بعد قراءة المقال الذي كتبه الزميل ناصر اللحام، والذي يتحدث فيه عن المكاسبية والعرفاتية، حيث أشاد فيه "بمدرسة" عرفات التي وصفها بأنها لم تكن مكاسبية، بمعنى- كما ذكر اللحام- "الفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد في البلديات" ، وان العرفاتية كانت تسعى إلى "تكوين جبهة وطنية عريضة". فانه لا بد من الاختلاف معه حول رؤية عرفات للجبهة العريضة التي أرادها الراحل ياسر عرفات.
لقد كانت شخصية عرفات تختلف تماما عن الفهم الذي ذهب إليه الزميل اللحام، وكان عرفات لا يختلف بحال من الأحوال عن مجمل القيادات العربية التي يرى كل منها نفسه كقائد همام وملهم ولا يشق له غبار، ولنا في الكثير من قيادات "الأمة" العبرة.
ففي سوريا على سبيل المثال، ثمة جبهة وطنية عريضة، أرادها الحاكم بأمر الله الراحل حافظ أسد، وهذا ما تورثه شبل الأسد، إلا أن فعلا لها وتطبيقا لمشروعها الواسع العريض لم يطبق أبدا على أرض الواقع، وخلال الأيام الماضية، تم اعتقال بعض ممن عادوا من الصين من تلك القيادات، حيث كانوا هناك لمناقشة بعض مما يجري عل الأرض السورية.
الأمر ذاته كان موجودا في العراق العظيم، الذي كنا نتمنى ان يكون وان يظل عظيما، حيث كانت جبهة مماثلة مشكلة في العراق إبان حكم الراحل صدام حسين، إلا ان شيئا مما يجب ان يترجم على الأرض في مسالة الحكم في العراق وفي الشراكة في إدارة الوطن، لم تكن موجودة ولا بأي شكل من الأشكال على ارض الواقع.
وحول تجربة العرفاتية، وبرغم ما للرجل من احترام وتراث لا يمكن إدارة الظهر له ممن كان، إلا ان الرجل لم يتعاطى مع فكرة منظمة التحرير الفلسطينية كما يحاول الزميل اللحام ان يصور ذلك، حيث لم تكن هذه الفكرة او القيادة سوى "ديكور" "يتلطى" خلفه الراحل من اجل اتخاذ قرارات فردية، لا علاقة لها بالقيادة الجماعية او الجبهة الوطنية العريضة التي نريدها جميعا، ونعتقد بأن لكل من تعامل معه عن قرب قصة إن لم يكن قصص لتروى.
لقد تعامل عرفات مع المنظمة بنفس الطريقة التي تعامل بها كل القادة العرب، وكان فرديا مطلقا في كل ما يتخذ من قرارات، وكانت الغالبية المطلقة فيها بشكل تاريخي لحركة فتح الموالية للراحل، ولم يسمح أبدا بغير ذلك، حيث كانت الشخصيات التي يقال عنها بأنها مستقلة، وما زالت في إطار المنظمة هي من أتباع حركة فتح أو من الأعضاء غير المعلنين لتلك الحركة.
العرفاتية في الحقيقة هي من رسخ المكاسبية، ولم تكن العرفاتية سوى مدرسة في المكاسبية، ويمكن في هذا المجال سوق الكثير من القصص التي تؤكد إلى أين كان الراحل عرفات يقود "الجبهة العريضة"، وفي هذا الإطار يمكن سوق قصة صغيرة بسيطة يمكن من خلالها إدراك كم كان الرجل بعيدا عن فكرة الجبهة الوطنية العريضة التي تحدث عنها الزميل اللحام.
عند بداية تشكيل السلطة، تم تعيين احد الرفاق من أعضاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ضمن طاقم محافظة بيت لحم – لدينا اسمه- وشاءت الصدف أن يزور الراحل عرفات المحافظة بعد ذلك بوقت قصير، وعندما حطت طائرته "الرئاسية" ونزل منها، توجه إليه احدهم بورقة صغيرة فيها اسم الرفيق الموظف من كوادر الجبهة الشعبية، وهمس في "أذن الرئيس" ما يشاع عن احتلال كوادر الجبهة الشعبية المناصب الهامة في المحافظة، وإنه إذا ما استمر الأمر كذلك، سوف يسيطرون على المحافظة كما كان عليه الحال في السابق– حيث كان اليسار يسيطر على منطقة بيت لحم وهذا ما كان يثير الراحل عرفات في تونس وغيرها-. المحصلة كانت هي ان الراحل لم يمهل الرفيق من أبناء الشعبية أي وقت، وأشار إلى إبعاده وفصله من الوظيفة.
في السياق ذاته، يمكن لمن شاء ان يعرف إذا ما كان الرجل يعمل على ما ذهب إليه الزميل اللحام من – وطنية عريضة أرادها عرفات- من خلال كم هي نسبة الذين يشغلون المناصب الوظيفية العليا وغير العليا من تنظيمات منظمة التحرير وسواها او من المستقلين ليعلم كم هو "عريض" حجم المشاركة – الوطنية- في وظائف السلطة بشكل عام. كما يمكن الإشارة فقط إلى الاعتقالات التي مورست بحق العديد من القيادات الوطنية في سجون السلطة بمعرفة الراحل وربما بأوامر صدرت عنه.
ما نود التأكيد عليه هنا هو ان شخصية عرفات وبحسب كل من عاصر الرجل وعمل معه عن قرب، منذ كان طالبا في الجامعة، انه لم يكن مختلفا عن أي من قادة امة العربان، الذين يرغبون لو أتيحت لهم الفرصة ان يتدخلوا في كل صغيرة او كبيرة في الوطن لما ترددوا، إن الثقافة السائدة في "الوطن الكبير"تجعل بداخل كل منا دكتاتور صغير غير معلن، وعرفات لم يكن من طينة مختلفة.
حركة فتح في النتيجة وفي النهاية، ليست حركة آتية من كوكب آخر، فهي نتاج مجتمع تسوده ثقافة الأنا، وثقافة الفرد، وثقافة القائد الأوحد والزعيم الفذ الذي لا يشق له غبار، وعليه لا يمكن الحديث عن حركة فتح بمعزل عمن قادها وقام أو شارك في تأسيسها، وهي بالمحصلة نتاج ثقافة وعقلية تسود ليس المجتمع الفلسطيني فقط، بل المجتمع العربي بشكل عام، ودمت أخي ناصر بخير.
7-10-2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت