الصديق العزيز سامي أبو ركبة إلى الأربعين ويكوينا الأنين

بقلم: شفيق التلولي


دقت عقارب الساعة إيذانا بالتاسعة من صبيحة التاسع والعشرون من سبتمر للعام ألفين وإثني عشر حسب التقويم الميلادي وبحسب التوقيت المحلي لمدينة القاهرة ، و
على إيقاعها خفق قلبي ، وبينما تقترب قدماي من مطار القاهرة لينفث في أذناي ضجيج الطائرات صعودا وهبوطا وجيئة وذهابا ، وقد اكتظت ردهات المطار بالمارة من المسافرين ، ومابين نفيث الطائرات ودقات عقارب الساعة ، وعلى وقع خفقان قلبي ، شدني رنين هاتفي وهو يقرع ، إستللته من خاصرتي بسرعة ، فإذا بصديقي مروان قاسم والذي أمضيت ليلتي معه وأنا في طريقي من غزة مرورا بالقاهرة ولوجا للشام الحبيبة ، وبصحبة أصدقائنا ممدوح جبر ونعيم الجمل وولاء محسن في سهرة جميلة تخللها حديث الشجون عبر استجلاب الماضي الجميل واستشراف المستقبل المأمول ، فلقد فجعني حين أخبرني بوفاة الصديق سامي أبو ركبة ، غير أنني مضيت في إنجاز إجراءات سفري وما إن فرغت وجلست أنتظر موعد إقلاع طائرتي المتجهة إلى دمشق حتى عدت لأستحضر هذا النبأ السيئ الذي فاجأني به صديقي مروان بل وهزني كثيرا ، فأومأت برأسي وتذكرت نبرة خطباؤنا وأئمتنا من على منابر المساجد كلما اعترضوا الموت قالوا : إن هذه الدنيا وبمن فيها لا تساوي عند الله جناح بعوضة ، ولكن سامي وغيره من كوكبة أصدقائي الذين مضوا يساوون عندي الكثير الكثير ، وأعود وأفتح جفناي بعد أن أهيم في ملكوت الله لأهمس بيني وبين خلدات نفسي : لكن سامي وأصدقاء كثر ذهبوا بلا رجعة وباتوا تحت التراب ، ثم يقاطع لحظات صمتي الرهيب صوت المنادي : على جميع المسافرين المتجهين إلى دمشق التوجه للبوابة الثالثة إستعدادا للإقلاع ، فأضم وأحزم ما تبقى من الأمتعة الخاصة بي متجها إلى مدرج إقلاع الطائرة ، فما إن امتطيت ظهر الطائرة وقبل أن تقلع ، عدت لأحلق في فضاء ذكرياتي مع صديقي سامي أبو ركبة ، فأقلعت بذاكرتي قبل أن تقلع الطائرة وما عاد يهمني إرشادات السلامة المقيتة التى يتلوها طاقم الطائرة قبل انطلاق رحلات الطيران ، فما عادت تعنيني تلك الإرشادات ولا السلامة في هذه اللحظات الحزينة ، وقد غاب عني الأصدقاء ولحق بهم اليوم سامي ، ثم أنني غبت محلقا في صحبة الأرواح التي تهيم حولي ، واستغرقت عميقا حتى أبحرت الطائرة إلى أعنان السماء ، وعلت فوق السحاب أميالا وأميالا وأخذت تقطع زرقة البحر الممتدة من فلسطين إلى الشام حين تلاشت الغيوم المتلبدة ما بين الحدود ، وهمت على وجهي وكأنني على رأسي الطير ، وأنا أمطر في واحة وجداني باقة من الذكريات الجميلة التى جمعتني مع الصديق سامي أبو ركبة سيما ما أنشدناه سويا من أمل وعمل وحب وإخلاص في حضرة العمل الطلابي الذي سبر فينا أغوارا من مرحلة تاريخية كانت رائعة حينما جاست أقدامه ديار الشبيبة فكان خير قائدا متفانيا وفاءا لفكره الحركي والوطني ، وما فارقني ابتسامته البريئة التى كانت دوما تمنحنا متسعا من الأمل في غد كان يراوده جماله دوما بتفائله الذي لا ينضب وصبره المنقطع النظير وهدوءه الراقي ، وداعبني دماثة خلقه التى تمتد من أصالة عبق بلادنا التى تركها أجدادنا عنوة ، وكان ظني في هذه اللحظات بأن جثمان سامي يسجى في حضرة الأهل والأصدقاء فيحظون بنظرة الوداع الأخيرة ، أما أنا فلقد كنت أركض في فضاء فسيح وعيناي تحملقان في ذاك الأفق الممتد فوق روابي الشام وفلسطين لعلى أقارع بالذكريات هذا الجسد المترنح على ثرى الأرض المقدسة ، وإذ يسري في مخيلتي مراسم الجنازة المفترضة لفقيدنا الغالي سامي أبو ركبة والتى يحفها الأهل والأصدقاء بما يليق بقامته السامقة ، ليتخللني بعض الإهتزازت في الطائرة وصوت الطيار يلفت انتباهنا بأنه لا داعي للقلق وأن هناك بعض المطبات الهوائية تؤدي إلى تلك الإهتزازات ، فقطع على استشعار هذه اللوحة الجميلة التى ترتسم بشفاه سامي وثغره البسام ، في عرس مهيب يزف إليه سامي اليوم ، ولكن هذه المقاطعة لن تثنيني عن المشاركة الوجدانية في هذا الحفل التى تعصف به ذكرياتي من كل صوب وحدب ، ولكنني وفي إستفاقة سريعة من حالة الغياب عن الوعي والتى اكتنفتني طوال هذه الرحلة سنحت لي فرصة مناجاة الصديق سامي فتمتمت بشفتاي التى خيم عليها الجفاف في غفلة من الزمن الذي مكثت فيه وأنا في حالة من الغثيان ما بين الذاكرة والمكان الذي تمخر عبابه هذه الرحلة في أعالي الفضاء الشاسع هناك في عل ، وتحركت دموعي من مآقيها وقلت : إلى أين أنت ذاهب ياسامي وإلى من تركتنا سريعا كلمح البرق ، وقد استحضرتني قهوة الصباح التى غادرها مبكرا دونما أن تنفث رائحتها في جيوب أنفه وبقي لنا فنجال القهوة على المنضدة وقد بدا حزينا ، لماذا مررت بنا كسحابة صيف أمطرت علينا وابلا من الخير الوفير ومضت ، وأنى لك أن تهجرنا دون دخان سيجارة تعج في ردحات الأمكنة فتمنحنا حركاتها اللولبية عقدا من الياسمين ، أيا سامي هل لك أن تؤنسنا في رقدتك الأبدية ، أم أنها سنن الحياة السرمدية ، غب عنا ما شئت في الورى ، ولقح من عظامك الثرى ، وابقى لنا بريقا من بسمتك لتبرأ منها جراحنا وطيفا من نسيم في حضرة الغياب يلفحنا فينقطع عويلنا ويسكن نحيبنا ، فلا يفارق ذاكرتنا محياك وثغرك البسام ، فيعود صوت الطيار يقاطعني مرة أخرى معلنا بأنه لحظات وسنهبط في مطار دمشق الدولي ، لأستودع الصديق العزيز سامي أبو ركبة وأزفه في عناية الله وحضرة ملائكته ، ومع هبوط طائرتي كنت ألامس الغار والآسي الشامي وأنثره في جنبات الشام وفاءا لروحه الطاهرة وألملم بعضا من الزنبق والجوري والرياحين والياسمين الشامية فأجمعها لأهديها إليه ترحما وغفرانا حتى يبعث حيا وسأمضي أحتسي قهوتي على وقع الفيروزيات الملاح لأذكرك عند كل صباح ، فيما ووري سامي هناك الثرى في مسقط رأسه وبقي لي هنا حنين الذكريات وباقة من الزهور الجميلة التى تكلل روحه الخالدة فينا وحفنة من تراب غزي جلبتها معي في سفري وترحالي أقتفي منها أثره الطيب ، وهانحن نقترب من ذكراه الأربعين وما زال يكوينا الأنين ، وعلى فراقه لمحزونين .

فإلى رحمة الله يا صديقي العزيز أبو ياسر وحتى نلتقي لك السلام ومنك السلام وعليك السلام .

دمشق في /
2/11/2012

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت