أربعة أيام مضت على العدوان الإسرائيلي على غزة تخللها سياسة شد الحبال وعض الأصابع ، والتي لربما في طريقه الآن يضع أوزاره ، فيما بين طرفي القتال أي حكومة الإحتلال الإسرائيلي وحركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينة الباسلة ، ومن خلفهم ذوي العباءات السوداء من عرابي العرب العاربة والمستعربة والذين يسعون بكل قوة للتوصل لوقف فوري لهذه المعركة وعقد هدنة طويلة المدى ، وظننا بأنها ملحمة الإنتصار التي إنتظرناها طويلا أملا في الإنعتاق والخلاص وإسدال الستار على هذا الإحتلال والّذي يجثم على صدورنا منذ عقود طويلة من الزمن والذي لا يتأتى إلا من خلال وحدانية القرار الفلسطيني المستقل في مواجهة الإحتلال وانتزاع حقوقنا المشروعة في الحرية والإستقلال ، ولكن يبدو بأن حالة الوهن والإنقسام التي تكتنف صفنا الفلسطيني قد تحول دون تحقيق ذلك .
إذ أننا وعلى ما يبدو لم يتسنى لنا أن يبقى قرارنا الوطني الفلسطيني مستقلا منذ أن انطلقت ثورتنا الفلسطينية المعاصرة ، وحتى هذه اللحظة بل وتصر محاورنا الإقليمة بأن تستأثر هذا القرار وفقا لحساباتها ومصالحها الخاصة وارتباطاتها الدولية على كافة الصعد والمستويات ، ويذكر الجميع ما تعرض له الرئيس الراحل ( ياسر عرفات ) من محاولات كبيرة لإستحواذ القرارالوطني الفلسطيني في جيوب الأنظمة العربية ، غير أنه ناضل بشراسة حتى يظل هذا القرار مستقلا ، وإن كان قد غازل مرارا هذه الأنظمة في إطار التكتيك ، إلا أنه ظل ممسكا بالثوابت الإستراتيجية ، أما وأننا كنا ندرك خلفيات وأبعاد هذا العدوان والسجال الدائر الذي أحاط به وخصوصا من قبل الإحتلال الإسرائيلي والذي لربما أربكت حساباته ما تمتلك المقاومة الفلسطينية من وسائل قتالية أو لعل هناك ما تخطط وتحيك له قد يلوح في الأفق فيما بعد ، ولكن استنادا لما يجري من معطيات وحراكا سياسيا في إطار التحركات العربية والإقليمية والدولية نستطيع القول بأن هذا العدوان حمل في طياته سمات الحرب الباردة عسكريا والحامية الوطيس إعلاميا مع عدم استخفافنا بدمنا الفلسطيني العزيز أي كان حجمه / ولا الفت من عضد إرادة وعزيمة ومعنويات شعبنا وحالة صموده الذي بثته المقاومة في روحه وأعادته إلى مكانته الطبيعية بل على العكس إنما يجب أن يدفعنا لأن تظل جذوة نضالنا ومقاومتنا متقدة .
فلقد رأينا اختلافا كبيرا ما بين الحرب التى شنها الإحتلال الإسرائيلي على غزة في أواخر عام 2008 في مستوى شراستها وضحاياها منذ الساعات الأولى وما بين ارهاصات هذا العدوان الحالي ، ولعله يترجم ذلك سياسة الإحتلال الإسرائيلي في قصف الأماكن الخالية واختبار القدرات وهز معنويات شعبنا الفلسطيني ومقاومته الباسلة مع أنها عمدت إلى ضرب الأماكن الخالية إبان الحرب الأولى مع فارق أنه كان يرافقه قصفا عنيفا ينال من الحجر والشجر والبشر في حينه ، وهذا يدلل بأن العدوان الإسرائيلي عدوانا تكتيكيا يهدف إلى قضايا عدة منها إشغالنا بعيدا عن استحقاق إعلان الدولة الفلسطينية من جهة ورفع رصيد حكام تل أبيب في الشارع الإسرائيلي لحسابات إنتخاباتهم القادمة ، وكذلك اختبار نوايا مصر الجديدة بقيادة الإخوان المسلمين من جهة أخرى ، وكما أننا نعي تماما بأن حكومة الإحتلال الإسرائيلي غير مهيئة للحرب حاليا على الرغم مما تكشف لها من امكانيات قتالية طالت عمق دولتهم لكنها كما قلنا دائما في مقالات سابقة ، فهي تبحث في المقام الأول عن تحقيق نتائج سياسية تضمن لها أمنها من جهة وتوسيع مشروعها الإستيطاني وصولا للدولة اليهودية المزعومة والإلتفاف على الحق الفلسطيني التاريخي في اقامة دولة فلسطينية مستقلة ولكن يبدو بأنه خانتها حساباتها وذاكرتها هذه المرة بفعل ما فاجأها به ضربات المقاومة الباسلة في غزة ، كما وأن مصر التي تدخلت بقوة للجم هذا العدوان الذي يعتبر جزءا منه رسالة اختبار لقيادتها الجديدة كما حملت إليها نفس الرسالة خلال الحرب السابقة على غزة عام 2008 ، فهي غير مؤهلة للدخول في حرب أو أي معركة مع دولة الإحتلال الإسرائيلي بل تسعى لترتيب أوراقها مع البيت الأبيض الأمريكي وتعزيز سياستها الخارجية بما يضمن تحسين الإقتصاد المصري وذلك حفاظا على ما حققته حركة الإخوان المسلمين من مكتسبات مكنتها من قيادة مصر بعد ثورة 25 يوليو والتي أطاحت بنظام حسني مبارك ، في حين أن قطر العرابة والمستعربة فهي كما يعرف الجميع تمضي بما يخدم سياسة الغرب واستحواذ واختزال الوطن العربي في إطارها بل وضرب المشروع الوحدوي العربي وظني بأن الزيارة الأخير لأميرها لغزة لها ما لها وعليها ما عليها من دلالات قد ترتبط بما يجري من سيناريوهات حالية ، ناهيك عن أنها هي بأمس الحاجة لإنهاء معركة غزة سريعا جدا حتى لا تأتي على حساب الملف السوري وما يجري في ثناياه وتفاصيله من ترتيبات تهدف خلاله قطر لأن تأخذ دور الريادة والسبق فيه كما فعلت من ذي قبل مع ليبيا إبان ثورتها والتي أطاحت بنظام القذافي آنذاك ، فهذا العدوان على غزة إذا ما تحول لحرب فهو حكما إما سيكون في صالح النظام وإما المعارضة هناك دونما الخوض في التفاصيل فلا يتسع المقال ولا يسمح المقام في هذه العجالة للإستطراد وسرد هذه التفاصيل ، فقطر لها ما تخطط له فيما يخص الشأن السوري ، وبالتالي تقتضي مصلحتها إجهاض المعركة في غزة بأقصى ما يمكن من سرعة وبأي ثمن ، ناهيك عن أن كل من البيت الأبيض والكنيست يشغلهما أوضاعهما الداخلية من جهة وسياستهم الخارجية إزاء ما أحدثه الربيع العربي ، وكذلك فإن حركة حماس تتبنى وجهة نظر ومشروعا سياسيا آخرا يختلف عن مشروع منظمة التحرير الفلسطينية وسلطتها الوطنية ، وربما في مقدمة هذا المشروع هو رفع الحصار عن غزة وفتح المعابر ، وهذا حقا مشروعا ولكن الأخطر أن تبتعد حماس عن المشروع الوطني وخصوصا استحقاق الدولة الفلسطينية ، وما يشاع عن نيتها عقد هدنة طويلة ، وحدود مؤقتة وخلافه ، وهذا ما يروق لحكومة الإحتلال الإسرائيلي ويقوض المشروع الوطني برمته ويعزز ويكرس حالة الإنقسام بأبعاد كبيرة جدا.
إن جميع الدلالات والمؤشرات والمساعي حتى هذه اللحظة تبرهن على أن هناك تهدئة تلوح في الأفق وربما هدنة طويلة جدا مع العلم بأن حكومة تل أبيب ترفض حتى الآن هذا العرض وكل يحاول أن يفرض قوته وشروطه ، ولكن ماذا بعد ، وأما وإن حصل وصار إلى ذلك فقد تكون ضربة مؤلمة للشعب الفلسطيني الذي أخذته نشوة المعركة بعزها وفخارها لما حققته المقاومة الباسلة من ضربات أوجعت عمق دولة الإحتلال الإسرائيلي ، وكذلك سيستمر مصادرة قرارنا الوطني الفلسطيني في الأدراج العربية والإقليمية والدولية ، وبالتالي على شعبنا الفلسطيني أن يأخذ زمام المبادرة والقرار لما يرتأيه مناسبا بالوحدة والمقاومة ودق طبول ربيعه الفلسطيني ، ويبقى الجواب لما قد تحمله الأيام القادمة والتي نتمنى أن تخالف توجساتنا وهواجسنا وتحليلاتنا .
دمشق في /
18/11/2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت