متى يا فتح ربيعك ... ؟!

بقلم: عبد الحليم أبوحجاج

احتفلت فتح بذكرى انطلاقتها الثامنة والأربعين في ساحة السرايا بعد أن رفضت ضُرَّتها السماح لها بإقامة الاحتفال بساحة الكتيبة التي اكتشفنا مؤخرًا أنها(مُطَوَّبَة!) باسم حماس. فتعطَّفت عليها حماس وأَذِنت لها بإقامة احتفالها على أرض السرايا التي هي الأخرى مملوكة لها بوضع اليد .... وقبِلت فتح تلك المِنَّة. وانطلقت بعض الألسنة الفتحاوية الرسمية ؛ أصحابها أعضاء لجنة مركزية وثورية؛ تلهج بالشكر والامتنان لحماس على تفضُّلها " بالإذن " والاستجابة لهذا الموقف الإنساني. فأشعرونا – الله لا يسامحهم– أننا نعيش في ليبيا أو في فنزويلا أو البرازيل، لا على أرض ذات هوية فلسطينية. وقد نجد لحماس مبررًا- غير معقول ولا مقبول- على هذا التكبُّر والاستعلاء، فهي ذات الشوْكَة وذات القوة التي تحكم وتتحكم في مقدرات قطاع غزة, وهي التي بيدها تحديد مكان الاحتفال وزمانه باليوم والساعة, وهي التي تشرف على الأمن والهدوء، وتراقب الأحداث من خلف الطوق الأول الذي يشرف عليه شباب من فتح بالإدارة والنظام العام. وقد نجد لفتح أيضا مبرراً–مقبولاً– على هذا الذل والانكسار، ذلك لأنها الأضعف بعد أن وَلَّت هاربة، تاركة وراءها قطاع غزة معتقَلاً مُحاصَراً من الجهات الست، غارقاً في بحر الظلم والظلمات.

ولكن، هناك- في رأيي- مبرر أعظم وأقوى على إصرار حماس على الرفض, وإلحاح فتح على القبول، وهو ما يسمى (بكيد النساء) بين الضرائر. لأن فتح تريد نفس المكان الذي أقامت فيه حماس احتفالاتها، وفيه أظهرت للعيَان حجم الأنصار والمؤيدين لها والكارهين لضرتها، فاختالت وتفاخرت ونفخت المباهاة في صدرها هواء ملوثاً حين أسرفت في تفاؤلها، وزُيَّن لها بأن مستقبل الانتخابات القادمة لها. من هنا كان إلحاح فتح على إقامة احتفالها في نفس المكان لتُري ضُرَّتها حماس، ويراها العالم أنها الأكثر عدداً. وتريد بهذا أن تبرهن أن المليونية الفتحاوية تنطق بالصوت والصورة مدى محبة الناس وتعاظم التأييد لها بما ينبئ به المستقبل: أن الفوز في انتخابات قادمة سيكون لصالح فتح، وهذا ما تخشاه حماس أن تهتز معادلتها، وهذا ما كانت تريده وتسعى إليه فتح لتحطيم المعادلة القائمة الآن. وليسمح لي القارئ الكريم أن أبسط بين يديه جملة من القول في مسألتين، الأولى: كانت أيادينا على قلوبنا خوفاً من أن يحدث خلال الاحتفال ما يفسد فرحة الجماهير المقهورة بسيف الحصار وساطور الانقسام، تلك الجماهير المغلوب على أمرها بما تعيشه من هموم وأوجاع سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية.إذ وجدت في هذا الاحتفال متنزها يتنفس فيه الصغار والكبار معاً، ومجالاً حيوياً للتنفيس عن آراء مكبوتة، مشفوعة بالأماني والأحلام الوردية لعودة الوئام جراء الخطوة التصالحية بين جناحي الوطن .وكان الخوف كل الخوف من أن يندس الشراذم من هنا أو من هناك فيُخرِّبُون ويُفسِدُون ما يسعى في إصلاحه العطَّارون ، فتنقلب الأفراح إلى أحزان . والحقيقة - وهو رأيي الشخصي - أن الهاجس الأكبر هو خوفي من أن يكون تخريب عرس فتح بأيدي بعض الفتحاوية ممن شقوا عصا الطاعة وادعوا الولاء لشخص فلان أو علان. وقد يكون لأولئك دعواهم ومبرراتهم الخاصة لهذا العصيان والتمرد على القيادة الحالية, ولكنَّ الرجولة أن يكون التغيير من الداخل بالبديل الأنظف والأفضل لا بتخريب الاحتفالات بإشاعة الفوضى ونشر حالة مُخزية من الشغَب الهمجي، حيث امتدت الأيدي الملوثة واختطفت أزاهير الفرحة من على الوجوه المستبشرة بخير الوفاق والاتفاق. ويا أسفاه على شعب يحمل أعباء قضية عادلة وله كل هذا الرصيد النضالي العريق أن يراه العالم عبر شاشات التلفاز يمارس مهنة التخريب بهذه الفوضوية الفاضحة !.

لقد كنت مطمئناً أو شبه مطمئن أن الحمساوية لا يفعلونها لأنهم أكثر انضباطاً من غيرهم, ولو كانوا سيفعلونها ما كانت قيادة حركتهم قد قبِلت بإقامة الاحتفال بغزة، وما كانت لتأذن لبعض قيادات فتح أن تأتي من الضفة وتشارك أهل غزة بهذا العرس الوطني. وكانت النتيجة أن انتهى الاحتفال مبكراً جداً حرصاً على أرواح الناس بسبب الإخلال بالنظام العام ولانعدام السيطرة. فلماذا أخزيتمونا يا هؤلاء أمام الأشقاء والأصدقاء والأعداء ؟!. لماذا صادرتم طائر الأمل الذي يتهيَّأ للطيران؟. لماذا وفتح هي الكبيرة, العظيمة, رائدة العمل النضالي, وهي طليعة الفصائل السبَّاقة في تفجير الثورة الفلسطينية, وهي كذلك صانعة الأبطال الأوائل الذين حملوا راية العاصفة مرفوعة على سواري من البنادق، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر. وحين شاخ المنتظرون، اعترف قليلهم بشيخوختة وآثر أن يفسح المجال للأجيال الشابة لتضطلع بأدوارها الوطنية. أما كثيرهم فلم يعترف باعتلال صحته الذهنية وبعجزه الحركي، وأخذ يتصابى رغم إغراقه في الشيخوخة والخَرَف، فتراه يتوه وهو في طريقه من حجرة نومه إلى الحمَّام، فزيَّن له تصابيه أنه لن يموت بعد أن بلغ الثمانين التي أحوجت سمعه إلى ترجمان، وبصره إلى دليل، وذاكرته إلى مُنَبِّه، ومفاصله إلى تشحيم، وحركته إلى مَقُود، وقد حفَّ نفسه بجماعة من الأطباء والمسعفين. ومع هذا تراه أشد استمساكاً بالكرسي، وإنه ليعز عليه مفارقته وتركه لأحد أبنائه ؛ بل لأحد أحفاده. ويبدو أن فتح بعد ياسر عرفات قد توقفت عن إنجاب الشجعان الذين كانوا يُولَدون وبأيديهم بنادقهم مصوبة نحو العدو المحتل، وفي قلوبهم إيمانهم بحق العودة شعلة متوهجة لا تخبو ولا تنطفئ, ماضين في طريق الكفاح المسلح من أجل التحرير، يحرصون على الشهادة كحرص غيرهم على الحياة... وخرجت الثورة من الأردن ثم من لبنان بعد أن تكالبت عليها قوى الشر والطغيان، وتفرَّقت بكتائبها السبل وتباعدت بها الديار، وابتعدت فلسطين عن مرمى بنادق الفدائيين، فابتعدت عن القلب ... وكانت أوسلو حين سكتت البنادق عن لغة الرصاص، وحين تعطَّلت مصانع الرجال عن إنجاب الأبطال، وحين حلَّت محلها فقَّاسات الديوك، فتضخَّمت فتح وأُصيبت بالتخمة ... إلى أن حَلَّ الانقسام البغيض، وتُرك قطاع غزة يغلي على نار هادئة بلا قيادة ، لأن القيادة – بما فيها الرئاسة - التي كانت في غزة جبنت من مواجهة النار، فنأت بنفسها وآثرت الفرار إلى رام الله الحبيبة حيث مزارع تسمين العجول. وظلت فتح فكرة وذكرى في عقول شبابها تنتظر قيادات شابة تتعهدها بالإصلاح وتجدِّد خلاياها, وعندما نقول شباب فتح, فإننا لا نعني بهم أولئك الأبناء الذين تجاوزوا الآن سن الخمسين إلى الستين من أعمارهم ،بل نقصد أحفادهم الذين وصلوا سن الأربعين. فلا نفاجأ من تشخيص الحالة المَرَضِيَّة لفتح عندما نعلم أنها مصابة بمرض تصلب الشرايين وجمود الدم المتخثر في أوردتها. ومع هذا يمكن علاجها وشفاؤها من أمراضها إذا هي قامت بعملية جراحية لاستئصال الأورام السرطانية فيها, وإقصاء عواجيزها الكهنة الذين تخطوا الثمانين، وإبعاد أمرائها ولورداتها وجنرالاتها المتكرشين الذين لا يحسنون صنعاً إلا صبغ أشعارهم وشد وجوههم وتجميل قوامهم بلا استحياء، وإنهم ليخشوْن على أنفسهم من مسدس بلاستيك يلعب به الأطفال أيام العيد لعبة (عرب ويهود) .

المسألة الثانية: هل يمكن أن تستعيد فتح قوتها وعافيتها، وتعيد للعاصفة بندقيتها وهيبتها. نعم، يمكن أن تستعيد فتح عافيتها وقوتها وهيبتها إذا هي قامت بثورة تصحيحية وانتزعت المناصب من يد عباس وأزاحت سائر الكُهَّان والمشعوذين. نعم ، يمكن أن تستعيد فتح فتوتها وقوتها إذا هي ضخت دماء ساخنة في شرايينها وأوردتها وأشركت الشباب الواعد في حمل المسئولية- بلا تداخل وبلا ازدواجية بين السلطة والمنظمة-بدلاً من هذا الجيل الحالي المترهل المتكرش الذي يخرج علينا عواجيزه بوجوه قد علتها مساحيق الحنوط ؛ فبدا أصحابها مومياء محنطين, أؤلئك الذين هم على أرائك الحكم يجلسون، والذين هم ما زالوا على مقدرات الشعب الفلسطيني قابضون، والذين هم على قيادة السلطة والمنظمة يسيطرون بازدواجية مقيتة دون الفصل بينهما ودون تفريق في تولي المناصب. فرئيس السلطة هو رئيس فتح وهو أيضاً رئيس المنظمة وهو أيضاً صاحب النفوذ على المجلسيْن وهو أيضاً صاحب صندوق المال والمسئول عن الإعمار. أما عضو المركزية هنا فهو عضو المركزي هناك وهو عضو التنفيذية وهو عضو البرلمان وهو عضو مجلس اللوردات وهو الوزير وهو السفير وهو المستشار وهو الجنرال.
ستنهض فتح من كبوتها حين يقوم شبابها بعملية التطهير لاستئصال الفاسدين فيها والمفسدين, وتنظيف مؤسساتها من أولئك الكهنة وأعقاب الرجال. ستنهض فتح من سقطتها إن هي قامت بتقوية الجهاز المناعي في جسمها المترنح, وذلك لن يكون إلا بإعادة هيكلة مؤسسات السلطة والمنظمة معاً, وتشكيل أجهزة الأمن المنوط بها توفير الأمن والاستقرار للشعب الفلسطيني, لا أجهزة تشبه الأمن" الوبائي" الذي كان شغله الشاغل حماية أمن إسرائيل والتسلط على رقاب الناس وقطع أرزاقهم واعتقالهم وإذلالهم بسبب وبدون سبب، وما كان لهم أن يخرجوا من الأقبية المظلمة الظالمة إلى الشمس إلا بدفع الإتاوات للباب العالي أو لمن كان له حظ وحظوة لدى الباب العالي. ستنهض فتح من عثرتها إن هي عدَّلت قانون الانتخابات ودفعت بوجوه نظيفة من الجيل الواعد. ولنا فيمن تنتقي حماس من كِنانتها أغلى وأرقى ما لديها من الرجال , القدوة الحسنة .إذ لا مقارنة بينهم وبين من دفعت بهم فتح من الشخصيات البالية الممسوخة التي أسقطها الناس في انتخابات سنة 2006 لتكرارهم ولعدم القناعة بهم، مما أدى إلى فوز حماس وخسارة المنافسين لها. والغريب العجيب أن الرئيس عباس يكرر تحدِّيه لرغبات الشعب بتعيين المتساقطين منهم وزراء وسفراء ومستشارين وأعضاء لجنة تنفيذية ومجلس وطني ومجلس مركزي ولجنة مركزية ورؤساء أجهزة أمنية، وتقليد بعضهم أرفع المناصب في الدولة حتى يضمن ولاءهم له يوم يأتي الكرب العظيم، وهم يدركون أن بقاءهم مرتبط بوجوده. وقد نسي ونسوا جميعاً أن لا عاصم لأحد منهم يوم تتفجَّر الأرض من تحتهم براكين ويعمّ الطوفان. ستنهض فتح من رَقْدَتها إن هي عادت إلى منهجها المقاوم بأن تسلك الطريقين معا : الكفاح المسلح والنضال الدبلوماسي والسياسي .فلا تُسقِط البندقية من يدها , ولا تُسقِط غصن الزيتون من اليد الأخرى, وأقول غصن الزيتون لا راية الاستسلام والتسول.ستنهض فتح من نوْمتها إن هي طهَّرت سفارات فلسطين الذين انصرف كثير من موظفيها الكبار عن العمل الوطني، وتوجهوا إلى إقامة المشروعات التجارية من أجل جمع المال لحسابهم الخاص في تلك البلاد التي يقيمون فيها، ولهم في بعض الوزراء والمستشارين السماسرة القدوة السيئة. والله لا تنهض فتح ولا المنظمة ولا السلطة مادام فيها الانقساميون الكذَّابون المتاجرون المهربون السارقون النهَّابون الكوَّاشون الهبَّاشون النبَّاشون الكبَّاشون والمفاوضون الخبَّاصون. فمتى يا فتح يزولون ؟.عسى أن يكون قريباً !.

أيها الفتحاَّويون الأماجد، يا أحفاد ياسر عرفات: أسرعوا ولا تتباطأوا، فإننا ننتظر منكم ثورة عارمة, ولتكن ثورة على كل شيء قائم : ثورة على الفساد والمحسوبية. ثورة على الاستسلام والتخاذل والتفريط. ثورة على أصحاب دعوة العرب المسلمين لزيارة القدس المحتلة بدخولها من النوافذ ومن فوق الأسوار للصلاة في مسجدها الأقصى الشريف تحت حراب جيش الاحتلال الصهيوني. ثورة على طاولة المفاوضات بتحطيمها على رءوس من يسمون كبار المفاوضين. ثورة على أعجاز الشعب الخاوية التي انتهت مدة صلاحيتها منذ زمن بعيد. ثورة على استخدام هذا الكم الضخم من الأقرباء والأنسباء والأصدقاء، وتعيينهم مستشارين ووكلاء وزارات ومدراء عامين؛ قفزة واحدة بلا كفاءة وبلا حق يستحقونه إلا الوساطة التي توغر صدور العاطلين عن العمل حقداً على السيد الرئيس وعلى حكومته، وبالتالي حقداً على فتح. ثورة على الرتب الرفيعة التي تُعطى للعسكريين والمدنيين، وعلى رتب أزواجهم سيدات البيوت ورتب أبنائهم وبناتهم طلاب المدارس ذوي الرواتب الضخمة التي تستنزف من خزينة الدولة المال الكثير على حساب بطالة الخريجين من الجامعات الباحثين عن أي عمل مهما كان متواضعاً – ولو كان بِحَمْل المكانس يجوبون بها الطرقات- فلا يجدونه. ثورة على الظلم الاجتماعي؛ بإقامة العدل في الحكم والعدالة في توزيع الوظائف والأرزاق؛ وبانتزاع الحقوق من مغتصبيها وردِّها إلى أصحابها ومستحقيها. ثورة لمحاكمة أصحاب الثراء الفاحش بمساءلتهم: من أين لك هذا، وإعادة المال المسروق إلى خزينة الدولة. وباختصار، فالشعب يريد - وهو ينتظر- منكم ربيعاً فلسطينياً يجتث كهنة آمون المتهالكين على لعبة التفاوض والاستسلام، المتصالحين مع الأعداء، الداعين للمقاومة السلمية؛ ربيعاً يعيد لكلمة التحرير معناها الجهادي. فهل ندرك ونتدارك المأساة التي نضيفها إلى مآسينا قبل أن يبتلع التهويد والمستوطنات الصهيونية أراضينا في الضفة والقدس، ويُضطر أهلونا هناك إلى النزوح منها حين تضيق الأرض بهم ؟. فمتى يا فتح ربيعك ؟! .وهل يطول انتظارنا ...؟!.*

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت