قبل ست سنوات من الآن، نشرت مقالاً بعنوان ((هل تغير الإخوان أم تغيرت قواعد اللعبة)) (نشر في أكثر من صحيفة وموقع إليكتروني) وأثار هذا المقال الكثير من التساؤلات من قبل الأصدقاء، المؤيدين والمعارضين للخلاصات التي انتهى إليها المقال على حدٍ سواء، فهناك من استبعد تلك الخلاصات لاعتقاده أن الولايات المتحدة ضامنة لأنظمة الحكم العربية القائمة، ولا مصلحة لها بتغييرها أو استبدالها، خصوصاً أن البديل القائم أو القادم يتمثل في قوى إسلامية تناصب ((أمريكا وإسرائيل)) العداء، وتدعم المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق !!! وبالتالي ستبقى أمريكا ملتزمة بحماية الأنظمة القائمة والحليفة، والتي تحقق مصالحها الحيوية، ولا تتصادم مع سياساتها القائمة على الهيمنة والنفوذ، وضبط إيقاع القضية الفلسطينية على قاعدة اللا حلٍ يؤدي إلى تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه المشروعة، وفي مقدمتها حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وبالتالي إبقاء إسرائيل دولة فوق القانون الدولي والشرعية الدولية، دولة نووية، وذات مؤسسات نووية، غير خاضعة مفاعلاتها لرقابة المنظمة الدولية للطاقة الذرية !!!.
وهناك من رأى في الخلاصات التي وصل إليها المقال أنها خلاصات وجيهة، اعتمدت على استقراء دقيق، لجملة من المتغيرات العربية والدولية، تظهر أن الولايات المتحدة تسعى فعلا إلى إجراء عملية التغيير في العالم العربي، وتدرك أن القوى المؤهلة للتعاون معها، واعتلاء مراكز السلطة في البلاد العربية هي حركة الإخوان المسلمين، والتي جرى تدريبها وتجريبها وتأهيل كادراتها، كي تكون حصان الرهان الأمريكي الغربي، الفائز في عملية التغيير المزمع إجراؤها في العالم العربي، لقاء التزامها أولاً: بمواجهة الإسلام الجهادي (الإرهاب الإسلامي)، وثانياً: التزامها بالمحافظة على أمن إسرائيل، والالتزام بالاتفاقات الموقعة بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني، وثالثاً: المحافظة على العلاقة الاقتصادية القائمة بين الدول العربية ومراكز الرأسمالية العالمية، أي أن يجري استبدال العلاقة السابقة بالرأسمالية الليبرالية العربية مع دول المركز، بالرأسمالية الإسلامية العربية الجديدة، فيتم الإبقاء على جوهر النظام الاقتصادي المسيطر كما هو نظام رأسمالي، ولكن سيكون بنكهة إسلامية هذه المرة بدلاً من النكهة الليبرالية.
ومنذ ست سنوات خلت، كنت في زيارة لأحد الأصدقاء، وهو صحافي كبير، وصاحب قلم مرموق، ورؤية مستقبلية ثاقبة، ذو ثقافة إسلامية عروبية وطنية، وتعقيباً على المقال المشار إليه، طرح سؤاله المباشر، تخيل يا صديقي، ماذا لو حكم الإخوان المسلمون مصر ؟! وأردف مجيباً على تساؤله الإشكالي، دون أن ينتظر مني تعليقاً أو إجابة فقال: عندها لن نحتاج إلى الصهيونية أو إلى الاستعمار !!! لأن ما سيثيره حكمهم (حكم الإخوان) من فتن وتناقضات داخلية سيجعل الصهيونية والاستعمار في إجازة مريحة وممتعة وطويلة، قد تستغرق عقوداً أو قروناً، وستأتي لوحدها على الأخضر واليابس، وعلى كل أمل في نهوض امتنا وتحررها من الاستعمار ومن الصهيونية، وستصبح فلسطين حينها في نظرهم دولة يهودية !! وفق نظرتهم للصراع، وسيعتبرونها قضية مؤجلة، حتى القضاء الكامل على مؤسسات الدولة العربية، سواء منها الوطنية أو القومية، لاعتقادهم وايمانهم أنها هي العدو المتقدم للدين وللأمة، والعقبة أمام قيام ((الدولة الأممية الإسلامية)) (دولة الخلافة) والتي سيناط بها فقط إعلان الجهاد لتحرير فلسطين من اليهود الغاصبين، وهو الجهاد الذي سيعلنه الخليفة، وأما اليوم فالجهاد عندهم فرض عين يجب أن يقتصر وينصب نحو التمكين في السلطة وأن يتوجه إلى الداخل العربي المعيق لقيام دولة الخلافة وبالتالي المعيق لإعلان الجهاد الحق لتحرير فلسطين وبيت المقدس، وتحرير الأمة من الهيمنة الأجنبية !!! وها نحن اليوم وبعد مرور ست سنوات كاملة على نشر المقال المشار إليه وما أثاره من تساؤلات، وخصوصاً ماذا لو حكم الإخوان مصر ؟!!!
الوضع العربي اليوم لا يحتاج إلى توصيف أو تحليل فالفوضى تدب في أركانه، ولقد حصل التغيير بالفعل، ووصل الإخوان إلى مراكز السلطة في أكثر من دولة عربية وفي طريقهم للوصول في دول أخرى ومنشغلون في جهاد التمكين وفي الانقضاض على الداخل العربي، وهم اليوم في رأس السلطة في مصر منذ خمسة أشهر، وهاهي مصر تتخبط في ظل حكم الإخوان، وتقف على مفترق طرق، لأن مشكلة الإخوان لم تكن مع النظام السابق فقط وإنما هي أولا: مع أخونة شعب مصر، ثم مع أخونة الدولة المصرية العصرية الوطنية والقومية، فلابد من تفكيك كافة مفاصلها ومؤسساتها لأنها بنيت على يدِ النهضويين العلمانيين، وليس انتقاماً من نظام الحكم البائد، وإنما انتقاماً من الدولة المصرية العصرية ومؤسساتها المدنية، والعسكرية والقضائية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، فلابد من الإجهاز عليها، واستبدالها بمؤسسات إخوانية، وما عجز عنه النظام الفاسد في النيل من مؤسسات الدولة المدنية والعصرية، ستقوم به جماعة الإخوان وببراعه، وهذه المرة باسم الثورة، وباسم الشعب يريد، وباسم الدين، كي تصبح مصر كياناً إخوانياً هشاً، فاقد الوزن والتأثير وبلا مشروع مستقبلي أو قيمة حضارية، أو ثقافية أو روحية، قادرة على النهوض بمسؤلياتها الوطنية والقومية، والدولية، ويبقى الصراع فيها محتدماً على تحديد هوية مصر وأولوياتها، ومحاكمة كافة النقاط المضيئة في مسيرة تاريخ مصر الحديث من تأميم قناة السويس، وبناء السد العالي، والإصلاح الزراعي، وإصلاح التعليم، إلى روايات نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وخمسة شهور الآن من حكم الإخوان كانت كافية لتقديم كل هذه الدلالات الخطيرة، وليكشف كل ذي عقل وبصيرة ما يخطط لمصر وشعبها، حمى الله مصر وشعبها، وحمى الأمة العربية، لأن مصر قلب الأمة، فإذا كانت مصر بخير، كانت الأمة بخير، وإن تعطل فيها القلب، سكت الدماغ، وعندها يدخل العرب في غيبوبة حضارية كاملة، لا تحمد عقباها، وتصبح الفوضى التي خطط لها، هي سمة للعرب ولدولهم، تائهون فيما بينهم، يبحثون عن ذاتهم ولا يجدونها.
د. عبد الرحيم محمود جاموس
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
الرياض 06/12/2012م الموافق 22/01/1434هـ
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت