لقد اتسمت الحياة الإنسانية منذ فجر التاريخ بصراعات متعددة بين الخير والشر، في إطار سعيها الحثيث من أجل تحقيق القيم السامية المتمثلة في الأمن والأمان والاستقرار في إطار حالة من المساواة والعدل والتعاون بين مختلف المجتمعات وعلى صعيد الوضع الداخلي لكل مجتمع، مع الأخذ بالاعتبار ضرورات وقف أشكال التمييز بين إنسان وأخر أو ما يلحق إجحافا" بحقوق الإنسان التي نتحدث عنها اليوم بلغة أكثر وضوحا" وتحديدا".
إن التحولات التي جرت على صعيد البشرية في إطار سعيها الحثيث لتحقيق قيم الكرامة الإنسانية والعدالة، اصطدم بحالة من النزاعات المستمرة نتيجة تنوع مصادر الثروات واختلاف تواجدها على وجه البسيطة بين مكان وأخر ، ومن هنا كانت مصادر تلك الصراعات بين مختلف المجتمعات والقوى البشرية التي أدت إلى التحولات اللاحقة لحالة الانقسام والتنازع بين القبائل والشعوب المختلفة، وبروز حالة الاستغلال والقهر والتباين بينها،ودون غوص كبير في التاريخ فان الحقبة الاستعمارية واستغلال الشعوب والاستيلاء على ثروات البلدان الضعيفة والفقيرة كانت نتاج ممتد لطبيعة هذا الصراع المحتدم منذ فجر التاريخ لامتلاك مصادر الثروة والقوة بين مختلف المجتمعات البشرية.
وحيث أن تلك المجتمعات قامت على أساس المفهوم ألذكوري لطبيعة العلاقات الداخلية في تركيبتها الإنسانية، فان المرأة قد تعرضت للمعاناة والتهميش والاستغلال في مختلف الظروف التي مرت بها تلك المجتمعات ، ولقد زادت تلك الأوضاع القاسية والصعبة للمرأة في ظل وجود النزاعات والحروب المسلحة، حيث تعرضت المرأة لمزيد من الانتهاكات لحقوقها الأساسية باعتبارها الأكثر تعرضا" للنتائج المأساوية لتلك الصراعات والحروب .
إن تطور وسائل الأعلام والاتصال على الصعيد العالمي كشف الكثير مما تتعرض له المرأة نتيجة هذا الواقع الذي يصاحب تلك النزاعات والحروب المسلحة ، وساهم في الكشف عنها ، مما جعل الكثير من بلدان العالم ودولة تعمل على وقف تلك المعاناة للمرأة وفضح الأساليب المستخدمة ضدها، والانتهاكات المرتبطة بها.
لقد أصبح للتحول الدولي تجاه قضايا المرأة في القرن العشرين وفي العقد الأول من هذا القرن ، أهمية بالغة في العمل على تحسين أوضاع النساء والحفاظ على حقوقهن وحمايتهن في المجتمعات لاسيما في ظل النزاعات والحروب المسلحة،
حقوق المرأة والنزاعات المسلحة:
تعتبر حقوق المرأة بشكل عام جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان في المجتمع ، ولا يمكن الحديث عن حقوق الإنسان دون التأكيد على حقوق المرأة باعتبار ذلك جزء أساسي ومهم من معايير قياس تطبيق تلك الحقوق في المجتمعات من أجل تحقيق الكرامة والاحترام للمرأة وبناء حالة الاستقرار والسلم الاجتماعي،
أما في حالات الصراع والحروب المسلحة فان الاهتمام بأوضاع النساء أخذ يتزايد على الصعيد الدولي وقد تم ترجمة ذلك في مجموعة من القرارات الدولية الصادرة عن الهيئات الدولية المختلفة وفي مقدمتها مجلس الأمن الدولي لتعزيز حماية النساء وقت الحروب والنزاعات المسلحة.
إننا في هذه الورقة نحاول تسليط الضوء على أوضاع النساء أثناء النزاعات المسلحة وبعدها، وما تم طرحه من قبل المجتمع الدولي والقانون الدولي للتعامل مع مثل هذه الأوضاع ، لاسيما في ظل المتغيرات التي تؤكد أن الأمن الإنساني والدولي يرتبط ارتباطا" وثيقا" بحالة الاستقرار ولأمن لكافة الدول والشعوب على امتداد هذا العالم مع الاعتراف بحالة الاختلاف والتنوع لطبيعة هذه المجتمعات.
