شيء عن التزوير والمزورين

بقلم: أيوب عثمان


إن امتهان الباطل وركوب التزوير ليست إلا صفات مخزية تُجَرِّمها قوانين الأرض وتُحَرِّمها قوانين السماء، كما ترفضها الإنسانية ويرفضها أصحاب الطبائع السليمة منذ بدء الحياة، ذلك أن الباطل مهما كانت زخرفته وزينته، ومهما أعطيت أفضل الأوصاف له، فإنه يظل علامة سوداء بارزة على جبين فاعله وحالة نكوص وانكفاء وسقوط في دنياه، فالوصول إلى حالة السمو والنبل والعلا لا تتأتى بتسلق ماكر أو أحابيل ومراوغات وأراجيف والتواءات. إن الصعود إلى المناصب واعتلاء الكراسي بطرق مزورة وفاسدة ووسائل غير شرعية وغير قانونية ليس صعوداً بل إنه السقوط والانكفاء والانكسار والفشل، على اعتبار ما ينتهي إليه مثل هذا الصعود الذي كان التزوير والباطل والفساد رافعة له ومنطلقاً. وعليه، فإن هذا الذي قام بتزوير شهادة علمية ليعتلي منصباً يحسد عليه، مستلباً بذلك موقعاً في الأصل ليس له وإنما لغيره ممن هم أحق منه، أو ذاك الذي قام بتزوير شهادة خبرة ليحصل على بضع دريهمات زيادة عن حقه الطبيعي، مستلباً بذلك من مال مؤسسته ما ليس له حق فيه. إن أمثلة كهذه للتزوير والمزورين لا ينبغي لها أن تعطي للآخرين مسوغات لركوب مثل هذه الضلالة وهذا التضليل، بل إن على من يحبون الحق ويكرهون الباطل أن يكشفوا عورات المزورين وسوءات الضالين والمضلين والمضللين، وأن يحاربوهم ويستنكروا سلوكهم ليقوموا بذلك اعوجاجهم.

أليس من المستغرب المعيب والمستبشع أن يرفض ولي الأمر طلب متَّهم متظلم تنحية لجنة كلفت بالتحقيق معه فيما وجه إليه من اتهام ومخالفات؟! أليس مستشنعاً من ولي الأمر هذا أن يرفض طلب التنحية بالرغم من أنه مؤيد بوثائق فاصلة وأسانيد رسمية دامغة لا قبل لأي مكابر مهما بلغت مكابرته بمقاومتها، ولا محيص أمام ولي الأمر مهما عظم استكباره، ومهما بلغت للمتهم كراهيته، ومهما زاد بداعميه من ذات صنفه استقواؤه إلا أن يخفض الجناح ويطأطئ الرأس أمامها؟!

لقد كان غريباً ومعيباً مستشنعاً ومستبشعاً من ولي الأمر الذي شكل لجنة التحقيق مع المتهم، والذي وجه للمتهم الاتهام والمخالفات المنسوبة إليه، أن يرفض ما قدم المتهم من طعن أو طعون في اللجنة بكاملها أو بعض أعضائها، مؤيداً طعنه أو طعونه- بغية رد اللجنة وتنحيتها- بأسأنيد رسمية موثقة صدر بعضها عن جهات رسمية تختص بقطاع التعليم فيما صدر بعضها الآخر عن جهات رسمية حكومية تختص بقطاع العدالة والمحاكم والقضاء!

أليست- أيها الناس- أحجية أن يفقأ مسؤول رفيع ( إن كان فيه بعض عقل وبعض اتزان) عينيه بيديه؟! أليس عجيباً أن يقبل مسؤول رفيع (إن كان عاقلاً ومتزناً كما ينبغي له أن يكون) التعمية على شواهد تزوير واضحة وفاضحة لا قبل له بالدفاع عنها وإثبات عكسها لمجرد أن من قدمها وأبرزها، مدافعاً عن طلبه تنحية اللجنة أو بعض أعضائها، هو ذلك المتهم العنيد الذي يعاديه ويقف ضده ذلك الذي يساند ولي الأمر هذا، وكأن ولي الأمر واثق تماماً من أن عداء داعمه للمتهم ومساندة صاحب الباطل له كفيل بأن يطرح المتهم أرضاً مهما بلغ حقه من الوضوح والبيان والظهور فيسقطه ويسقط الحق الذي معه فيكسره ويكسر شوكته؟!

لو كنت ولي الأمر لما ترددت لحظة واحدة في الموافقة على طلب المتهم رد لجنة التحقيق وتنحيتها... لو كنت ولي الأمر لرددت اللجنة بكاملها أو نحيت على الأقل بعض أعضائها، لا سيما حينما تخرس لساني وتفقأ بصري صدمة تحدثها في كياني وثيقة صادرة عن جهة رسمية في مؤسسة تعليمية مفادها "أن بعض أعضاء لجنة التحقيق منعدم الحيادية والنزاهة والشفافية"، ووثيقة أخرى صادرة عن جهة قضائية لا يرد حكمها ولا يطعن فيه ولا يستأنف عليه. إنها محكمة العدل العليا التي وصفت أحد أعضاء هذه اللجنة الذي طالب المتهم بردها وأصر على تنحية بعض أعضائها بأنه مزور حين قالت في حيثيات حكم لها بأنه (أي العضو المطلوب تنحيته) قام "بتغيير كلي في محاضر التحقيق بخط يد مقرر اللجنة (الذي هو أحد أعضاء لجنة التحقيق مع المتهم الطاعن في هذا العضو) والموقعة من كل أعضاء اللجنة والمستدعي وممثل نقابة العاملين ووضعت بدلاً منها نسخة أخرى مطبوعة بحيث جاءت الأخيرة مختلفة تماماً عن المحاضر السابقة (النسخة الأصلية) وقامت بتقديمه لمجلس الجامعة وبناءً على ذلك أصدر مجلس الجامعة قراره بالتصديق على توصيات هذه اللجنة مما يعكس عدم نزاهة اللجنة وحيادها ورغبتها في إدانة المستدعي بأي طريقة مما يجعل عمل هذه اللجنة يشوبه البطلان لا سيما وإن مقرر اللجنة أيضاً (هو نفسه عضو لجنة التحقيق الذي طالب المتهم برده وتنحيته وهو ما رفضه ولي الأمر!!!).

حقاً، لو كنت ولي الأمر لما قبلت أن يكون التزوير وحماية التزوير والمزورين عنواني، ذلك أن المرء- لا سيما إذا كان مسؤولاً رفيعاً كالذي بين يدي- إذا وضع على التزوير غطاءً فشكل بغطائه للمزورين حماية كان هو ليس فحسب مثلهم مزورا،ً وإنما يكون أيضاً للتزوير مؤئلاً ومرتعاً ومقاماً وللمزورين سيداً وحامياً ومدافعاً وإماماً.

وبعد: فإنني إذ أعبر عن حيرتي لعدم قدرتي على الإجابة عن سؤالي المركزي حول الأسباب التي دعت ودفعت ولي الأمر الذي أعنيه إلى مناصرة التزوير واحتضانه وعدم فضحه والكشف عن صاحبه الذي يعرفه ويعرف عنه، لأراني تتزاحم عليَّ وفي داخلي أسئلة سأظل أطالب ولي الأمر النقي الورع التقي، كما أطالب المثقفين وأساتذة الجامعات والأكاديميين، بالتفكير ملياً فيها بغية الإجابة عنها ليس بالقول فحسب، وإنما بالعمل أيضاً:
(1) أيؤتمن المزور على منصب رفيع يسند إليه وتوكل إليه تصريف أموره؟!
(2) ألا نرتكب إثما إن ألقينا بمقدرات الناس في يد مزور فنُمَلِّكُه مساحة واسعة من القرارات والأحكام والإجراءات؟!
(3) هل من أيِّ خير يرتجى من مزور وهل من شرٍّ يؤتمن منه؟!
(4) وماذا عن مسؤول يضع في موقع المسؤولية والإدارة والريادة والرئاسة مزوراً وهو يعلم أنه مزور؟! وما هو حكم السماء فيه وحكم الأرض؟!

أما آخر الكلام، فلأن التزوير هو أعظم الفساد ومن أكبر عوامل التخلف والإفساد، فكيف بنا نقبل المزورين ونبرر لهم ثم إلى الأعالي نرفعهم وفي أحوالنا ومقدراتنا ومؤسساتنا نمنكهم؟! وكيف نقبل شهادات ومراتب ودرجات حمَّالوها من الناس جهالهم وأنصاف مثقفيهم؟! وكيف نعلي شأن مزور فنرفع قدره ونسلمه صولجان الضبط والحكم والقيادة في ذات اليوم والساعة التي كانت لجنة التحقيق معه على عتبة حكمه تطرق بابه فاندهشت لرؤيته حاكماً وقاضياً بعد أن كان سيكون مقضياً عليه ومحكوماً؟! كيف نتقبل اليوم ما كنا ومن كنا بالأمس نرفضه؟! كيف صرنا نقبل اليوم بهدوء مريب ما كنا بالأمس القريب نرفضه بعناد عجيب وإباء غريب؟! وكيف نقبل مزوراً امتطى صهوة جواد التزوير ليضرب بقدميه الراسختين في وساخات السرقة وأوحال التزوير عقول النابهين من الطلبة والدارسين والعلماء والخبراء والأدباء والمثقفين؟!

بقلم: الدكتور/أيوب عثمان
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جامعة الأزهر بغزة

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت