مع كل دقيقة تمضي تزداد معها معاناة الأسيرين أيمن الشراونة وسامر العيساوي ، هذان المحلقان في فضاء الحرية ، اللذان يجسدان بصبرهما وثباتهما علي حقهما أروع الأمثلة في الصمود والتحدي فتراهما يرسمان للتاريخ لوحة عز وفخار ، لوحة أدواتها تختلف عن سائر الأدوات وألوانها ليست كباقي الألوان ، لوحة ريشتها الأمعاء الخاوية وألوانها مستمدة من وحي الألم والعطش والجوع .
أكثر من خمسة أشهر وهما يتشبثان بالموت طلبا للحياة ، ينشدان للبقاء أنشودة الأمل المكبل بترانيم الفناء، ما يقرب من نصف العام لم يستوقفهما كلل ولا ملل ، فكيف لليأس أن يفتك بهما وهما من علمتهما الخطوب بأن للحرية معنى لا يجيد قراءته إلا من حُرم فهمه ، ولا يعشق مبتغاه إلا من ألف منتهاه ، كيف يتملكهما الوهن وهما أسرى اليقين بأن لانتشار الصبح إرهاصات مظلمة وأن لألم المخاض ما بعده من فرح وابتهاج ، فهذا هو ديدن الأطهار الأنقياء ، الأفذاذ الأتقياء ، لا تغادرهم فسحة الأمل في غمرة الأهوال مهما تعاظمت الأخطار وعلت الأسوار وطغى الظلام على مد الأبصار .
لعله من باب الترف ونحن نجلس في بحبوحة العيش وسعة النهار وكثير من التخمة أن نستمر في سرد فصول هذه الرواية الدامية ، ونقف عند محطات الموت المتربص بأبطالها منشغلين بالبحث عن أبلغ العبارات لنحيك لهم أفضل الخطابات وننتقي أرقى المفردات لنصوغ بحقهم أنجع البيانات ، ولعلنا نفعل كل ذلك وأكثر ولكن دون أن نجتث بصيص أمل مطلٍ من فوهة اللهب المنبعثة من جحيم مقبرة الغرباء هناك في سجن الرملة ، ودون أن تفلح تلك المفردات والبيانات في اقتلاع الوجع المتجذر بين السطور وكتابة المشهد الأخير في هذه الرواية المخضبة بعبق الأوفياء لدينهم ووطنهم وقضيتهم .
هنا تزداد الحاجة إلي الفعل بما هو أكثر من الكلمات ، فكل لحظة قادمة تحمل بين طياتها خطرا داهما ينتظر أيمن وسامر وتتضاءل معها فرص نجاتهما من نهاية مؤلمة قد لا تحمد عقباها ، وليكن في متناول علمنا بأن التاريخ لن يغفر انكفاءنا عن نصرتهم ، وعجزنا عن حمايتهم ، ففي عرف الأحرار ممنوع أن يسقط الفارس عن صهوة جواده وهو يذود عن كرامة أمتة وينتصر لكينونتها ، بل من البديهي أن يتأهب كل منا ليبحث عن مكان له على هامش هذه الملحمة الأسطورية ، فيعلي بعضنا الصرخات ويرفع الأصوات في وجه من مرغوا أنف الإنسانية وأثخنوا فيها الجراح ، ويتخلي آخرون عن بعض كبريائهم فينقضوا علي ذواتهم فيشرع جميعنا في سداد جزء يسير من استحقاقٍ ندين به لتلك النجوم التي طالما تلألأت لتنير لنا دروب الإنتصار ، لأولئك النفر الذين عبدوا لنا بصمودهم وكبريائهم جسرا نعبر به نحو الكرامة والحرية .
آن الأوان بأن يدرك العالم بأسره أن أسرانا هم تعبير صارخ لمنتهى كرامتنا وأنموذج فذٌ لكوكبة مشرقة من المناضلين الشرفاء المدافعين عن حقهم وحق شعبهم في الحرية والاستقلال وبأن تحريرهم سيبقى أمانة في أعناق كافة الأحرار من أبناء هذا الشعب الفلسطيني المعطاء كما أن قضيتهم يجدر بها أن تظل قبلة للساعين وراء تكريس قيم العدالة والسلام في أرجاء المعمورة ، شرقها وغربها ، شمالها وجنوبها إلي أن تتحقق أحلامهم في نيل حريتهم واسترداد كرامتهم .
وسيبقى شعبنا تواق إلي حياة تحفظ له هويته وتضمن له حقه في نيل استقلاله بسواعد أبنائه ، لن يثنيه عن ذلك قيد أو سجان ولن يفت من عضده قتل أو جدران .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت