وأخيراً، بدأت في «اسرائيل» المقدمات الأولى للمعركة الانتخابية القادمة للكنيست التاسعة عشرة بعد أن بات موعدها محدداً في شهر يناير 2013 لتصبح انتخابات مبكّرة، على ضوء ما سعى إليه حزب الليكود الذي يتزعمه رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتانياهو منذ أكثر من عام مضى.
تقريب موعد الانتخابات التشريعية في الدولة العبرية، أمر مألوف وقد اعتادت عليه الحياة السياسية الداخلية في «إسرائيل» خصوصاً عندما تَتَعقّد بعض الملفات المطروحة على جدول الأعمال ومنها ملف الوضع التفاوضي مع الفلسطينيين خاصةً والعرب عموماً، وعندما تَتَعقد بعض الملفات الداخلية في الداخل «الإسرائيلي» كالملف الاقتصادي وملفات الرفاه الاجتماعي والضمان وغيرها. كما يتم اللجوء إلى تقريب موعد الانتخابات التشريعية عندما ترى الأحزاب الكبرى نفسها في وضع مريح للمنازلة السياسية في مواجهة برامج الأحزاب المنافسة لها.
وللموضوعية، ومن موقع تقديم الصورة كما هي، فإن الانتخابات البرلمانية في «إسرائيل» تجري بشفافية متقدمة نسبياً، وقلما شهدت تجاوزات أو ملاحظات أو انكسارات. وهذا لا يعني بالطبع أن المؤثرات الانتخابية بعيدة عن الناس كاستخدام المال السياسي والرشاوى من قبل بعض مقاولي الانتخابات لكسب قطاعات من الناس لهذا الحزب أو ذاك، أو استخدام أشكال من النفوذ التي يملكها بعض رؤساء وقادة المستعمرات والمستوطنات ومنهم ممولو عمليات الاستيطان من المقيمين خارج «إسرائيل» في الولايات المتحدة على سبيل المثال، كالممول المعروف «أرفين موسكوفيتش» الموول الكبير للمشاريع الاستيطانية التهويدية الكبرى في منطقة القدس.
أما الاستخدام الأوفر والأفَعَل للماكينة الدعاوية والانتخابية قبيل انتخابات الكنيست في «إسرائيل» من قبل عموم الأحزاب في «إسرائيل» فيتم عادة على قاعدة الشعار والموقف السياسي وترجماته على الأرض. فكلما استطاع هذا الحزب أو ذاك تقديم موقف يدغدغ مشاعر الجمهور استطاع أن يحصد أصواتا واسعة من القطاعات العامة للناس.
من هنا فإن التوصل لاستصدار قرار بالانتخابات المُبكّرة في «إسرائيل» لم يكن مفاجئاً بل جاء بعد مقدمات طويلة جرت مياهها خلال الأشهر الماضية، وصولاً إلى البيان الذي أصدره رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتانياهو قبل أيام قليلة، وفيه إعلانه عن تقديم موعد الانتخابات التشريعية للكنيست التاسعة عشرة.
فقد أعلن نتانياهو التالي : «واجبي كرئيس الوزراء أن أضع المصلحة الوطنية العليا فوق أي مصلحة أخرى، ومصلحة إسرائيل تستوجب التبكير في الانتخابات قدر الإمكان». مضيفاً قوله «إن معركة انتخابية في غضون ثلاثة أشهر هي أفضل من معركة انتخابية بعد سنة، فحكومتي هي الحكومة الأكثر استقراراً في تاريخ حكومات إسرائيل الأخيرة، وقد أسهم استقرار حكومتي في تحقيق الهدفين المركزيين اللذين وضعتهما لنفسها، وهما: تحقيق الأمن، والتطور الاقتصادي».
وعليه، ما إن أعلن رئيس الحكومة «الإسرائيلية» بنيامين نتانياهو عن قرار تقديم موعد الانتخابات التشريعية للكنيست التاسعة عشرة، حتى دخلت الحلبة السياسية في الدولة العبرية مرحلة سِعار فعلي، فالجميع يريد ليس فقط أن يضمن لحزبه مكانة ومقاعد في الكنيست القادمة، وإنما يريد أيضاً، وهذا هو الأهم، أن يَضمن لنفسه وزناً لهذه المكانة وهذا المقعد. وهكذا، وبرغم تأهب جميع التشكيلات والأحزاب «الإسرائيلية» لهكذا احتمال منذ أكثر من عام مضى، إلا أن إعلان نتانياهو وصدور قرار تقديم الانتخابات أشعل النار هذه المرة بشكل مُتَقد داخل الشارع والمجتمع وعموم الكتل الحزبية في «إسرائيل».
وانطلاقاً من ذلك، صار واقعاً أمر الانتخابات التشريعية المُبكّرة بعد قرار الحكومة «الإسرائيلية» بالإجماع خلال جلستها الأسبوعية التي عقدت يوم الرابع عشر من أكتوبر 2012 الجاري، ليصبح موعد تلك الانتخابات التشريعية في الثاني والعشرين من شهر يناير عام 2013 بدلاً من موعدها المقرر في أكتوبر 2013، فضلاً عن تصويت الكنيست في افتتاح دورته الشتوية يوم الخامس عشر من أكتوبر الجاري على قانون لحل نفسه، حيث حَصل في
القراءة الأولى على صوت «99» نائباً من نواب الكنيست من أصل صوت «120» نائباً يتألف منهم الكنيست، وفى القراءة الثانية حصل على صوت «99» نائباً مقابل صوت واحد، وحصل في القراءة الثالثة والأخيرة على «100» صوت مقابل لا شيء.
وبالتالي فإن استصدار القرار المُعلن بإجراء الانتخابات المبكّرة للكنيست التاسعة عشرة بات يحظى بشبه إجماع داخل «إسرائيل»، في الوقت الذي بدأت فيه مراكز استطلاع الرأي باستمزاج الموقف العام، وإجراء استطلاعات أولية لعينات عشوائية من الجمهور «الاسرائيلي»، في محاولة لإلتقاط المناخ العام ومؤشراته ودلالاته في «إسرائيل» وهو مناخ يميني بكل امتياز كما تشير النتائج المتواترة لاستطلاعات الرأي قبل قرار الانتخابات المُبكّرة وبعده.
ومن المعروف بأن الانتخابات البرلمانية للكنيست في «إسرائيل» تحظى بأهمية كبيرة بالنسبة للتشكيلة القيادية القادمة والمسؤولة عن صناعة القرار في الدولة العبرية للمرحلة التالية، حيث يُقدر للحزب الحاصل على الكتلة البرلمانية الأكبر تشكيل الحكومة وقيادة الإئتلاف الحزبي الحكومي، فيما تَصطَف القوى خارج الإئتلاف في إطار قوى المعارضة كما هو حال حزب كاديما «إلى الأمام» الحالي الموجود في مواقع المعارضة بعد أن كان في رئاسة الحكومة السابقة التي كان فيها حزب الليكود في موقع المعارضة «ملاحظة : سبق وأن انضم حزب كاديما إلى الإئتلاف الحكومي الحالي برئاسة بنيامين نتانياهو بعد فترة طويلة من وقوفه في صف المعارضة، لكن كتلة الحزب البرلمانية أعلنت عن انسحابها بعد حوالي شهرين ونصف الشهر من انضمامها إلى الإئتلاف، بموافقة خمسة وعشرين نائباً من أعضاء الكتلة بينما عارضه ثلاثة وهم: الجنرال آفي ديختر وعوتنيئل شنلر، ويوليا شمالوف بركوفيتش. وبموجب هذا القرار يعود الإئتلاف الحكومي « الإسرائيلي» الحالي ليصبح قائماً على ستة وستين عضو كنيست بدلاً من اربعة وتسعين من أصل مائة وعشرين عضواً هم كامل أعضاء الكنيست «الإسرائيلي»».
لماذ يريد نتانياهو انتخابات مبكرة
في هذا السياق، إن رغبة بنيامين نتانياهو وحزبه حزب الليكود، في تقريب موعد الانتخابات البرلمانية للكنيست التاسعة عشرة، تَكمُنُ انطلاقاً من عدة عوامل حاسمة وذات دلالات قاطعة ولم يتأت نتيجة إلحاح من قوى سياسية خارجية الإئتلاف الحكومي من أحزاب المعارضة، وتلك العوامل متداخلة وقد كان أولها أن استطلاعات الرأي خلال عام كامل أعطت حزب الليكود الذي يتزعمه نتانياهو أفضلية عن غيره من الكتل الحزبية الكبرى، وهو ما سيجعل من حزب الليكود متمتعاً بأغلبية برلمانية تصل إلى «32 أو 33» مقعداً. كما كانت استطلاعات الرأي التي نشرتها وسائل الإعلام «الإسرائيلية» مؤخراً قد أظهرت ارتفاعها في قوة تجمع اليمين المتمثل بحزب الليكود والمتدينين، حيث حصلت كتل ذاك التجمع على حظوظ تقارب «68» مقعداً في الكنيست، مقابل «52» مقعداً لتيار اليسار والوسط مجتمعين فيما لوجرت الانتخابات المبكرة. وهو ما دفع بنتانياهو لزيادة منسوب تصريحاته وسلوكه السياسي اليميني الصهيوني والذي ركز فيه على توسيع عمليات التهويد والاستيطان في عموم مناطق القدس وداخل أحيائها العربية الإسلامية والمسيحية في سعيه لكسب المزيد من أصوات كتل اليمين واليمين المتطرف داخل «إسرائيل».
وكان ثانيها بأن هناك مناخاً عاماً من الاعتقاد يسود في «إسرائيل» ومفاده أن نتائج الانتخابات محسومة لمصلحة إئتلاف اليمين القومي العقائدي واليمين القومي الديني الذي يرى في بنيامين نتانياهو، حتى الآن وبرغم الظروف الاقتصادية السيئة، زعيماً مفضلاً له، في وقت بات فيه المعسكر الآخر والمقصود به معسكر «اليسار الصهيوني» الذي يضم حزب العمل وكتلة ميرتس وبعض القوى الصغيرة الهامشية ضعيفاً ومهلهلاً، فيما يُقدر لكتلة الأحزاب العربية أن تبقى على حالها وفق أغلب التقديرات من حيث النتائج المتوقع أن تحرزها في الانتخابات القادمة. أما تجمع أحزاب الوسط «كاديما، المستقبل، وحزب ييش عاتيد/هناك مستقبل» فلا تزال بعيدة عن امتلاك الحضور القادر على تغيير قواعد التنافس، فهي فعلياً ليست منافساً حقيقياً لحزب الليكود أو لقوى اليمين الصهيوني، والتي تتوقع لها استطلاعات الرأي أن تحصد في أحسن الأحوال عشرين مقعداً في الكنيست.
وكان ثالثها أن نتانياهو ونتيجة خلافه مع شركائه داخل الإئتلاف الحكومي بشأن ميزانية العام 2013 فإنه يرغب في العبور نحو العملية الانتخابية كطريق مناسب لتمرير الميزانية والمصادقة عليها، وهو ماسيخفف من الإجراءات التقشفية الحادة التي يريدها الآخرون، والتي يرى فيها نتانياهو ذات نتائج سلبية على الشرائح الطبقية الوسطى والفقيرة، مما قد يؤدي إلى تجدد الاحتجاجات الاجتماعية في الدولة العبرية الصهيونية في وجهه قبل غيره.
وخلاصة القول، من المرجح أن نشهد ولادة حكومة «إسرائيلية» جديدة بعد حين، بذات اللبوس والأيديولوجية اليمينية المتطرفة ولكن بشكل أقوى مما قبل خاصة فيما يتعلق بالملفات الأمنية. فالدولة العبرية الصهيونية مقبلة على انتخابات تشريعية في مجتمع بات ينحو أكثر فأكثر نحو سياسات التطرف، مجتمع مليء بمعادلات صعبة ومعقدة «إثنياً وقومياً» حيث انتماء اليهود في أصولهم لعشرات القوميات، ومع ذلك يتوقع فيها لقوى اليمين اكتساح مقاعد الكنيست الـ «120» بغالبية مُرجحة ومريحة، فيما الطلاسم ستزداد تعقيداً أمام
عملية التسوية. فالنتائج ستحسم وفق التقديرات المدروسة لمصلحة ائتلاف اليمين القومي العقائدي والتوراتي الديني، وذلك بقيادة نتانياهو، فغالبية «الإسرائيليين» يرون بأن اليمين لديه القدرة على ردع التهديدات الأمنية التي تؤثر على وجود «إسرائيل»، كما أن نتانياهو سوف تكون لديه القدرة على تشكيل حكومة ذات أغلبية مريحة.
علي بدوان
صحيفة الوطن القطرية
الأربعاء 24/10/2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت