بالفعل، وكما تُجمع وسائل الإعلام "الإسرائيلية" وغالبية المتابعين للشأن الداخلي في اسرائيل، جاءت استقالة وزير الحرب ورئيس حزب المستقبل (هعتسمؤوت) الجنرال إيهود باراك من العمل السياسي كليًّا وبالتالي إحجامه عن ترشيح نفسه في الدورة التاسعة عشرة للانتخابات التشريعية القادمة، مفاجئةً للجميع، فقد كان الاعتقاد السائد بأن إيهود باراك ما زال يعيش عنفوان شبابه السياسي وحتى البيولوجي (عمره 76 سنة) حيث لا تبدو عليه علائم هذا العمر الذي قضاه في المؤسسة العسكرية والأمنية "الإسرائيلية" طولاً وعرضًا قبل أن يستقر به المطاف داخل مسرح اللعبة السياسية والحزبية "الإسرائيلية" منذ عقدين إلا قليلاً وتحديدًا منذ العام 1995.
ولكن الوقائع الغنية والزاخرة بتحولاتها في الحياة السياسية والحزبية "الإسرائيلية" الداخلية تدعونا لمغادرة وَقعِ المفاجأة مع استقالة إيهود باراك وتقاعده من سلم العمل السياسي. فقد عودتنا الحياة الحزبية "الإسرائيلية" على حدوث متغيرات دراماتيكية بشكل دائم في الفترات الزمنية التي تقترب فيها الانتخابات التشريعية لكل دورة انتخابية للكنيست، حيث بروز الاصطفافات والتشكيلات والانشقاقات وتفكك بعض الأحزاب واندماجها بعضها مع بعض، واختفاء الأحزاب الصغيرة، وانتقالات من حزب لآخر لقادة وجنرالات (يسميه البعض في إسرائيل بالسياحة السياسية)، فضلاً عن بروز حالات من الاستقالات السياسية لـ (عتاولة) ومن (زبدة المتطرفين) من سياسيين كان لهم أدوار فارقة في حياة "إسرائيل". هذا ما حصل مع صانع كامب ديفيد الأولى، اليميني القومي العقائدي الصهيوني حتى نخاع العظم مناحيم بيجن، الذي دخل في حالة اكتئاب نفسي، ما بعد فترة غزو لبنان وتداعياتها عام 1983 فقدمَ استقالته من رئاسة الوزراء في أغسطس 1983، وظل يصارع المرض حتى فارق الحياة في 1992، ليرحل إلى الصمت كما فعل من قبله ديفيد بن جوريون وجولدا مائير.
في هذا الجانب، وإن اختلف الدور التاريخي لإيهود باراك عن كل من الأدوار التاريخية لمناحيم بيجن، وبن جوريون وجولدا مائير، في مسار "إسرائيل"، باعتبار أن المذكورين هم من جيل مؤسسي هذا الكيان ومن الذين قادوا قبل العام 1948 مجموعات الهاجناه والبالماخ وغيرها، إلا أن باراك يحمل في جعبته الكثير من الشواهد التي رافقت "إسرائيل" خلال الأربعين عامًا الأخيرة من عمرها، فهو أول من جاء إلى لبنان عام 1973 بثياب امرأة لينفذ عملية تصفية لعدد من القيادات الفلسطينية في قلب عاصمة عربية هي بيروت، ومنذ ذاك التاريخ انبهرت به قيادته العسكرية فتقدم بسرعة إلى الصفوف الأمامية في الجيش "الإسرائيلي" وحزب العمل الذي كان منتميًا إليه تاريخيًّا وقد وصل لزعامته ثم انشق عنه مشكلاً مجموعة صغيرة لا حظوظ فعلية لها على المسرح السياسي والحزبي "الإسرائيلي" حتى بات في موقع الإفلاس السياسي والتنظيمي.
وبالطبع، من السذاجة القول بأن قرار باراك بالتقاعد السياسي جاء دون إرهاصات واعتمالات داخلية في ذاته، فالقرار على ما يبدو اختمر عنده مؤخرًا، ليفصح عنه باراك بإعلانه نيته عن اعتزال العمل السياسي كليًّا بعد تقاعده من وزارة الحرب، بالرغم من ما ذكره البعض قبل فترة قصيرة عن جهود كانت تبذل بينه وبين الزعيمة (الأسبق) لحزب كاديما (إلى الأمام) تسيبي ليفني للوصول إلى قائمة موحدة بينهما للنزول بها في الانتخابات التشريعية للكنيست والتي باتت قاب قوسين.
فالمعلومات تشير إلى أن باراك، استقال فعليًّا منذ زمن طويل، بعدما عاش تابعًا مهمشًا لرئيس الحكومة اليمينية بنيامين نتنياهو المعروف بسطوته وتفرده، ومنذ أن ترك حزب العمل (وهو الحزب المؤسس لاسرائيل) قبل ثلاثة أعوام تقريبًا، وفشله بتشكيل إطار أو تجمع حزبي يُعتد به، حيث أشارت عدة استطلاعات للرأي جرت مؤخرًا في "إسرائيل" إلى أن حظوظ حزبه المسمى بحزب المستقبل (حزب هعتسمؤوت) متواضعة جدًا، وقد لا يأتي بنسبة الحسم المطلوبة في الانتخابات القادمة وهو أمر سيقذف به نحو الهاوية في هزيمة سياسية لا قعر لها، وستكون مُنكره في سجله السياسي والعسكري بعد عمر مديد قضاه في خدمة السياسة والعسكر والأمن في "إسرائيل". وبالتالي فإنه مع انتهاء مفعوله بعد أن بات منتجًا فاقدًا للصلاحية في (دولة) تزخر بالعمل السياسي والحزبي، فأراد أن يخرج "محترمًا وبطلاً"، مفضلاً التغريد خارج السرب على ضوء تراجع نفوذه وفشل تجربته السياسية بعد خروجه من حزب العمل، وعجزه عن تشكيل كتلة حزبية جديدة، حملت اسم المستقبل، لذلك فضل على ما يبدو وكما فعل غيره من قادة الأحزاب وأذرع الأمن والعسكر من السابقين أن يتجه للعمل التجاري وحده دون غيره. هذا ما فعله قادة كبار من مترئسي الأحزاب في اسرائيل طوال العقود الماضية، مع استثناء حالة واحدة تقريبًا مثلها الرئيس الحالي شيمون بيريس، الموصوف بأنه مدمن "هزائم انتخابية" لكنه كان وما زال على الدوام قادرًا على التكيف مع هزائمه، فيخرج من باب ويدخل في باب آخر رغم سنه الكبير الذي بات يقارب نحو (85) عامًا قضاها صقرًا مستترًا في "إسرائيل" تحت جناح تيارات ما يسمى بـ "اليسار العمالي الصهيوني".
في هذا السياق، إن الحديث العجول الذي كررته معظم المصادر الفلسطينية الرسمية والفصائلية لعموم القوى والفصائل، والذي ربط بين نتائج ما جرى من عدوان على قطاع غزة وإعلان باراك عن تقاعده السياسي كلام مسلوق، وأَمر مُبالغٌ به، فحقيقة الأمر أن التداعيات السريعة لما بعد الحرب الأخيرة على قطاع غزة دفعته للاستعجال وسرعت من اتخاذ قراره الأخير، ولم تكن هي السبب الرئيس وراء قراره. وبالطبع فإن هذا الأمر لا يقلل من حجم تأثير الصمود الفلسطيني في معركة غزة الأخيرة، وقيام العديد من الأجنحة الفدائية وخاصة كتائب الشهيد عز الدين القسام وسرايا القدس باستهداف تل أبيب بالقصف الصاروخي.
صحيفة الوطن العمانية
تاريخ الخميس 6/12/2012
علي بدوان
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت