سلفيت – وكالة قدس نت للأنباء
لم يكن يعلم أن عام 2012 سينتهي من نسج خيوط كفنه في آخر دقائق له قبل رحيله...ليرحل هو ... هي لحظة فارقة, عندما تسلق آخر عمود كهرباء في بلدته ليضع علم فلسطين عاليا وهو في قمة سعادته.. ليأتيه القدر ولم يسعفه... فكانت لحظة أخرى... لفظ فيها أنفاسه، وأغمض عينيه، وتوقف قلبه عن النبض، وتوقف جسده عن الحركة، لتفارقه الروح إلى باريها..لتكون اللحظة الأخيرة... فتوافيه المنية مودعا هذه الدنيا وراحلا دون رجوع... ليدخل معه أبا وأما واخوة وخطيبة وأصدقاء في متاهات من الألم والحسرة والدموع والأحلام المجهضة.
الشاب عبدالله علي ريان ، البالغ من العمر( 18 ربيعا) ، من بلدة قراوة بني حسان غرب سلفيت ودع أمه في الدقائق الأخيرة من العام المنصرم ، الوداع الأخير ليبقى حي يسكن في قلوب ووجدان أهله ومحبيه .
فلم تمهل الحياة عبدالله طويلا حتى يكمل أحلامه، لأن قدر الله أراد له ذلك، فكان على موعده الذي كتبه الله له عند الساعة الحادية عشرة ليلا بتاريخ 31/12/2012اي في الدقائق الأخيرة من العام الماضي ليتقبل أهله خبر وفاته بصبر المؤمنين وبالإيمان بقضاء الله وقدره، وأن الموت هي نهاية كل إنسان , لتكون بداية حديثنا مع والده الذي أجمع كل قواه محاولا إخفاء حزنه، ولكن نبرة صوته خانته ليحدثنا قائلا":لم آراه يوم وفاته , كنت طوال النهاربالعمل، وعند عودتي الى البيت بعد العصر لم يكن عبدالله موجودا بالبيت، فسألت أمه عنه أخبرتني أنه كان في سلفيت لأداء إختبار التؤوريا (امتحان السياقة النظري), ومن ثم خرج من أجل رؤية أصحابه والذهاب الى المسجد لأداء صلاة المغرب".
ويواصل بحسرة فقدان الأب لمهجة القلب قائلا":أخذت قسطا من الراحة بعد يوم عمل طويل ولكن إحساس غريب في داخلي يراودني ولم أفهمه وبقي جسدي يتقلب وعقلي مشتتا، الى أن سمعت صوته في البيت جاء لأخذ سترته، وكانت والدته في إستقباله, ثم خرج من المنزل وقال سأعود عند الإنتهاء من عملي", تنهد والد عبد الله بحرقة شعرنا بلهيبها المحرق , صمت وأغرورقت عيناه, ولم يقدر على مواصلة حديثه لنا ، ليعود بعد دقائق ليقول": ليتني رأيته وأحتضنته, ولكن يبقى وجه الله الدائم وهو الذي أعطى وهو الذي أخد, وان شاء الله يتغمده برحمته ويحتسبه شهيدا لأن وفاته كانت أثناء تأدية واجبه للوطن ".
ثم اجهش بالبكاء..
يواصل الحديث عن والده أحد إخوانه قائلا":كان عبد الله محبوبا بالعائلة , كان هادي وجهه بشوش لا يعرف الزعل ولا يغضب أحدا فينا،متدين لدرجة انه أدى فريضة العمرة، يحب الجميع وأكثر حبا لوطنه فلسطين يحب العمل الوطني , ففي تلك الليلة خرج مع أصدقاءه لتعليق "الاعلام والرايات" إحتفالا بذكرى الإنطلاقة و كنت أتابع ما يقوم به هو وأصدقاءه عن بعد، وعند الإنتهاء من تعليقها على كافة الأعمدة الموجودة في البلدة بقي معه علما واحد , فقلنا له إجعله لك ، لكنه رفض، الا أن يعلقه على قمة عمود الكهرباء المقام مقابل مستوطنات الاحتلال أول البلدة , وقام بتعليقه وأثناء نزوله كان القدر له، فصعقته الكهرباء وسقط على الأرض دون حراك".وضع يده على خده وكان الصمت عنوانه.
إلتقينا بأعز أصدقاء عبد الله، ومن كان معه لحظة وقوع الحادثة محمد، وردا على سؤالنا له عن أخر لحظاته ؟ اجاب قائلا": كان عبد الله من أعز أصدقائي وأثناء وجودنا معا في تعليق الأعلام واليافطات كان يقول لي لازم تدرس عشان تنجح لأنني في المرحلة الثانوية , كان شابا خلوقا وملتزما والكل يحبه, ولم يحدث بيننا ولا بين أبناء جيله أي مشكلة, ويواصل بنبرة صوته الحزينة "قلت له لا تتسلق كثيرا على العمود أترك العلم لك ولكنه أصر على رفعه في أعلى منطقة من العمود، فجأة إشتعلت النار أعلى العمود، واذا به يسقط على كومة صخور على الارض، فأخذنا نركض نحوه وحملناه ووضعناه على الإسفلت وهو ينزف دما فأحتضنته ولم أعرف كيف ستكون حياتي من بعده " أجهش بالبكاء ولم يعد بمقدوره مواصلة حديثه.
خيم الظلام على البلدة فصعدت روحه..
بفقدانه أصبحت حرقة بالقلب ونار تشتعل بالصدر، حطبها الحزن وحر نارها الدمع وإشتعالها كلما مر وقت ولم تجده فيه بجانبها ,هذا حال والدته , ألتقينا بها فأستقبلتنا بصبرها وأخذت تحدثنا قائلة":الله يصبرني على فراق عبد الله , ويرحمه برحمته" , صمتت وعادت لمواصلة حديثها ":كان خاطبا وكنا ننوي تزويجه في شهر 7 خلال هذا العام ,وبيته شبه جاهزا ولكن القدر حرمنا من الفرحة فيه,لدي 7 ابناء وهو أحبهم على قلبي كان شابا خلوقا,خرج من المدرسة لأنه يهوى العمل في الشايش ويتقن عمله , ولم أتخيل أن الموت سيغيبه عني سريعا.
وعن آخر أيامه تحدثنا والدته قائلة ": كان عبد الله يقضي يومه في ساعات النهار في عمله وفي المساء مع أصحابه, ولكن خلال أسبوع كنت أستغرب من قضاء وقته معنا كثيرا وكأنه كان يودعنا , أخذت كلماتها بالتبعثر فغلبت عليها الدموع وتوقفت لحظات لتستجمع قواها فجففت دموعها ثم أكملت ":ففي يوم الحادثة رجع الى البيت من سلفيت بعد تأديته اختبار التؤوريا ومع أنه لم ينجح ولكن قالها لي بطريقة إنبساط وان الله سيكتب له النجاح المرة المقبلة, وبعد أذان العصر طلب مني أن أعمل له سندويش وجلس في ساحة البيت يأكلها, ولكن قال لي أنه يشعر بالمرض، وأنه يشعر بحرارة في جسده , وبحسرة لوعه الفراق تكمل ":وبعد الإنتهاء من تناول الطعام , قال لي سأخرج عند أصحابي لأن الليلة لدينا عمل سنقوم به , وبعد صلاة المغرب رجع الى البيت من أجل أخذ جاكيته ولفحته لأنه يشعر بالبرد , وودعني وطلب مني الدعاء له " أجهشت بالبكاء وأخذت الدموع تنهمر بغزارة , وأخذت تردد كلمات عجزنا عن فهمها, الى أن علي صوتها فكان الدعاء له بالرضا".
عادت لمواصلة حديثها": في تمام الساعة العاشرة والنصف مساء قمت بتحضير العشاء له وتحضير سريره خوفا من أن يغلبني النوم، ولكنني لم أعرف النوم أنا ووالده وبقينا يقظين , مع أننا ننام بوقت مبكر , وفجأة إنفصلت الكهرباء عن البلدة جميعها، فصرخت بدون شعور عبد الله حدث له مكروها،فخرج زوجي مسرعا الى الشارع , وأنا لم أعرف الجلوس , وقلبي كان يكتوي بالنار, الى أن جاء الخبر , عبد الله في حالة حرجة نتيجة تعرضه لصعقة كهربائية وتم نقله الى مشفى الشهيد درويش نزال في قلقيلية, دقائق ليأتي خبر وفاته ".
هدوء وصمت يخيم على المكان حتى دموعها كانت تسيل بصمت، وبتنهيده حارقة كسرت الصمت لتواصل قائلة":البارحة قام والد عبد الله من نومه وهو يصرخ "لا تخاف يا عبد الله أماني سنأخذ بالنا منها، ولما إستيقظ جيدا، أخذ يحدثنا ما رأه في منامه ، فرأى عبد الله يوصيه على أماني، "صمتت مرة أخرى وأجهشت بالبكاء لنكسره بعد دقائق بسؤالنا من هي "أماني" لتجيبنا قائلة":إنها خطيبة عبد الله " حاولنا أن نلتقي بها ولكننا لم نستطع لأنها تعاني من صدمة على فراق خطيبها عبدالله ، تركنا عائلة عبد الله ريان ونحن ندعو الله بأن ينزل السكينة على كل مصاب وألهم الصبر لمن أبتلي بفقد الأحباب , وأجعلنا اللهم ممن يصبر على القضاء ويرضى بالبلاء.
تقرير:عهود الخفش