كما أنه لا يمكن أن نتحدث عن التطور والتقدم للمجتمعات دون دور للمرأة ينبع من احترام دورها وكرامتها وتمكينها في حالة السلم ، وحمايتها والحفاظ عليها في حالات السلم والحرب.
لقد أثير الكثير من الجدل حول قدرة القانون الدولي على منع استخدام العنف ضد النساء في فترة النزاعات والصراعات المسلحة وفي الفترة التي تلي تلك الحروب، باعتبار أن القانون الدولي لازال قاصرا" عن تحقيق تلك الحماية نتيجة استمرار قوالب التمييز ضد المرأة ،كما أنه يفتقر إلى الارتباط ببقية مكونات الشرائع والقوانين الدولية الخاصة بحقوق الإنسان ، كذلك فان القوانين الدولية الخاصة باستخدام العنف ضد المرأة تقف قاصرة عن متابعة أوضاع النساء بعد انتهاء فترة النزاع أو الصراع المسلح.
ونحن هنا في فلسطين نعتبر أن القانون الدولي لازال قاصرا" في حماية النساء من العنف المستخدم ضدهن في أثناء العدوان والحرب المسلحة وبعدها ،
وإذ لا يزال يعيش في الذاكرة ما حدث ويحدث للنساء الفلسطينيات في قطاع غزة في الحرب التي شنت عليه في أواخر العام 2008-2009 ، وما جرى من جرائم في الأسابيع الأخيرة على ضوء العدوان السافر الأخير على قطاع غزة.
العدوان البربري الإسرائيلي على قطاع غزة
لقد شنت إسرائيل عدوانها الهمجي على شعبنا في قطاع غزة قبل حوالي ثلاثة أسابيع ضاربة بعرض الحائط بكل القوانين والمواثيق الدولية التي تنص على حماية المدنيين وخاصة النساء والأطفال ، فخلال ثمانية أيام من العدوان على غزة قامت إسرائيل بقتل ما يزيد على (168 من الشهداء)من بينهم 42 طفلا"، 16 سيدة ، كما أصابت وجرحت 1250 مواطنا" غالبيتهم من النساء والأطفال ودمرت وأصابت ما يزيد على 1200 منزل ومؤسسة مدنية ، تم استهدافها بشكل متعمد ومباشر من خلال القصف الجوي ، مما أدى إلى استشهاد أسر بأكملها تحت أنقاض تلك المباني(مثل عائلة الدلو) وعائلات حجازي وأبو زور ، كما تم تدمير العديد من المنشآت الصناعية والتجارية ،كذلك العديد من المدارس والمساجد.
إن هذه الأوضاع قد تسببت بالكثير من المعاناة للنساء الفلسطينيات والانعكاسات النفسية والاجتماعية باعتبارهن أمهات وأخوات وزوجات الشهداء.
وفي هذا الاتجاه يبرز التقصير الحادث من قبل المجتمع الدولي والقانون الدولي في حماية النساء الفلسطينيات أثناء الحرب أو بعدها من خلال ملاحقة مرتكبي الجرائم أو متابعة أوضاع الأسر والنساء الفلسطينيات المتأثرات بوقائع ونتائج الحرب والعدوان.
إن القانون الدولي الذي يفرض عقوبات جزائية على الأشخاص الذين يقترفون أو يأمرون باقتراف تلك المخالفات والانتهاكات وبتقديمهم إلى محكمة الجنايات الدولية لا زال قاصرا" عن تحقيق ذلك في الحالة الفلسطينية ولازالت إسرائيل ومجرمي الحرب من قياداتها السياسية والعسكرية بعيدين عن ملاحقتهم من قبل محكمة الجنايات الدولية مما يدفعهم لممارسة مزيد من العدوانية والجرائم ضد شعبنا ، لاسيما ضد المرأة.
كما أن ما يجري في قطاع غزة من جرائم حرب ، يرتكب مثله على الحواجز في الضفة الغربية ضد النساء لا سيما المرضى والحوامل.
إن هذا الوضع يساهم في تشجيع الاحتلال وقواته على الاستمرار في ارتكاب أمثال تلك الجرائم وهذا باعتراف مقرري لأمم المتحدة الذين تناولوا الملف الخاص بمسألة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية وكذا لجان التحقيق ولجان تقصي الحقائق ن وكلهم خلصوا إلى أن إسرائيل وقواتها العسكرية ارتكبت ما يمثل جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية.
القانون الدولي وحماية النساء
إن مشكلة حماية النساء في القانون الدولي في فترة الحروب والنزاعات قد لا تكمن في ضعف القرارات الدولية الخاصة بهذا الشأن بقدر ما يكمن الضعف بقدرة المجتمع الدولي وهيئاته الأممية في تطبيق تلك القوانين والمواثيق الدولية على منتهكي تلك القوانين وهذا يتضح بشكل بارز في الحالة الفلسطينية في مواجهة مجرمي الحرب الإسرائيليين.
إن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وغياب حل عادل للقضية الفلسطينية يتسبب في معاناة متواصلة للنساء الفلسطينيات نتيجة للإجراءات القمعية المتواصلة التي تستهدف كل مكونات الشعب الفلسطيني وتبعات ذلك على المرأة الفلسطينية فهي تتعرض للمعاناة الأكبر في أي حرب تشن على الشعب الفلسطيني وفيما بعد انتهاء تلك الحرب.
إن واقع المعاناة الذي تكرسه الحرب على النساء والمعاناة التي يتعرضن لها لا تتوقف بانتهاء الحرب بل تترك بصماتها على المرأة طيلة حياتها .
إن النساء الفلسطينيات رغم كل ما يحدث ضدهن من عنف وعدم قدرة القانون الدولي على حمايتهن نتيجة عدم قدرة المجتمع الدولي وهيئاته على تطبيقه على الحالة الفلسطينية نتيجة الموقف الأمريكي المسا ند لإسرائيل التي تعامل كقوة فوق القانون ، لن يفقدن إيمانهن بأن القانون الدولي قادر على حماية حقوقهن في ظل الحروب والنزاعات المسلحة ، في حال تم إخضاع إسرائيل لهذه القوانين ، وإننا نعتقد أن المرحلة القادمة وبعد قبول فلسطين عضو مراقب في الأمم المتحدة، مما يتيح لنا الفرصة لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين في وقت قريب.
وفي هذا السياق فإننا نذكر هنا الجهود الكبيرة التي قامت بها اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي من أجل اعتماد اتفاقية جنيف الرابعة عام 1949، والخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب ، وهذا يشمل حماية النساء ، حيث تؤكد الاتفاقية على عدم استهداف النساء ، وعلى معاملة النساء الحوامل أو اللواتي في حالات الوضع، معاملة الجرحى والمرضى وتوفير أماكن إيواء آمنة وصحية لهن وإعطائهن الأولوية في الحصول على الغذاء والدواء والملابس وما إلى ذلك.
إن استمرار تعرض النساء لانتهاك حقوقهن والإيذاء الوحشي أثناء الحروب والنزاعات المسلحة يشكل حافزا" قويا" للعمل الجماعي بين كل النساء من أجل مواجهة هذا التغول على حقوقهن ، لاسيما التواصل مع الهيئات والمنظمات النسوية في مختلف الدول من أجل مواجهة هذا الواقع لاسيما وأن القرار الدولي الصادر عن مجلس الأمن وأمينه العام والذي يحمل رقم (1325) ، والقرار (1889) اللذان يختصان بحماية النساء أثناء الحروب والنزاعات المسلحة ، يمكن أن يشكلا للمرأة الفلسطينية عنوانا" لمواجهة عدوانية إسرائيل وانتهاكاتها للقوانين والمواثيق الدولية ، حيث يؤكد هذا القانون على مجموعة من العوامل والنقاط نذكر منها:
- حماية النساء وقت الحرب وإشراكها في صنع السلام.
- يؤكد البند الحادي عشر في القرار على محاكمة مجرمي الحرب الذين ارتكبوا مجازر ضد النساء. (وفي هذا السياق فأن ما قامت به إسرائيل من مجزرة بحق عائلة الدلو وغيرها من العائلات يشكل جريمة حرب يعاقب عليها القانون الدولي ويجب ملاحقة مجرميها)
- يتميز هذا القرار بأنه يتخطى حدود الجغرافيا وهذا يعطي فرصة للتشبيك مع المؤسسات العربية والدولية لفضح الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية بحق النساء الفلسطينيات ، وتشكيل قوى ضاغطة على الأمم المتحدة لإنفاذ قراراتها.
إننا كنساء فلسطينيات ونتيجة حالة الضعف الدولي في تطبيق القرار على حالتنا الفلسطينية، سنظل نستخدمه كإحدى الوسائل والآليات لتذكير الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بعجزهما ووضعهما أمام مسئولياتهما ، لاسيما في ضوء المعايير المزدوجة في عدم محاسبة إسرائيل الموقعة على هذا القرار والتي تنتهكه ليل نهار ، كما باقي القرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية . إن هذا القرار يعطينا القوة كنساء فلسطينيات للاشتباك مع سياسة الاحتلال وسياسة المعايير المزدوجة المتكررة بشأن قضيتنا ، عبر مخاطبة الأمين العام للأمم المتحدة وتذكيره بواجباته تجاه تطبيق هذا القرار وبقية القرارات التي تدعو لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
إن النساء الفلسطينيات مطالبات بالعمل لتفعيل هذا القرار الهام ضمن أدوات وآليات جديدة على الصعيدين الداخلي والدولي حيث يمكن تلخيص ذلك كما يلي:
الصعيد الداخلي:
- تشكيل ائتلاف نسوي فلسطيني يشمل كل مكونات العمل الفلسطيني، يضم في عضويته سياسيات وناشطات في الحقل المجتمعي وقانونيات ، يعمل على وضع خطة وطنية لتفعيل القرار 1325.
- توثيق الانتهاكات الإسرائيلية بعدة وسائل منها الدراسات والإحصائيات والأفلام الوثائقية والمعارض والصور وتسجيل شهادات حية من النساء.
- تفعيل الإعلام النسوي وتسليط الضوء على ما تتعرض له النساء وقت الحروب.
- الضغط باتجاه إشراك النساء في لجان المصالحة وفي إعادة الاعمار ، فتهميش النساء يؤخر ويحول دون تحقيق المصالحة الحقيقية ، لأن المرأة هي الأقدر على نشر ثقافة التسامح والحوار بعيدا" عن التعصب والانغلاق.
- تنظيم مؤتمرا ت وحملات للتعبير عن مواقف النساء الفلسطينيات وقلقهن من عدم تطبيق القوانين والقرارات الدولية الخاصة بحماية النساء.
الصعيد الدولي:
- فتح الباب للعمل المشترك مع كل التحالفات والشبكات النسوية العربية والإقليمية والدولية ، للنفاذ إلى هذه التحالفات وتفعيل دورها في مساندة القضية الفلسطينية.
- المطالبة بتشكيل لجان محاسبة ومراقبة بشأن تطبيق القرار في الأراضي الفلسطينية.
- الضغط على الأمم المتحدة بإلزام إسرائيل بناء كل ماتم هدمه نتيجة عدوانها المتواصل.
- الضغط على الأمم المتحدة عبر المدونات بأن عليها تجريم كل أشكال العنف ضد النساء والأطفال واعتبار هذه الانتهاكات جريمة حرب يجب معاقبة مرتكبيها.
- مطالبة الأمم المتحدة بالضغط على إسرائيل لرفع الحصار الظالم ووقف سياسة العقاب الجماعي.
- يجب مطالبة الأمم لمتحدة بتشكيل آلية دولية للرصد والإبلاغ عن الانتهاكات الخاصة بالقرار 1325.
وهكذا فإننا مما تقدم نستخلص بأن قضية المرأة وحماية حقوقها عموماً وحمايتها من الانتهاكات في النزاعات المسلحة على الرغم من القصور الذي يشوب ذلك بسبب استمرار تعرض المرأة للعنف ، إلا أنها أصبحت اليوم تتمتع باحترام متزايد باعتبارها إحدى المقومات الحساسة للقانون الدولي الإنساني والذي يشهد كل عام تطورا" في إعداد المبادئ التوجيهية لهذه القوانين، وبالرغم من أن الحقوق الأساسية للمرأة ما زالت في مرحلة التطور على المستوى العام وكذلك بالنسبة للمضمون ( التي تعد مسألة وقت )، نأمل أن يتم تجاوزها من خلال تقييم فعلي وتنفيذ فعال لقواعد ومبادئ القانون الدولي الإنساني وتعميقها لضمان حماية النساء عموماً، والحد من الانتهاكات الموجهة ضدها أثناء النزاعات المسلحة.
ونعتقد أن أحد العوامل الأساسية التي سوف تسهم في إنجاح وتفعيل القانون الدولي الإنساني، يكمن في أن يكون شاملاً للقيم الإنسانية، متبنياً لها، كي تتبنى الدول هذا القانون وتنصهر فيه سلوكيات كل من له علاقة في تطبيقه، سواء كان عسكريا" أو مدنيا" ، ويصبح عقيدة تلبي في غير تردد المتطلبات والأهداف الإنسانية المنشودة في حماية النساء والمجتمعات المدنية في وقت الحروب والنزاعات المسلحة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت