وإنفضت طقوس إحياء الذكرى الثامنة لرحيل الشهيد القائد الرمز ياسر عرفات ، وما واكبها من فعاليات تخللها العديد من المهرجان والإحتفالات وشعارات وخطابات حملت المديح والرثاء وعددت مناقب الراحل الكبير وفي مقدمتها قيام الرئيس محمود عباس كما المعتاد بتدشين انطلاق هذه الفعاليات عبر مراسم زيارة ضريح شهيد فلسطين الكبير ووضع إكليلا من الغار والزهور على
هذا الصرح العظيم مشفوعا بلحن الرجوع الأخير وإيذانا ببدء إحياة هذه الذكرى الخالدة .
ومن ثم ألقى الرئيس محمود عباس خطابا هاما احتفاءا بهذه الذكرى العزيزة ، وحمل في ثناياه قضايا سياسية هامة جدا وفي مقدمتها قرار منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية القاضي بالتوجه إلى الأمم المتحدة لطلب عضوية للدولة الفلسطينية المستقلة بصفة مراقب خلال شهر نوفمبر الحالي في هذه المنظمة الدولية كما جاء على لسانه ، وكذلك موافقتها على نبش قبر الشهيد الرئيس ياسر عرفات ، واستخراج رفاته للتأكد من وجود مادة البولونيوم السامة فيه والتى أدت إلى وفاته ، وكانت قد أثارت قناة الجزيرة هذه القضية قبل أشهر من خلال سبقها الإعلامي الذي نالته حينما تسلمت مقتنيات الشهيد الرئيس ياسر عرفات الخاصة به عبر أرملته السيدة سهى عرفات ، والتي قامت بدورها بتسليمها إلى أحد المختبرات السويسرية من أجل فحصها ليستدل منها على آثار مادة البولونيوم السامة فيها مما أحاط هذا الموضوع ضجة إعلامية وسياسية كبيرتين ولاقت رواجا صارخا ، مما دفع السيدة سهى عرفات إلى رفع قضية تطالب فيها السلطة الفلسطينية بإستخراج رفات زوجها من قبره حينما أخبرت من هذه المختبرات بضرورة فحص رفاته بهدف التأكد من أن مادة البولونيوم موجودة فيه وبالتالي قتل بواسطتها .
ولعل اللافت لخطاب الرئيس محمود عباس الآنف الذكر وبما يخص ما ذكرناه عاليا حول مادة البولونيوم موضوع الحديث بأنه وبعد موافقة السلطة الفلسطينية على طلب استخراج رفات الشهيد الرئيس ياسر عرفات قد أصدر تعليماته للبدء بتنفيذ القرار ونبش قبره واستخراج رفاته الراقد في مثواه برام الله .
ولقد كنت كأبناء شعبنا الفلسطيني والذين يعشقون القائد الرمز ياسر عرفات ويتوقون إلى الكشف عن ملابسات اغتياله والكشف عن الأيادي التى ساعدت الإحتلال الإسرائيلي على إزالته عن الحياة وبالتالي تغييبه عن المشهد السياسي ، غير أنني وما إن شاهدت عبر شاشات التلفاز والفضائيات المختلفة السواتر الذي ضربت حول الضريح حيث يرقد الشهيد الرئيس ياسر عرفات ، استعدادا لإستخراج رفاته وتسليمه لذوي الشأن والإختصاص ، إذ جاء ذلك عقب ما أن انتهى من خطابه الرئيس محمود عباس ، مما أحدث لي ردة فعل عكسية لما كنت أحمل من آراء خاصة بهذا الموضوع الخطير والهام جدا ، وظني بأن هناك غالبية من أبناء شعبنا الفلسطيني قد ألم بهم نفس هذا الشعور وفي مقدمتهم عائلته المناضلة ، لما مس مشاعرهم هذا الأمر .
وعلى الرغم من أن حساسية هذه القضية وما أحاطها من جدل كبير تهم شعبنا الفلسطيني عامة على اعتبار أنها ترتبط بقائده الوطني الكبير ورمز ثورته وعزته التي أوجدته على الخريطة السياسية ، إلا أنها تمس بالدرجة الأولى عائلته المناضلة والعريقة بحكم صلة الدم والقرابة العضوية والروحانية ، فهذه العائلة العزيزة علينا والقديرة كان قد نفخ في روحها القائد الرمز ياسر عرفات كما نفخ في روح شعبنا الفلسطيني بل وبصم فيهم بصمة تاريخية لا تنضب ونقش لهم ذاكرة لا تغيب وخلودا لا يبرى ، فحري بنا أن نفي لعائلة القدوة التى زخرت بالمناضلين وعلى رأسهم هذا القائد التاريخي الملهم الشهيد ياسر عرفات .
وفي ذات السياق وعلى سبيل الدلالات وليس تيمنا بأحد بقدر ما هو الرأي والتحليل والإستناد إلى وقائع ما يجري بهذا الأمر فإنه يستحضرنا خطاب السيد ناصر القدوة رئيس مؤسسة الشهيد ياسر عرفات خلال إحياء المؤسسة لذكرى استشهاده والذي أقيم في رام الله ، وكذلك فإنه من حمل ملف الشهيد ياسر عرفات من مشفى بيرسي في باريس وعاد به وجثمانه إلى أرض الوطن ، ليسجى هناك وليوارى الثرى إلى مثواه الأخير في رام الله تاركا وصية دفنه في القدس ، والتي بدورها مانعته حكومة الإحتلال الإسرائيلي ، وحيث أن السيد ناصر القدوة في كلمته بهذه المناسبة أفاد بأن العلماء المخبريون قد أبلغوهم بأن مضي ثمانية سنوات على مادة البولونيوم في رفاته يزيل أثرها ويفسد معالمها ، فما الفائدة إذن من هذا الإجراء ونبش قبره ونكئ الجراح ، فيما يحضرنا هنا أيضا الصرخة المدوية والتي أطلقتها من غزة شقيقة الشهيد خديجة عرفات حينما قالت لا تمسوا قبر عرفات ، وبإمكان السلطة افلسطينية أن تستدل على حيثيات اغتياله من خلال وسائل أخرى ، وعلى الرغم من أنها والسيد ناصر القدوة وآل القدة متفقون على أن القرار يعود للسلطة الفلسطينية على اعتبار أن الزعيم الراحل ياسر عرفات هو ملكا للشعب الفلسطيني وأكبر من أن يختزل في عائلة بعينها وهذا ما أكدته في تصريح لها لقناة الجزيرة ، إلا أنه لزاما علينا مراعاة وتقدير مشاعر هذه العائلة الفاضلة وكذلك سائر شعبنا الفلسطيني الذي ربما يستثيره هذا الإجراء أيضا .
على أي حال وبالعودة لتصريحات السيد ناصر القدوة من خلال كلمته التي أشرنا إليها سابقا ، ظني بأن عملية النبش واستخراج الجثمان لم تفضي لوجود مادة البولونيوم فيه بحسب ما جاء على لسانه استنادا لما أبلغوهم به الخبراء وقد جاء ذلك في السرد سابقا ، وبالتالي سيعود هذا الملف للأدراج مرة أخرى ، فأليس من الغريب على قناة الجزيرة أن تطل علينا من خلال هذا السبق الإعلامي الصارخ بعد مضي ثماني سنوات من عمر رحيل الشهيد الرئيس ياسر عرفات ، وأن تحدث ما أحدثته من ضجة إعلامية كبيرة حول هذا الأمر ، أو ليس يتماهى مع ما قاله الخبراء المخبريين بأنه بعد مضي ثماني سنوات يزول مفعول مادة البولونيوم حسب ما قال السيد ناصر القدوة ، فهي بكل تأكيد تحمل في طياتها مآرب أخرى ووراء الأكمة ما وراءها ، دونما الخوض في تحليلات وتفاصيل هذه السياسة الإعلامية الموجهة ، ومع محبتنا وتقديرنا لآل القدوة الكرام وخاصة أرملة الشهيد الرئيس السيدة سهى عرفات وإبنته الكريمة والعزيزة ، فإن الراحل الكبير هو رب العائلة الفلسطينية كافة بل وأباها الروحي أيضا ، وتعتبر مكانته أقدس من مجمل السجال الدائر حول هذه القضية ، فلابد أن نحافظ على هذه المكانة والقدسية الرفيعة والخالدة ، وأن لاندنس ثراه الطاهر ونقض مضجعه ونوجع مرقده وخصوصا إذا صدق قول الخبراء المعنيون وانتهت هذه العملية دون جدوى أو نتيجة .
أما وقد دقت الساعة إيذانا بإحياء ذكرى الإستقلال والتي تأتي بالتوازي مع قرع طبول الحرب على غزة أيضا ، والذي أعلن خلاله الرئيس الراحل ياسر عرفات في ثمانينيات القرن الماضي قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس ، حينما اعتلى منبر قصر الصنوبر في الجزائر الشقيقة وتلى وثيقة الإستقلال التى صاغها الراحل شاعرنا الكبير محمود درويش من روح شعبنا الفلسطيني المرابط ، فكان حدثا فارقا ومنعطفا هاما في حياة وتاريخ الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة ، وعليه فالأجدى بنا أن نحتفي بهذه المناسبة العظيمة والتى تتزامن مع ذكرى استشهاد القائد الرمز ياسر عرفات على وقع مراسم نقل رفاته إلى القدس ليوارى ثراه الطيب بجوار الصديقين والأنبياء وكما أحب وأوصى ، لا أن ندق طبول النبش المقيت في ذكرى سيد الإستقلال وملك عرش قصر الصنوبر الذي نثر من على منبره باقة ياسمين ستظل تنثر أريجها وعبقها على أرض فلسطين .
وعلى السلطة الفلسطينية أن لاتقع في فخ المكائد الإعلامية وتحت ابتزاز الجزيرة وغيرها ، الذين يتربصون بنا وبها من خلال المتاجرة الإعلامية بهذا الملف ، وعليها أن تمضي قدما في التحقيق بهذه القضية وأظنها فعلت ، كما جاء على لسان السيد توفيق الطيراوي رئيس لجنة التحقيق في اغتيال الرئيس ياسر عرفات من خلال تصريحه الأخير حول هذه القضية والتي أعلن فيه بأنه سيجري نبش القبر خلال الأيام القليلة القادمة ، غير أنه أردف قائلا بأن التحقيق لن يتوقف يوما أو ينقطع وإنما تبذل كل الجهود المضنية ولوجا للحقيقة الكاملة حول هذه القضية ، وبرأيى فعلى اللجنة المختصة أن تسير وفقا لما كانت ترتأيه من خطوات واجراءات ، وبدون أن تخضع لإبتزاز الجزيرة وغيرها ، ويتأتى ذلك عبر إغلاق كافة الثغرات التي يتسلل منها المتربصون ، حتى لا تحول هذه الفضائيات المغرضة هذا الملف إلى مهرجانات موسمية ، ولا نجني إلا حصاد الهشيم .
فكفانا ما نحن فيه وكفانا إيلاما لمرقد الشهيد الحي ياسر عرفات ، كفى لشعبنا في غزة والذي يتقلب على جمر نارين ، وقرع طبول الحرب وحمئتها تزداد عليهم يوما بعد يوم ، وكفى لشعبنا في الضفة الغربية والقدس ما هم فيه من غول الإستيطان والتهويد وغيره ، وما يتعرض له وسلطته الفلسطينية من ضغوطات اقتصادية كبيرة لثنيهم عن التوجه للأمم المتحدة لنيل عضوية دولة فلسطين كمراقب في هذه المنظمة الدولية ، في حين يواجه هذا الطلب عراقيل جمى من خلال مواجهة الولايات الأمريكية المتحدة وحلفاءها من دولة الإحتلال الإسرائيلي وغيرها ممن والاهم ، مما سيؤثر على الشعب الفلسطيني كافة سيما وأن منظمة التحرير الفلسطينية والتي ستتقدم بهذا الطلب هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني ، وكفى لشعبنا الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة ما يتربص به حكومات تل أبيب المتعاقبة عبر سياساتها الرامية لإقامة دولة يهودية هناك ، وكفى لشعبنا الفلسطيني ما يتعرض له في مخيمات اللجوء والشتات من قهر وعذابات وهم يحلمون بالعودة وتقرير المصير ، وما زالت معاناتهم تزداد تحت تأثير ما أحدثته الثورات العربية ،
وكفانا فرقة وانقساما كفانا ، وكذلك فإن مجمل هذه المعانايات في داخل فلسطين المحتلة وفي الضفة الغربية والقدس وغزة وفي الشتات والمنافي تصب في ذات الإناء بل وأنها مرتبطة بعضها ببعض ولا انفصام فيها كما جسدته وثيقة الإستقلال والذي نحيى ذكراه اليوم .
وفي هذا السياق أود أن أشير إلى أهمية الحراك الشبابي والذي يجري في الضفة الغربية عبر أسبوع الشباب الفلسطيني والذي يأتي إحياءا لذكرى الراحل الكبير الشهيد ياسر عرفات وذكرى اعلان الإستقلال أيضا مشفوعا بالمقاومة الشعبية السلمية والتي تجلت اليوم وهم يقارعون جيش الإحتلال الإسرائيلي وقطعان مستوطنيه ، وهذا وبكل تأكيد يدحض ما أشيع حول تخلي الرئيس محمود عباس عن حق العودة والمقاومة الشعبية السلمية من خلال المقابلة التلفزيونية التي أجرتها معه القناة الإسرائيلية العاشرة ، والذي أسيئ تداوله على المستويين الإعلامي والشعبي ، وكذلك فإنه يعطي منظمة التحرير الفلسطينية وسلطتها الوطنية دعما كبيرا في مواجهة استحقاق طلب عضوية دولة فلسطين بصفة مراقب في الأمم المتحدة ، آملا بأن يستثمر هذا الحراك بمنتهى الدقة والموضوعية وأن يؤتي أكله وأظنه سيصار إلى تحقيق ذلك من قبل السلطة الفلسطينية ، وأن لايكون تكتيكيا ووصفة آنية وأعتقد بأنه ليس كذلك ، كما وأن ما يجري الآن في قطاع غزة من تصعيد وحرب همجية على شعبنا هناك يستدعي من كافة الأطراف الشروع فورا لمصالحة حقيقة تفضي إلى الوحدة الوطنية لمقارعة هذا العدوان البغيض على شعبنا الفلسطيني هناك والذي سئم سياسة الكر والفر والهدن والعبث بمستقبله وغيره من السياسات المتبعة والتي بات يدفع من حياته ثمنها .
وأخيرا علينا أن نعود إلى حالة الوعي الذي خطت حروفه وثيقة الإستقلال ، والتي صيغت من عمق انضالات شعبنا الفلسطيني وأصالته ، قلنحفظ هذه العهدة ولتكن رهان المستقبل ، ولتكن وثيقة الشرف التى تجمعنا ، بل والشاهد والشهيد ، حتى تنتصب هذه الوثيقة على شاهد ضريح الشهيد القائد الرمز ياسر عرفات وقد طرنا برفاته نزفه إلى القدس وقد سجى على وقع مراسم لحن الرجوع الأخير بعزف آخر وطبول أخرى ومزامير كمزمار داوود ليخلد في راحته الأبدية ، حينما يوارى الثرى هناك حيث مثواه الأخير الذي أحب وأوصى .
فلا تعبثوا بالرفات في ذكرى الصنوبر
دمشق في /
15/11/2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت