يوجد في عالم السياسة مقولات لها معاني بالغة الدقيقة منها: "لكل زمان دولة ورجال" يقابلها مقولة: "رجال لكل زمان ودولة"! وعادة يكون استمرار نفس الوجوه في وقت السلم والحرب، الانتصار والهزيمة، الوفاق والخلاف، التقدم والتراجع ...إلخ دليل أنهم يشكلون مراكز قوى –فساد- وأنهم لا يبالون بمصير شعبهم ولا مصلحته إلا مصالحهم! تلك كانت مقدمة لمقالة بعنوان: "لكل زمان دولة ورجال" لم أكملها لأنك لو ناديت أسمعت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي! وقد لفت انتباهي على قلة متابعتي لأخبار فلسطين المكررة كأن القيادات الفلسطينية من مختلف الفصائل جالسة على كرسي الاعتراف! إلا أن اعترافها ليس نابعاً من صحوة ضمير ولحظة صدق مع النفس وانتقاد وتقويم للذات ولا نتيجة إحساس بواجب المصارحة والمكاشفة وإلا كانوا اعترفوا بفشلهم! لأن تكرار التجارب الفاشلة التي مازالت نتائجها ماثلة للعيان يكون خطيئة لا خطأ! والذي حدث من قيادات الفصائل الفلسطينية الجالسة على كرسي الاعتراف أنها غَلَّبت مصالحها وطموحاتها الشخصية والحزبية على مصالح الجماهير والقضية وكررت التجارب الفاشلة في تاريخنا وتاريخ شعوب أخرى كانت تحت الاحتلال!.
فنهج المفاوضات وتعليق الآمال على الغرب ومحاولة الجمع بين السلطة والمقاومة والسعي وراء الحصول على الشرعية السياسية عربياً ودولياً والدوران في فلك الأنظمة العربية أو الإقليمية ورهن القرار الفلسطيني والفصائلي لهذه الدولة أو تلك من أجل توفير الدعم السياسي والمالي والاستقواء بها ضد فصيل آخر...إلخ سبق أن مارسته القيادات الفلسطينية وكان سبباً في نكبتنا عام 1948، وأعادت تكراره منظمة التحرير بعد عام 1967، وحماس بعد فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006 فهي لم تعي معنى شعار القسام "هذا جهاد .. نصر أو استشهاد" ولم تدرك حقيقة تجربة وأتباعه في سوريا وفلسطين الذين مثلوا النهج المضاد لنهج الجمع بين السلطة والمقاومة!
أما حركة الجهاد التي رفع جيلها المؤسس شعار القسام وأحيا تجربته وجسدت طليعتها الأولى أروع صور التلاحم بينها وبين الجماهير، وامتازت عن غيرها بنهجها الجهادي الواعي بمعناه الشرعي الشامل المبني على الوعي والثورة المتعدد الأشكال المدرك لشمولية وأبعاد الهجمة اليهودية-الغربية ضد الأمة والوطن ومركزية القضية ودورها كطليعة حقيقية للأمة وليس جيش تحرير كما فعلت منظمة التحرير وتفعل حماس الآن، القادر على تحديد أولويات كل مرحلة وإعطاء كل مرحلة حقها لأن البندقية قد تتقدم في مرحلة وتتأخر في أخرى المهم هو حسن تقدير الموقف والمصلحة! لم يبقَ لها منه إلا شعار فقط بعد أن اختزلت فكر الجهاد وتجربة القسام في رقم فقط؛ رقم في سباق الفشل؛ يتمثل في عدد الصواريخ التي تطلقها سرايا الجهاد على الكيان الصهيوني خلال كل جولة من جولات التصعيد ضد غزة أو ضد عناصرها وليس مهماً تقتل أو لا تقتل أحد من اليهود! وفي المقابل ليس مهماً كم قائد ميداني أو عنصر منها قُتل أو من الجماهير وكم بيت هدم وكم دونم تم تجريفه و...! وسرعان ما يهرول قادتها إلى مصر طالبين التدخل لتثبيت التهدئة والالتزام بها تحت مبرر التوافق الشامل بين فصائل المقاومة في غزة متناسين تجربة القسام وأتباعه وعدم اهتمامهم أو التزامهم بوقف إطلاق النار!
لقد انفصلت حركة الجهاد عن الجماهير ولم تَعُد تدرك أوليات المرحلة وحاجة الجماهير فهي في المرحلة التي تحتاج فيها الجماهير والقضية إلى التثقيف والتوعية وإعادة بناء روح الثورة والحفاظ على وحدة وتماسك المجتمع الفلسطيني وترميم جراحه وعلاقاته بعد أن مزقته الصراعات الحزبية والانقسام وانحرفت بوصلة المقاومة بعيداً في وسائلها ودورها، لذلك تجدها تنفق أموال هائلة على استعراضات قوة وهمية ودعوات وعزائم كثير من أطعمتها يُلقى في القمامة لكثرتها، متناسين موقف فكر الجهاد من استعراضات الأنظمة العربية وأن الأولى بالأموال التي تنفق عليها أن يتم بناء مشاريع بها تُشغل الشباب العاطل عن العمل ويستفيد منها المواطنين! متجاهلين عدد الأسر المستورة التي تعيش تحت خط الفقر وعدد الأسر التي لا تجد مأوى يقيها حر الصيف أو برد الشتاء وعدد المرضى الذين لا يجدون تكاليف العلاج وعدد الطلبة الصغار الذين لا تركوا مدارسهم ويجولون باعة في الشوارع ليوفروا لأهلهم لقمة العيش وعدد الطلبة الجامعيين الذين لا يجدون رسوم الجامعة أو عدد الخريجين الذين لا يجدون عمل ويعيشون عالة على أهلهم بدل أن يعينوهم وعدد الشباب والشابات الذين تجاوزوا سن الزواج ولا يجد نفقات الزواج والقائمة تطول؟!
ومتناسين نقد الشيخ عز الدين القسام إنفاق أموال الأوقاف على بناء المساجد وتزيينها أو على بناء فندق يدر عليهم أرباح وليس على استعراضات فارغة كاستعراضات فصائل المقاومة، معتبراً أن إنفاق تلك الأموال على الإعداد للجهاد والمحتاجين لتثبيتهم في أرضهم وتقوية صمودهم أولى من بناء المساجد! ويبرر أحد قادتهم انفاق تلك الأموال الهائلة بأنها ضرورية لإظهار القوة للعدو ولتليق بذكرى قائد بحجم الدكتور فتحي الشقاقي! عجباً نسي أو تناسى موقف الجهاد ونقد الشقاقي للحركات السابقة واعتبار أي حركة تُكثر من تمجيد الماضي والكتابة عنه دليل إفلاسها وعجزها عن تقديم نماذج جديدة مثلهم! أيها الفاشلون لا مانع من إحياء ذكرى السابقين ولكن جنباً إلى جنب مع نماذج مميزة من الأجيال المعاصرة يكونوا قدوة مثلهم ليستمر عطاء الجهاد المتميز للجهاد!.
كما يبدو أن تصريحات بعض القادة والمسئولين الصهاينة في الآونة الأخيرة هي التي اضطرت أولئك القادة للاعتراف، فقد اعلنوا صراحة أن أوسلو فشلت ولم يبقَ منها إلا التنسيق الأمني الذي يخدم كيانهم الصهيوني فقط ومن أجل استمراره يقدم الاحتلال بعض أموال الضرائب للسلطة للحفاظ على استمرارها وعدم حلها، ونصحوا القيادة في رام الله بأن استمرار التمسك بأوسلو وعدم حل السلطة معناه أنها تعمل ضد مصالح شعبها! أما حماس فقد أصبح القاصي والداني يدرك فشل مشروعها في الجمع بين السلطة والمقاومة! كما أن تصريحات القادة الصهاينة تجاهها لا تقل عنها تجاه السلطة فهي في نظرهم منذ أن فازت في الانتخابات التشريعية عام 2006 بدأت تبتعد عن المقاومة، وأنها بعد حدوث الانقسام عام 2007 وانفرادها بحكم قطاع غزة وما حققته من غنائم أصبحت حريصة على السلطة وعلى استمرار الوضع على ما هو عليه وتحاول الحفاظ على التهدئة التي وقعتها عام 2008 لأول مرة ومنع فصائل المقاومة من إطلاق الصواريخ، وقد ازداد حرصها على استمرار التهدئة ولا ترغب في مواجهة جديدة (عدوان صهيوني على غزة) بعد حرب عام 2009، وأن العدو الصهيوني يتمنى أن تفتح مصر معبر رفح على مصارعه مع غزة وتوفر كل احتياجات سكانه ليفك ارتباطه بغزة نهائياً ويجعل منها مقبرة الحلم الفلسطيني بالدولة!.
للأٍسف أن الذين اعترفوا لم يعترفوا بفشلهم كنتيجة حتمية لتكرارهم التجارب الفاشلة وأنهم منحوا العدو الصهيوني الوقت الكافي لتحقيق معظم أهدافه التوراتية على حساب مصالح شعبنا في فك الارتباط بين الضفة وغزة، ووقف المقاومة والقضاء عليها، واغتصاب أراضي الضفة الغربية وتهويد القدس واستكمال مخططات بناء المدينة التوراتية اليهودية فوق وتحت الأرض في ساحات المسجد الأقصى تمهيداً لهدمه وتصفية القضية، في الوقت الذي لا تزيد إنجازاتهم هم وفصائلهم على تكريس الانقسام وتمزيق المجتمع الفلسطيني وتفكيك روابطه الاجتماعية وتدمير قيمه الأخلاقية وتصفية مقومات الصمود والمقاومة لديه والإثراء الفاحش لبعض قيادات وعناصر فصائلهم واستبداد بعضها بالجماهير والمقاومين!
لذلك دائماً نقول: أن نكبتنا أكبر في تلك القيادات عديمة الخبرة والتجربة ومحدودة الوعي التي لا تقبل نصيحة ولا تحترم رأي مخالف ولا ترقب إلاً ولا ذمة في منتقديها، ومن الخير لها وللقضية أن يتحلوا بالشجاعة والصدق ويستقيلوا هم وفصائلهم ويتفرغوا لكتابة مذكراتهم وينصحوا فيها الأجيال القادمة بإخلاص ألا يكرروا تجارب فاشلة!.
مصطفى إنشاصي
التاريخ: 9/10/2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت