لم تضع الحرب أوزارها لحظةً في فلسطين، منذ ما قبل عام إعلان النكبة وحتى الآن، فهي أي الحرب تهدف إلى الهيمنة والاحتلال والإبادة، وهي عناوين يمكن تحقيقها بوسائله الناعمة، فمصادرة أراضي هو إجراء معادل للحرب، وتجريف الأراضي وهدم البيوت وبناء المستوطنات واعتقال الفلسطينيين ومطاردتهم ومنعهم من السفر وبناء الجدر ونصب الحواجز ومنع الصلاة وما دون ذلك كثير، ما هي الحرب إن لم تكن كلَّ هذا؟ لكنها الآن عالية الصوت هدفها كسر الإرادة ونزع الشوكة،
كيّ الوعي وإغلاق منافذ الحلم،
ذلك أن الهدف هو سرقة الأرض وإبادة السكان، ولأن الصراع هنا يلخص فكرة الصراع فقد كان يجب لكي يُشبَعَ المعنى أن يكون النفي نهائياً وكان يجب إبادة التاريخ، وهم يقصفونه بنفس شراسة القصف الفوسفوري ويحرقونه مع كتب التاريخ في عملية مركبة ومتشعبة تشعبَ لانهائية جزيئات الحرب والصراع الذي يتسع لما تتسع له كل مفردات الحياة،
في هذا السياق يكون للمدافع شأو آخر يستدعيها للتدخل عندما تعجز طرائق الحرب الناعمة ومساحيق أرديتها، وحينما يصل التحدّي مستوىً لا تجدي معه الجرافات وسلاح المستوطنين الخفيف، أو حين تصدأ أسلحة المفاوضات، فالعدوُّ حريصٌ عل استنزاف الضحية كلما انتعش قلبها وواصلت قصائدها وانتشت بطيف حلمٍ يداعب هدبها وحركت أسطول خيالها على نبض بوصلة هواها وتبعت خيط رؤاها وتجرأت على الغناء، تتحرك الجيوش وتحلق القاتلات لاستئناف جولة تطهيرٍ لجيلٍ من الأحلام، جيلٌ يرث جيلاً بلا عناء، تلك مهمتهم حتى انقراض جيل الغزاة،
لن تكون هذه الكلمات أمدوحة للصاعدين إلى حلمهم في قدّاس الجليل رغم اشتباك الغموض هناك ببهاء الحنين، لكن ماذا سيمنعنا من مواصلة الحلم وهو طوق النجاة وسليل الحياة ودرب الخلاص إلى جنّةٍ في الصلاة، وماذا يعيد انسجامَ القوام وحروف الكلام غيرُ أغنية في الممر ودالية على مفترق العمر والدار، وذكرى حبيب ووصية لمعت في عيون شهيد،
في العام الف وتسعمائة وستة وخمسين وفي شهر نيسان منه حين كان موشي دايان على خط الهدنة مع قطاع غزة وشاهد في الأفق مع بقية المستوطنين مئات آلاف اللاجئين يرنون إلى ما وراء الخط ويتشكلون، قال دايان للمستوطنين: "منذ ثماني سنين وهم جالسون في مخيمات اللجوء ويراقبون كيف أننا وأمام عيونهم نحوّل أراضيَهم وقراهم التي كانوا يقطنونها هم وآباؤهم، كيف نحوّلها إلى بيوتٍ لنا، كيف أغلقنا عيوننا ولم ننظر بجلاء إلى مصيرنا وندرك القدر الوحشيَّ القاتم لجيلنا؟، نحن جيلٌ من المستوطنين فوق أرضهم، وإنه بدون الخوذات الفولاذية وفوهات المدافع لن نكون قادرين على غرس شجرة أوبناء منزل، علينا ألا ننخدع بمظاهر الاشمئزاز البادية عليهم والتي تصبغ حياة مئات الآلاف من العرب الذين يعيشون حولنا، إنّ علينا ألا نغفل لحظةً عنهم لئلا تَوهن أسلحتُنا، إنها قضية مصير جيلنا، أنّ هذا هو خيار حياتنا، أن نكون مستعدين ومسلحين، قساةً وخشنين عنيدين وإلا انثلم السيفُ في قبضاتنا وقُضي علينا"،
ومنذ ذلك التاريخ لم تغفل دولة المستوطنين الغزاة عن الفلسطينيين ولم تبخل عليهم بلاحقتهم في كلّ معاني حياتهم، فمنحتهم لكل أطياف الدمار المادي والمعنوي والسياسي والاجتماعي، أصبحت النكبة أسلوب حياة وصيرورة متدحرجة، تطهيراً عرقياً بشع يحاول أحياناً الإفلات من التعريف القاموسي للفعل الذي يجرّمه القانون الدولي ويتجاوزه إلى أشكالٍ أخرى عرَّفها رفائيل لمكن بأنه ليس من الضروري أن يكون التدمير المباشر للأمة في الحال، بل من الأحرى أن يوصّف كخطة منسّقةً من إجراءات مختلفة تهدف في النهاية إلى سلخ المجموعات القومبة وتجريدها من منظوماتها السياسية والاجتماعية ومن ثقافتها ولغتها ومشاعرها الوطنية وعقيدتها ووجودها الاقتصادي، وتدمير الأمن الشخصي والحرية والصحة والكرامة بالإضافة إلى حياة الأشخاص الذين ينتمون لهذه المجموعات،
لا أظن أن شعباً تعرض لأبشع مما تعرض له الشعب الفلسطيني في مختلف جوانب التعريف التي شرحها رفائيل لمكن، ولا لكمية العسف التي مورست ضدّه في أتون محرقة الإبادة العرقية، في كل فضاءات وجوده، الفضاءات برسم السجون بدءاً من أوراقه الثبوتية الشخصية وأوراقه الثبوتية في منظمات الشرعة الدولية إلى فرص حياته وحقه في وطنه وتاريخه وطقوس حياته، بل إن التطهير العرقي يتسع ليشمل جغرافيته التي يغيرون ملامحها ورموزه الثقافية وتاريخه الذي ينكرونه عليه،
ولا أظن أنّ شعباً ذا ملامح وأصالة حضارية سيكون قابلاً للاندثار، والشعب الفلسطيني الذي كان منغرساً في ثقافة وحضارة الإنسان وحاضناً لحضارات ومولّداً لها، وهاضماً لموجات غزوٍ إمبراطورية ومتجاوزاً لها ومتعايشاً مع فصول التاريخ وهازئاً بها، لم يكن المستعمرون إلا عابرين أسفل سفحه، ولذا يضطرون إلى قصفه بآخر صيحات ومودات الدمار، ويُدخلون إلى منظوماتهم الهشة أحدث اختراعات القبة الحديدية ليدافعوا عن أنفسهم أمامه، يسخر منهم وهو في أضعف تجلياته المادية لآنه وهو مجرّدٌ من كلّ شيءٍ أقوى منهم، وهم الذي يتحسسون كامل وجودهم إذا رسم أو ابتسم، دايان عام ستة وخمسين أدرك مصيرَه الكامل، مصيرَه القادمَ وإن تباطأَ الزمن.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت
