اقتحام المسجد الأقصى المبارك المتكرر من قبل اليهود وواجب الأمة في الدفاع عنه
تكررت على مدى السنتين الماضيتين اقتحامات قطعان المستوطنين والجماعات اليهودية المتطرفة ساحات المسجد الأقصى المبارك وأداء صلواتهم التلمودية فيها ، وما كان أولئك المعتدون ليفعلوا ذلك لولا الدعم الكامل من الحكومة الإسرائيلية بقيادة نتانياهو وغيره من رؤساء الحكومات الإسرائيلية السابقين ، ولولا حماية ومشاركة أذرعها العسكرية المتعددة في ذلك من جنود الجيش وحرس الحدود وأفراد الشرطة وعناصر المخابرات ؛ في محاولة لفرض أمر واقع جديد بتقسيمه بين المسلمين واليهود زمنياً ومكانياً على غرار ما حصل في الحرم الإبراهيمي الشريف بالخليل بعد المجزرة الدموية التي ارتكبها السفاح المجرم باروخ جولدشتاين ضد المصلين فيه فسقط فيها المصلّون العزّل مضرجين بدمائهم .
لقد كانت تلك الجريمة النكراء مسلسلاً من القتل استباح الدم الفلسطيني ؛ ابتدأ في المحراب وامتد إلى مداخل الحرم والسُّلَّم المؤدي إليه ووصل الشوارع والطرقات ومحيط المستشفيات ؛ فطال رصاص الظلم والغدر مَن هبُّوا للتبرع بالدم وإنقاذ الجرحى ونقل المصابين ، ولم يسلم مشيِّعوا الشهداء ؛ بل دُفن عدد منهم مع الشهداء بعد لحظات فبلغ عدد الشهداء يومها اثنين وأربعين ، أما الجرحى والمصابون فقد تجاوزوا المائة .
وفور انتشار الخبر خرجت مدينة خليل الرحمن غاضبة ثائرة ؛ وخرجت معها جماهير شعبنا الفلسطيني في كل مكان في القدس والضفة وفي غزة ؛ وامتدت الشرارة إلى داخل فلسطين المحتلة عام 48 في مسيرات ومظاهرات ومواجهات دامية ، فتصدت لهم قوات الاحتلال وجنودها المدججون بالسلاح وعرباتهم العسكرية المجنونة ؛ وفتحوا عليهم الرصاص والنار فسقطت كوكبة جديدة من الشهداء غيلة وغدراً .
وعلى الرغم من تنصل جيش الاحتلال من دوره في الجريمة ؛ إلا أن كل الأدلة والأحداث وإفادات الشهود حتى من اليهود أنفسهم تؤكد مسؤوليته الكاملة عمّا جرى ، فقد كان الرصاص ينهمر على الناس من كل صوب ؛ ولم يقدم الجنود أية مساعدة للمصابين ؛ بل أعاقوها فلم يسمحوا لسيارات الإسعاف بالوصول إلى مداخل الحرم ؛ ومنعوا نقل الجرحى والمصابين ، وكثرت الأحداث والاستفزازات التي سبقت المجزرة تدل على التخطيط المبيت لارتكابها ، والأحداث بعدها تدل على ذلك ؛ فقد عوقب أهل الخليل التي ارتقى أبناؤها البررة إلى العُلا بالاعتقالات ومنع التجول وفرض الحصار .
إذن لقد ارتكبت مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف لهدف اتَّضحت معالمه هو تهويد مدينة الخليل ، فبعد انقضاء فترة حظر التجول الذي فرض على المدينة واستمر أكثر من شهر للحفاظ على أمن المستوطنين ولضمان حياتهم ؛ وبعد إغلاق الحرم في وجه المصلين المسلمين دام أكثر من شهرين ؛ فوجىء أهل الخليل بإجراءات تهويد الحرم الإبراهيمي فقد استغلت قوات الاحتلال هذه الفترة بتقسيمه وتهويد أكثر من ثلثي مساحته ؛ وتحديد عدد المصلين وأوقات دخولهم إليه وإغلاقه لفترات طويلة في وجه المصلين المسلمين ومنع رفع الأذان من على مآذنه ؛ بينما يسمح لليهود بدخوله والصلاة فيه متى شاءوا ، وما زال الحرم الإبراهيمي الشريف منذ ذلك التاريخ إلى اليوم على هذا الحال .
وهذا ما يراد اليوم للمسجد الأقصى المبارك ، تقسيمه بين المسلمين واليهود ليجعلوا لهم موطئ قدم فيه ولإيهام العالم أنهم أصحاب حق فيه ، ليتمكنوا من تهويده مرحلياً ومن ثم السيطرة عليه تماماً والاستفراد به وتقويض بنيانه من القواعد لإقامة هيكلهم المزعوم على أنقاضه ، وهذا ما ستسهم فيه الحفريات المتواصلة تحت أساساته والتي لا مبرر لها باعترافهم ، يقول مئير بن دوف عالم الآثار الإسرائيلي الذي قاد عملية الحفريات قرب المسجد الأقصى المبارك : إن الحاجة لا تستدعي إجراء أعمال الترميم ، ولا مبرر لإنشاء الجسر المقرر بناؤه في طريق المغاربة . وحذر الجهات الإسرائيلية من مغبة القيام بأعمال الترميم لتأثيراتها السلبية على بنيان المسجد .
وكذلك حقن صخوره بالمواد الكيماوية للإسراع في تفتيتها جعلته شبه معلق في الفضاء تكفي أية هزة مصطنعة لانهياره بحيث يبدو الأمر وكأنه كارثة طبيعية لا يد لسلطات الاحتلال فيها مما سيجنبها أي انتقاد عالمي ، وسيزيد وضع المسجد سوءاً وخطراً إنشاء عدد كبير من الأنفاق أسفل ساحاته وافتتاحها لأغراض السياحة وغيرها ، وكذلك قرار ما يسمى ببلدية القدس باعتبار ساحاته حدائق عامة ، وهذا النهج كثيراً ما تلجأ إليه للسيطرة على الأرض التي تريد مثلما فعلت تماماً في أراضي أبو غنيم بمصادرتها من أهلها وتحويلها مناطق خضراء ثم سيطرت عليها وحولتها إلى مستوطنة .
ومن الملاحظ أن الاقتحامات المتكررة غالباً ما تنفذ من باب المغاربة الذي سيطرت سلطات الاحتلال الإسرائيلية الغاشمة عليه واستولت على مفاتيحه منذ وقوع المدينة المقدسة تحت نير الاحتلال عام 1067 ، وهذا ما يفسر إجراءاتها المتتالية فيه من هدم الطريق الترابي المؤدي إليه قبل عدة سنوات وإقامة جسر خشبي مكانه ، ثم إنشاء طريق جديد لتتمكن الآليات العسكرية الإسرائيلية وجنود جيشها الدخول منه إلى المسجد الأقصى المبارك وساحاته لتفاجئ من فيه وترتكب ما شاءت من الجرائم .
وقد سبق أن ارتكبت سلطات الاحتلال الإسرائيلية مجزرة في المسجد الأقصى المبارك ، فقبل صلاة ظهر يوم الإثنين 8/10/1990 ارتكبت مجزرة رهيبة داخل أسوار الحرم القدسي الشريف بالأسلحة والرشاشات ؛ حيث حاول متطرفون يهود ممن يسمون بجماعة أمناء جبل الهيكل وضع حجر الأساس للهيكل الثالث المزعوم في ساحاته .
هب أهالي القدس متصدين لهذه المحاولة ، ومحاولين منع المتطرفين اليهود من تدنيس المسجد الأقصى ، فوقعت اشتباكات بين المتطرفين اليهود الذين يقودهم غرشون سلمون وبين نحو خمسة آلاف فلسطيني شدوا رحالهم إلى المسجد الأقصى المبارك لأداء الصلاة فيه ، وتدخل جنود حرس الحدود الإسرائيليون الموجودون بكثافة داخل الحرم القدسي ، فأطلقوا الرصاص على المصلين دون تمييز بين طفل وامرأة وشيخ ، مما أدى إلى وقوع أكثر من 21 شهيداً وأكثر من 150 جريحاً ، واعتقال أكثر من 270 شخصاً من داخل وخارج الحرم القدسي الشريف .
وقد سبق للمجرم شارون سفاح صبرا وشاتيلا أن اقتحم المسجد الأقصى المبارك من باب المغاربة يرافقه عدد كبير من جنود الجيش والشرطة وغيرهم من العسكريين يوم الخميس 28/9/2000م فتصدى له المصلون وأبناء القدس بالحجارة والأحذية ، واجهوا الرصاص بصدورهم العارية ، وفي اليوم التالي وفي الركعة الثانية من صلاة الجمعة أرسل شارون طائرات الأباتشي لتقصف المصلين في المسجد الأقصى المبارك وتطلق الرصاص عليهم ، وهذه كانت انطلاقة شرارة انتفاضة الأقصى في كافة المدن الفلسطينية احتجاجاً على تدنيس شارون للمسجد الأقصى المبارك ، وسقط في هذه الانتفاضة ألوف من الشهداء والجرحى والمعتقلين .
إن واجب الأمة العربية والإسلامية أن تدافع عن المسجد الأقصى المبارك بكل إمكانياتها ، وأن تنقذه من الاحتلال والتهويد والأسرلة ، ولتعلم أن هذا من أوجب الواجبات المفروضة عليها ، وإن تقصيرها في هذا الواجب هو الذي جرأ سلطات الاحتلال عليه وعلى مدينة القدس ، فبعد جريمة إحراق المسجد الأقصى المبارك على يد السائح اليهودي الاسترالي بتاريخ 21/8/1969 اجتمعت الدول الإسلامية كافة وقررت تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي وانبثقت عنها لجنة القدس ، وتضمن بيانها التأسيسي أن هدف إنشائها الدفاع عن مدينة القدس وحماية المسجد الأقصى المبارك، ولكن بعد مرور أكثر من أربعة عقود ، وبعد عشرات مؤتمرات القمة التي عقدتها وعشرات البيانات الختامية التي أصدرتها بعد إجماعها عليها ؛ ماذا فعلت على أرض الواقع لحماية القدس والمسجد الأقصى المبارك ؟ إن المطلوب منها ومن الأمة كافة أي شيء فعلي غير بيانات الشجب والاستنكار والإدانة .
إن مسؤولية المحافظة على عروبة القدس وإسلاميتها وإسلامية مقدساتها وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك يجب أن تضطلع بها الأمة بكاملها ، العربية والإسلامية شعوباً وحكاماً ومنظمات ووسائل إعلام نحو هذا الجزء من عقيدة أبنائها ، فهو أولى القبلتين وثاني المسجدين ، ومسرى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } الإسراء 1 .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت