطي لكنه يحتاج لقيادة واعية ومسئولة ونظيفة اليد واللسان ،وأى محاولة لاغتصاب غزة وتجاهلها تحمل كوارث خطيرة على القضية الفلسطينية .
امام هذا الواقع المأساوي ،ومخاطر تدهور ،ومكانة القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني وليست قضية انسانية والذي مس كافة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والمعيشية والإنسانية ،فان تحركا عاجلا لإنقاذ المشروع الوطني يصبح مسؤولية ومهمة عاجلة قبل فوات الأوان ،فالمتربصين كثر ،والاحتلال ينتهز فرصة التراخي والانقسام لتنفيذ هجومه على الشعب والأرض ،وفرض سياسة الأمر الواقع ،تحرك يرسم بشكل جديد استراتيجية وتكتيك جديدين ،يلحظ كافة المتغيرات والتطورات الحالية والمستقبلية في المنطقة ،وتحديد حركتها واتجاهاتها ،تتحول الى برنامج عمل وثورة على كل المفاهيم التي راجت خلال ما بعد مؤتمر الجزائر عام 1988 بما فيها اعادة الاعتبار لبرنامج منظمة التحرير الفلسطينية الكفاحي ،وتحديد مهام السلطة الوطنية ،وإعادة النظر في العديد من الاتفاقيات التي تم توقيعها مع الاسرائيليين وبشهادة دولية كاتفاقية باريس الاقتصادية والتنسيق الأمن ... الخ ؟ مما يستدعي خططا طويلة ومتوسطة وقصيرة المدى ،بما فيها خطة استرجاع ما فقدته القضية الفلسطينية من دعم شعبي ودولي ،كل هذه وأخرى من الهموم والقضايا المعقدة والمركبة . ولكن من يضع الاستراتيجية الجديدة بهدف تجميع كل طاقات وخبرات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج ومواقع الشتات واللجوء ؟
ان الحاجة لعقد مؤتمر وطني فلسطيني في الخارج ،اصبحت ضرورة موضوعية وملحة ،فرضها الواقع الحالي ،يحضره كل ألوان الطيف الفلسطيني ،من خبراء في السياسة والقانون والاقتصاد والإدارة والتخطيط والإعلام ،والتشريع ،وعلم الاجتماع والنفس،ومن مفكرين وأكاديميين ومفكرين ومتخصصين في الشأن الأمني والعسكري .... الخ يتكون من 250 الى 300 شخصية وطنية وخبراء عرب ،تدعو له منظمة التحرير الفلسطينية وبإشرافها كونها قائدة نضاله وممثله الشرعي والوحيد ،ومرجعية السلطة الوطنية ،لمناقشة الوضع الفلسطيني من كل جوانبه الداخلية والخارجية ،شارك في المؤتمر ممثلين عن مواقع الشتات واللجوء ،والجالية الفلسطينية في دول اوربا وأمريكا ،القادرون والمبدعون على رسم الاستراتيجية المستقبلية للشعب الفلسطيني ،وإعادة صياغة المشروع الوطني من خلال توفير ادارة ولجان اختصاص ،وكل لجنة تناقش قضية محددة بعيدا عن الخطابات ،فالشعب الفلسطيني بحاجة الى خطط عمل وبرامج ،وبعد انتهاء أعمال المؤتمر ،يعرض مشروع الاستراتيجية للاستفتاء العام على الشعب الفلسطيني للمصادقة عليه ،ويوجه نداء عاجل الى عموم الشعب الفلسطيني لحماية المشروع الوطني وتنفيذ هذه الاستراتيجية ،والالتفاف حولها ،وتجند كل القوى الوطنية والإسلامية ،ومكونات المجتمع المدني ،وكافة المؤسسات الرسمية والشعبية من أجل انجاحها ،وبهذا تتحول منظمة التحرير الفلسطينية قائدة حقيقية للكفاح والنضال من أجل الحرية والاستقلال والعودة ،وتتولى مهمة توحيد الشعب الفلسطيني نحو أهدافه الوطنية .
طلعت الصفدي غزة – فلسطين
الخميس 4/10/2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت