ثمة ما يلفت النظر ويشد الأبصار كلما أمعنا البحث في مكتبات حياتنا ،، نفتش ما بين طيات الكتب وصفحات الأيام وازدحام الأقلام واختلاط الأوراق عن ابداعات ةاضاءات فارقة ، تستوجب علينا الوقوف أمام براعة أقلامهم ، ومتانة صحفهم ورصانة أحاديثهم وحصانة كلماتهم وفصاحة ألسنتهم ،، فقل ما تهتف أفئدتنا لتتئد على إيقاع ريشة فنان أو قلم كاتب مبدع ،، فتتراقص طربا إيذاننا للإبحار في سبر أغوار ما يتحفنا به المبدعون .
فالكاتبة المبدعة كفاح عواد كانت ممن لهجت قلوبنا على وقع رتم مكتبتها الثرية ، من خلال مداخلاتها الشيقة التى تأسر الخاطر وتسبي الوجدان وتدغدغ المشاعر وتحاكي الإنسان ، فمن سيل قلمها يفوح شذى الأريج ، لينثر قطرات من الندى ، تداعب حبيبات الثرى ، فتلقح صباحات الفلا .
كفاح المكافحة .. من متابعة وناشطة ومتداخلة ومعلقة على صفحات التواصل الإجتماعي الإفتراضي ، إلى كاتبة روائية ، ومن معلمة ومربية أجيال إلى أديبة ، تشق دروب الأدب والكتابة ، وتمخر عباب بحر التأمل ، ليعلو قلمها إلى سدة المجد ، غير أنني أخشى أن أهضم حقها وأختزل صفحات تاريخها من خلال هذه المقدمة البسيطة والمتواضعة ، لا سيما وأنني كنت قد تعرفت إليها منذ فترة زمنية ليست ببعيدة من خلال التحليق في فضاءات عالمنا الإفتراضي ، والغوص في أعماق هذا العالم الفسيح والبحث عن بريق الصدفات في أحشائه ومكامنه .
ولذلك ظني بأنني لا أستطيع أن أفي الكاتبة كفاح عواد حقها فيما أثرت مكتبتها من طفرات وابداعات ربما فاقت وصفي هذا ولعلي أفتقد الدراية الكاملة حولها ، وحيث أنني استشففت من عبير كتاباتها بأنها تحمل في جنباتها تجاربا حية وكبيرة ، وفي طيات ذاكرتها روحا شاقة ومشوقة وفي جعبة أيامها خلجات مثيرة كاختلاف الفصول الأربعة واعتلالها وجدلية دوران الأرض وجريان الشمس والقمر وايلاج الليل والنهار .
مما زادني يقينا بأن كفاح كاتبة مبدعة ومميزة ولربما أخذني الفضول للبحث والتمحص حول ما أنتجت من كتابات سعيا مني خلف إحساسي بقدراتها الكتابية ، فما خاب ظني ولا خانني حدسي ، فإذ يستوقفني بعضا من مقتطفات مشروع رواية (( ذاكرة روح )) كانت تطل علينا بها كفاح من حين لآخر كإرهاصات باكورة إنتاجها الأدبي ، الأمر الذي أثارني بشغف الفضول وأخذني لأنتظر بفارغ الصبر خروج هذا العمل الروائي إلى النور .
وما أن تلقيت هذا العمل الذي أطل علينا أخيرا ، حتى تمنيت أن أكون كاتبا وناقدا بارعا ، كي أخوض غمار هذه القصة بتفاصيلها وأركض بين مجرياتها وأحداثها وأتلمس مفرداتها بدقة الكاتب والأديب المقتدر ، وعلى الرغم من ذلك أثارتني القصة بعد أن قرأتها بتأني وتمعن فأخذ بي قلمي البسيط ودفعني محاولا أن أكتب شيئا يرتقي لروح ذاكرة كفاح .
وبحسب رأيي فقد خرجت علينا كفاح بقصة ذاكرة روح من واقع تجربة مريرة عايشتها كما عايشها شعبنا الفلسطيني ما بين النضال والمقاومة وما بين التشرد والنزوح والحرمان والتنقل فيما بين الغربة والإغتراب وما حملته الذكريات من أمل وتمني وأفراحا وأحزانا رسمت معالمها هذا الطموح وهذه الإرادة القوية لإصرار شعبنا العظيم على صوغ معالم حياته مهما بلغت فيه الشدائد والمحن .
فاستطاعت أن تحاكي فينا ذاكرتنا الممتدة على مدار ردحا من الزمان وكانت بمثابة الروح التى سكنت في المكان ، حيث أجسادنا جميعا التى ما فتئت تبحث عن الروح التى ظلت تحوم بين الفضاءات المتباعدة وتجلى ذلك في مقدمة قصتها ( ذاكرة الروح ) وجاء ذلك من خلال اختيارها الدقيق لعنوانها ومن ثم ( الإهداء المميز ) كما أهدته وكان نصه ( إلى كل الذين حملوا جراحهم ومشوا بها عمرا ) مما أحسسنا جميعا بأنه فعلا حال لساننا .
وتسافر بنا في قصتها الشيقة عبر أربعة لوحات رائعة صاغت حروفها بحس صادق وبحبكة قصصية بارعة ودللت على ذلك بشواهد ووقائع فيما اختارت شخصياتها بعناية فائقة ، لتجسد أنموذجا لبعض من محطاتنا التى عايشناها وعايشها شعبنا الفلسطيني إبان ترحاله وتنقله وعبر جولاته وصولاته النضالية .
ومما أثار انتباهي ما تضمنته القصة من مداعبات حوارية حملت اللهجة الفلسطينية الخالصة وكأنها تريد أن تعيد إلينا ذاكرة الأجداد والآباء الذين مضوا على الطريق وما مضت روحهم تغرد في أعماقنا فخلدت فينا دونما انفصال ، وصاغت لنا شيئا من ثقافتنا الفلسطينية الإجتماعية بما لها وما عليها من عادات وتقاليد وتراث ، ودللت على ذلك ببعض من الزجل والطقوس وطموح اللاجئ في الحياة من خلال بحثه الحثيث عن الحب والفرح والزواج والعلم والعمل والمثابرة والإجتهاد ، كذلك أخذتنا الكاتبة من خلال قصتها إلى دروب المقاومة الباسلة عبر الأمثلة والنماذج الحية بفضل أنفة ومنعة المقاوم الفلسطيني العنيد واصراره على ممارسة دروب الحياة ، فحملت إلينا العديد من المتناقضات كالفرح والترح .. الحياة والموت إلخ ..
وكذلك رسمت لنا أشياءا كثيرة في ملحمتها اختلجت خلالها قلوبنا فنقشت فينا ذاكرة لا تغيب وحفرت في أعماقنا روحا لا تهيم ولا ترفرف أبدا ، إنما لتسكن في أحشائنا كلحن الخلود .
ففي اللوحة الأولى تنسج لنا كفاح حكايا التغريبة الفلسطينية الثانية وفيها طباق مع التغريبة الأولى التى حلت بشعبنا الفلسطيني ، وجرى ذلك من خلال وصف جميل ، فحاكت لنا لوحة النكسة ، وما شابهها إبان النكبة ، وما واكبهما من تشرد لأهلنا ولأسرنا في المنافي على امتداد عواصمنا العربية ودول الشتات في العالم كافة ، وحدثتنا عن معانياتهم هناك وعن نضالهم من أجل الحياة ، وأطربتنا من خلال لوحة رائعة وخالدة تحاكي فيها استشهاد أحد الذين ساروا هناك على الدرب الطويل والشائك ، وهو يدافع عن استقلالية القرار الفلسطيني ونضاله الدؤوب ولوجا لحق العودة وتقرير المصير ، وقصت لنا بعض المواقف والطرائف والحكايا التى عايشها شعبنا تحت وقع أنين الغربة والإغتراب .
أما اللوحة الثانية فتعود بنا كفاح إلى الحراك الإجتماعي الفلسطيني وتخط لنا بحروفها عن إصرار اللاجئ الفلسطيني البسيط على الحب والزواج وعن التفاوت الطبقي والعرقي الذي عانى منه اللاجئون الفلسطينيون في الشتات والمنافي ، من خلال قصة شاب بسيط أحب الحياة على الرغم من واقع الهجرة والتشرد والغربة وفي خضم بحثه عن كسرة خبز أو لقمة عيش يقتات منها ، إلا أنه وقع في حب امرأة وكان جل حلمه الزواج منها فرفض أهلها ذلك الزواج مما جعله يهاجر مرة أخرى إلى بلد آخر .
وفي اللوحة الثالثة تطير بنا الكاتبة لنهبط وإياها في الوطن لتشد وجداننا إلى ذلك الوطن الذي حلم بها الشهداء والمشردين ، فقصة النيص التى حملتها اللوحة الثالثة ، حدثتنا فيها عن المقاومة في فلسطين ودروبها الوعرة من خلال نموذجا نضاليا لشاب مقاوم ، قام بتنفيذ عملية ضد الإحتلال الإسرائيلي الغاشم ، وما زال مقاوما عنيدا مطلوبا ومطاردا لهذا الإحتلال البغيض ، فتسطر لنا كفاح أروع آيات النضال والمقاومة في فلسطين على الرغم مما وصفته عن واقع الحياة هناك وشعبنا يئن تحت الإحتلال والحصار والحواجز .
وتحط بنا كفاح في لوحتها الرابعة والأخيرة وقد جسدت لنا حالة الموت تحت واقع الحصار ومنع التجول ومعاناة الحواجز ، فتقص لنا وفاة والد أحد أصدقاء أبطال روايتها ، فكانت لوحة فارقة .. حزينة ومؤثرة جدا ، فساقت لنا ذات الذاكرة التى أعادت تلميعها عبر وصف همجية الإحتلال وتدنيسهم للوقار وكسر الكهولة على حد وصفها وتعبيرها ، حينما كانوا يعتدون على كبار السن الذين يصرون على الحياة ويستمدون قوتهم من تلك الذاكرة وعبق تاريخهم الكفاحي الطويل .
فيما اختارت الكاتبة كفاح عواد عناوينا رائعة لكل لوحة من لوحاتها القيمة ، إذ حملت في معانيها ومضامينها تمايزا وتجديدا فارقا وبارعا ، تماهى مع رتم اللوحات ووقع أحداثها المثيرة ، وفقت فيها خير توفيق عبر اختيارها مفرداتها وحروفها الدسمة ومضامينها القوية .
فجل روايتها حملتنا إلى ذاكرة الروح ، ذاكرة كفاح التى سافرت معها في ترحالها وتنقلها لتحط روحها وهي تعزف لحن الرجوع الأخير إلى الوطن .. هي ذاكرتنا وروحنا .. وكفاح ذاكرة روح .. وروح ذاكرة .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت